تنطلق التفسيرات الماركسية الكلاسيكية من أن العنصر الحاكم في المجتمعات الذي يحدد طبيعة الصراع الطبقي هو نمط الإنتاج وتراكم الثروات. لكن مجموعة الباحثين الإسرائيليين الذين قدموا كتاب «إسرائيل: حول الطبيعة الطبقية للمجتمع الإسرائيلي» (دار المرايا، 2017، ترجمة: تامر موافي)، يطرحون أن العنصر الحاكم للصراع الطبقي داخل المجتمع الإسرائيلي هو الطبيعة الاستيطانية التي تمثلها الحركة الصهيونية.

تطور موقف اليسار من الصهيونية

كان موقف المنظمات الاشتراكية والمفكرين الماركسيين البارزين في فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى بصفة عامة داعمًا لحقوق الأقليات في دول أوروبا. وكان الإطار العام لحل مشكلة أي أقلية عِرقية أو طائفية هو استيعابها داخل مجتمعاتها. ومن ثمّ، فإنَّ ردَّ فعل اليسار تجاه الحركة الصهيونية في هذه الفترة كان الإجماع على رفضها، حيث مثلَت تراجعًا عن هدف تحقيق المساواة لليهود كمواطنين في الدول المختلفة.

ومن جانب آخر، كانت الصهيونية حركة منافسة للحركة الاشتراكية التي كانت حينها تجتذب عددًا كبيرًا من اليهود مُعتمدة على وعدها لهم بأن الثورة الاشتراكية ستمحو كافة أشكال التمييز ضد الأقليات. وفي المقابل قدمت الصهيونية لليهود وعدًا بالخلاص يتمثّل في إقامة دولة خالصة لهم.

في الفترة السابقة للحرب العالمية الثانية مباشرة، بدأت الصهيونية تكتسب تعاطف قطاعات واسعة من الحركة الاشتراكية في أوروبا، وبصفة خاصة في بريطانيا. وكان أغلب البريطانيين مؤيدين لوعد بلفور بالعمل على توفير وطن لليهود في فلسطين. في الوقت نفسه، بدت الهجرات الأولى لليهود في فلسطين وكأنها تحقق حلم بناء مجتمع اشتراكي على أرض الميعاد. وبصعود النازيّة في ألمانيا واندلاع الحرب العالمية الثانية وما ارتكبه الحكم النازي ضد يهود أوروبا من فظائع، دعمت الأحزاب والتنظيمات الاشتراكية المشروع الصهيوني الساعي لإنشاء دولة يهودية في فلسطين.

على جانب آخر، بدأ ستالين منذ عام 1944 في انتهاج سياسة داعمة للصهيونية نتيجة اقتناعه بأن اليهود سينشئون دولة اشتراكية في فلسطين، وأن ذلك من شأنه تقويض النفوذ البريطاني في الشرق الأوسط. وعلى هذا الأساس، صوّت الاتحاد السوفييتي ودول المعسكر الشرقي في نوفمبر (تشرين الثاني) 1947 لصالح قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين. وفي عام 1948، اعترف الاتحاد السوفيتي بدولة إسرائيل في فلسطين – وكانت أول دولة تمنح إسرائيل اعترافًا قانونيًا بالوجود هي الولايات المتحدة الأمريكية. وخلال حرب 1948، حصلت إسرائيل على دعم من الاتحاد السوفيتي وعلى احتياجاتها من السلاح من إحدى دول المعسكر الشرقي.

الطبيعة الطبقية للمجتمع الإسرائيلي

المجتمع الإسرائيلي مثل كل المجتمعات الطبقية الأخرى، به مصالح اجتماعية ومصالح طبقية متناقضة تولّد صراعًا طبقيًا داخليًا، وله بعض الخصائص الفارقة التي تميِّزه عن أي مجتمع آخر – وقت كتابة الدراسة.

