حريق إسطنبول: بين المدني والعسكري في انقلاب تركيا 1980
لطالما كان الجيش حاضرًا في المشهد السياسي التركي، وفي مناسبات ليست بالقليلة فرض نفسه على قمة هرم السلطة، أربعة انقلابات ناجحة (1960، 1971، 1980، 1997) وانقلاب فاشل قبل عامين. يثير هذا التواجد سؤالًا ملحًا، عن طبيعة الجيش والعلاقة بينه وبين الحياة المدنية والسياسية، ما الذي يجعل جيشًا يفكر في الانقلاب على السلطة المدنية بينما يلتزم آخر حدود الوظيفة الموكلة إليه؟ من وحي التجربة التركية لعام 1980، نتطرق للعلاقات المدنية العسكرية بشيء من التفصيل.
إسطنبول تحترق
1 مايو/آيار الدامي.. بينما كان أنصار التيار الاشتراكي الشيوعي في ميدان تقسيم بإسطنبول يقيمون احتفالًا بعيد العمال أول مايو/ آيار من عام 1977، فتح مجهولون نيران أسلحتهم الرشاشة على المشاركين، فقضى 33 شخصًا وجُرح المئات. عُرف هذا اليوم بأول مايو الدامي.
16 مارس/ آذار 1978..ألقى مجهولون قنبلة على تجمع للطلاب اليساريين داخل جامعة إسطنبول، أودى الحادث بحياة سبعة طلاب، وأصيب العشرات.
4 أكتوبر/ تشرين الأول من نفس العام.. اغتيال نائب حزب الحركة القومية عن إسطنبول رجب هاشتلي في منزله، تبنت العملية منظمة يسارية تُدعى «ائتلاف الدعاية الماركسية اللانية المسلحة».
9 أكتوبر/ تشرين الأول (الشهر نفسه).. اغتيال سبعة طلاب، أعضاء في حزب العمال التركي، من قبل أعضاء في الحركة القومية، ردًا على عملية اغتيال هاشاتلي.
ـ 26 ديسمبر/ كانون الأول.. أعلن الجيش حالة الطوارئ في 13 مدينة، وكانت هذه الخطوة أولى بوادر تدخل الجيش في إدارة البلاد، ذلك التدخل الذي سينتهي بانقلاب دموي يمكّن الجيش من الإمساك بزمام الأمور بشكل كامل.
حتمية الانقلاب
بنهاية سبعينيات القرن الماضي كان العنف السياسي مشكلة حقيقية في تركيا، دخلت منظمات الشباب اليسارية في صدام مع منظمة الذئاب الرمادية اليمينية المتطرفة (ذراع عسكرية لحزب الحركة القومية) والأصوليين الإسلاميين، صراعًا على الشوارع وحرم الجامعات.
تسابقت الحركات الثلاث على عصابات الأحداث من خريجي المدارس الثانوية، الذين ليس لهم أمل في الالتحاق بالجامعة (التي لم يكن يدخلها في هذا الوقت سوى 20 بالمائة من خريجي الثانوية العامة) ولم يكن لديهم أمل أيضًا في الحصول على عمل في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة في البلاد. وفي حين ساندت الحكومات اليمينية في الفترة بين عامي 1974 و1977 حزب الحركة القومية اليميني، فإن وجود بولنت أجاويد على رأس الحكومة فيما بعد ذلك شكل حماية لجماعات اليسار.
كان المشهد السياسي بنهاية السبعينيات يعكس ذروة أزمة عامة، شهدت تركيا 12 حكومة أقلية وائتلافية خلال الفترة من 1971 وحتى 1979، أي بمعدل حكومة لكل تسعة شهور، وتراجع معدل النمو الاقتصادي من 8% لعام 1975 إلى 1.8% بحلول العام 1979، وصل معدل البطالة إلى 20% بينما كسر التضخم حاجز الـ85 بالمائة.
كانت اللحظة مواتية جدًا لأن ينقلب الجيش على السلطة المدنية للبلاد، وأن يعلن أمام الشعب عجزها عن إدارة الأزمات. بتمام السادسة صباحًا، الثاني عشر من سبتمبر/ أيلول لعام 1980، يتردد في الأصداء بيانٌ عسكري:
كعادة الانقلابات العسكرية دائمًا ما يعلن الجيش حل البرلمان ووقف نشاط كل الحركات والأحزاب السياسية ويلقى القبض على قادتها.