أولًا: مجتمع من المهاجرين

أول الخصائص الفارقة للمجتمع الإسرائيلي هي أن غالبية السكان كانوا من المهاجرين أو من أبنائهم، ولا يزل حتى اليوم يجتمع فيه مهاجرون، وله العديد من الملامح المميزة له. فلا تزال الطبقات نفسها في طور التشكيل، فضلًا عن إغفال الوعي الطبقي؛ إذ تنتج الهجرة خبرة وعقلية أن المرء قد «فتح صفحة جديدة في حياته»، وكقاعدة يتخذها المهاجر فيغيّر مجال عمله ودوره الاجتماعي وطبقته، ويتطلع المهاجر الجديد إلى تغيير مكانه في المجتمع، ويظن أن المهاجرين السابقين قد شغلوا كل المواقع المتميزة في المجتمع فيحاولون العمل بجد واجتهاد ليتسلقّوا السلم الاجتماعي من فوقهم.

إن الوعي الطبقي والفخر الموجودين لدى الطبقتين العاملتين في بريطانيا وفرنسا مثلًا، لا وجود لهما في إسرائيل، ويبدوان غريبين للكثير من العمال في إسرائيل. فإذا سُئل العامل الإنجليزي عن أصله الطبقي؛ فسيجيب: أنا من الطبقة العاملة، ولكن إذا سُئل العامل الإسرائيلي عن أصوله؛ فسيجيب طبقًا لتصنيفه العِرقي – أي من أي بلد أتى.

ثانيًا: مجتمع من المستوطنين

إن المجتمع الإسرائيلي ليس مجرد مجتمع من المهاجرين، وإنما هو مجتمع من المستوطنين. هذا المجتمع، بما في ذلك الطبقة العاملة، تشكّل من خلال عملية استيطان. هذه العملية التي استمرت نحو ثمانين عامًا، لم تنفذ في فراغ، وإنما في بلدٍ مأهول بشعب آخر. الصراع الدائم بين المجتمع الاستيطاني والسكان الأصليين العرب والفلسطينيين المُهَجَرين لم يتوقف مطلقًا، وقد شكّل بنية الاجتماع والسياسة والاقتصاد الإسرائيليين أنفسهم. والجيل الثاني من القادة الإسرائيليين واعون تمامًا بذلك؛ فلا يخفى علينا إعلان الجنرال ديَان في جنازة أحد القادة الذين اغتيلوا على أيدي ميليشيات فلسطينية في عام 1956، حيث قال:

نحن جيل مستوطنين، ودون الخوذة الحديدية والمدفع لن نستطيع أن نغرس شجرة أو أن نبني بيتًا؛ فدعونا لا نغفل الكراهية التي يلتهب بها مئات الآلاف من العرب حولنا.

«إنَّ الشعب الذي يقمع شعبًا آخر لا يمكن أن يكون هو نفسه حرًا»، عندما قال ماركس هذه الجملة لم يكن يعني هذا كمجرد حكم أخلاقي فقط، وعندما يكون قهر وطن ما ومصادرته شرطًا من شروط نشأة ووجود مجتمع ما؛ فإن هذا المجتمع لن يسمح بوجود أي نوع من المعارضة بداخله. وهذا ما أثبته فشل وجود الحركات الثورية داخل المجتمع اليهودي في فلسطين منذ عشرينيات القرن الماضي، أنّه لطالما سيطرت «الصهيونية» سياسيًا وأيديولوجيًا.

ثالثًا: مجتمع ذو امتياز رأسمالي

ليس المجتمع الإسرائيلي فقط مجتمع مستوطنين، بل هو أيضًا مجتمع مستفيد من امتيازات فريدة. فهو يتمتع بتدفُّقٍ للموارد المادية من الخارج لا يُضَاهى بغيره من حيث الكم والنوع، وقد حدث فعلًا أن إسرائيل تسلّمت في عام 1968 نحو 10% من كل المعونات التي تلقتها الدول النامية.

إن إسرائيل حالة فريدة في الشرق الأوسط؛ فالإمبريالية تموّلها دون أن تستغلها اقتصاديًا. وقد كان هذا هو الحال دائمًا في الماضي؛ فقد استخدمت الإمبريالية إسرائيل لأغراضها السياسية، وقدمت لها في المقابل الدعم الاقتصادي. ونحن عندما نتحدث عن الإمبريالية فإننا نتحدث عن الرغبة في السيطرة على العالم كله، أو بمعنى أدق «الرغبة في حكم العالم».