يدّعي دانكورت روستو – الباحث السياسي – أن الانقلاب هو «المسلك الطبيعي» لأن يتدخل جيش البلاد لوضع حد نهائي للفوضى الاجتماعية والسياسية. وتندرج تحت هذه النظرية فرضيّات، كأن تكون هناك أزمة لا يمكن تخطيها إلا عن طريق الانقلاب لتغيير البناء الاجتماعي والنظام السياسي، أو ألا تكون ثمة فئة قادرة على إحداث التغيير باستثناء الجيش، أو أن يكون لدى الجيش فقط القدرة على إحداث التغيير.
ووفقًا لنظرية المسلك الطبيعي عند روستو فإن الجيش سيتدخل للانقلاب على السلطة المدنية في حال كانت هناك أزمة، أو غابت الفاعلية عن الأحزاب السياسية، أو امتلك الجيش القدرة على الفعل والمباردة.
تركيا عام 1980، وكما سبق وأشرنا امتثلت الفروض الثلاثة لنظرية روستو، حيث الأزمة السياسية والاقتصادية، تبعتها الاجتماعية والأمنية في ذروتها. حكومات غابت عنها الفاعلية إلى جانب قدرة الجيش وجاهزيته لتحويل دفة الأحداث وتحريك المياه الراكدة مستفيدًا من الإرث الوطني التحرري والسياسي في انقلابين سابقين.
وكما أشار جون كامبل فإن الجيش يتحرك عادةً للسيطرة على الحكم عندما يكون قوة سياسية ضاربة تطغى على المؤسسات السياسية الأخرى، وبمعنى أوضح، عندما يصير الجيش أقوى الأحزاب والتنظيمات فإنه يتحرك لخطف السلطة وإدارة البلاد، ويساعده على ذلك شرعية استخدام السلاح وصهر أجيال من شباب ذلك البلد ضمن منظومته التجنيدية، الموسومة بألوان الشرف والنبل والفداء.
يسألونك عن الشعوب
لطالما كان تدخل الجيش في السياسة ومدى عمق تأثيره وتأثره بها مقترنًا بالعلاقة بينه وبين المجتمع والدولة.
ركزت الدراسات المدنية العسكرية في الغرب على الرقابة المدنية على الجيش وتحديدًا أدوار السلطتين التنفيذية والتشريعية تجاه التحركات العسكرية وميزانية الدفاع والصفقات التسليحية وغيرها من الشؤون العسكرية، وهذا طبيعي في المجتمعات الغربية لكنه يختلف تدريجيًا في المجتمعات الأقل تطورًا. البعض الآخر يجعل من طبيعة تكون الجيش نفسه عاملًا حاسمًا خلاف الرقابة المدنية في تحرك الجيش وتغوله في السياسة.
ويضرب النموذج التركي القومي، الذي تكوّن بهدف إنشاء دولة قومية على حدود تركيا بعد حروب التحرير، نموذجًا للجيوش القومية الذي تصبح العسكرية فيها موضع شرف واعتزاز، حيث تتكون لدى العسكريين نظرة خاصة تجاه أنفسهم والأدوار المهمة التي يقومون بها، تلك التي تجعلهم ينظرون إلى الساسة التقليديين من خارج المؤسسة العسكرية نظرة لا مبالاة، تصل في بعض الأحيان إلى حد الازدراء.
وبهذا التصور فإن الجيش يظل محل الإجماع الوطني بينما السياسيون يسعون إلى مصالح شخصية وحزبية ضيقة، وهذا ما يفسح المجال للجيش للتدخل في السياسة والقفز عليها كلما كانت هناك أزمة. وخلاصة ذلك أن الذي يحدد مدى تدخل الجيش في منظومة السياسة بدرجة كبيرة الثقافة السائدة في المجتمع، أكثر من تركيبة الجيش، لأن كثيرًا من الجيوش القومية لا تتدخل في السياسة، ربما ذلك لأنها جيوش محترفة، تسعى بالأساس لرفع كفاءة أفرادها ومرونة حركتها بعيدًا عن بيروقراطية الحكم.
وتتحدد الثقافة السائدة في المجتمع تجاه العلاقات المدنية العسكرية بعاملين؛ مدى احترام واستمساك المواطنين بالمؤسسات والأدوار الحكومية المدنية، أي مدى اعترافهم بشرعية النظام السياسي القائم، ومدى تجذر وحضور المؤسسات المدنية.
كلما انخفض معدل العاملين السابقين زادت فرصة الجيش للسيطرة على المشهد السياسي وهو ما حدث قبل عامين، عندما حاول الجيش التركي القيام بسادس انقلاباته على حكومة العدالة والتنمية، لكن لتلاشي غالبية الأسباب التي تطرقنا إليها كان ذلك صعبًا، واستطاعت تركيا أن تضع الجيش في مكانه الطبيعي.