إسرائيل والإمبريالية

أي ظروف سياسية مكّنت إسرائيل من تلقي مساعدات خارجية بمثل هذا الحجم وبمثل هذه الشروط التي لا مثيل لها؟ أجاب محرر جريدة هآرتس عن هذا السؤال مبكرًا في عام 1951: لقد أُعطيت إسرائيل دورًا لا يختلف عن دور كلب الحراسة. فليس على المرء أن يخشى أن تمارس سياسة عدوانية تجاه الدول العربية إذا ما تناقض هذا مع مصالح الولايات المتحدة وبريطانيا.

وقد تشكّل اليمين الصهيوني في ثلاثينيات القرن الماضي من حزبين، هما «الحزب العام للصهاينة»، و«حيروت» أي الحرية. كان الحزب العام رأسماليًا تقليديًا يرفع نفس شعارات الرأسماليين في كل مكان، أمّا «حيروت» فقد أُسس على الصهيونية المتطرفة، وكانت شعاراته «لنهر الأردن ضفتان؛ الأولى، لنا، والثانية، لنا أيضًا»، و«بالدم والنار سقطت يهودا، وبالدم والنار ستنهض». وطالبوا بسياسة الغزو العسكري بدلًا من الاستعمار الاستيطاني -الذي كان سياسة اليسار الصهيوني.

أي الطبقات هي الحاكمة؟

ميّز إخضاعُ الاقتصاد بأكمله للاعتبارات السياسية الاستعمارَ الصهيوني منذ بدايته الأولى، وهو مفتاح فك شفرة الطبيعة الفريدة للطبقة الحاكمة الإسرائيلية. فلم يتقدّم الاستعمار الصهيوني كعملية استعمارية رأسمالية عادية هدفها الربح وكسب المال. فمثلًا فضلت العناصر البرجوازية – الطبقات المتوسطة صاحبة رأس المال – في هذا الاستعمار توظيفَ العمالة العربية، ولكن بيروقراطية العمل الصهيوني صارعت ضد هذا وطالبت بسياسة «عمالة اليهود فقط». وعند حديثنا عن (البيروقراطية ) فإننا نعني مجموعة القوانين المفروضة من قبل الحركة الصهيونية والتي تلزم الجميع.

كان ذلك صراعًا مريرًا طوال العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي؛ وقد انتصرت البيروقراطية الصهيونية بسبب الدعم الذي تلقته من الحركة الصهيونية العالمية. وتأسس هذا الدعم على اعتبارات سياسية؛ لأن غرض الصهيونية السياسية كان من البداية هو إنشاء دولة قومية يهودية خالصة في فلسطين، وإزاحة السكّان الأصليين. وأنشأت هزيمة العناصر البرجوازية نمطًا من الحكم المشترك لعبت فيه بيروقراطية العمل الدور الأعلى، بينما لعبت البرجوازية الدور الأدنى، مندمجين لتشكيل طبقة حاكمة جينية جديدة.

فإذا كانت الأيديولوجية المهيمنة في مجتمع ما، هي أيديولوجية الطبقة الحاكمة، وإذا كانت هوية الطبقة المهيمنة غير واضحة، يمكن للمرء أن يحاول تحليل الأيديولوجية المهيمنة نفسها ليستنتج منها هوية الطبقة الحاكمة؛ وهي التي لم تكن رأسمالية على الإطلاق في إسرائيل. بل كانت خليطًا من العناصر البرجوازية، مندمجة مع أنماط وأفكار مهيمنة خاصة بحركة العمل الصهيونية، وهي أفكار مستمدة من الحركة الاشتراكية في شرق أوروبا، ولكنها تحوّلت لتعبّر عن أهداف الصهيونية السياسية. وهذا التوازن بين الطبقة الحاكمة ليس ثابتًا، ومؤخرًا مال هذا التوازن لصالح الشريك البرجوازي.