عنصرية «إسرائيل» ضد اليهود: لا للمرضى والمعاقين
الصورة السائدة عن الحركة الصهيونية هي أنّها لا تفرّق بين اليهود في جميع أنحاء العالم، منذ أوّل هجرة في أواخر القرن التاسع عشر حتى بدايات إقامة الدولة وما تلاها من هجرات متتالية، لكنّ قادة الحركة كان من بينهم من يُفرّق بين اليهود وبعضهم البعض، فهذا المعسكر الذي يرغب في بناء «رجل يهودي جديد»، قوي وصحّي وحُر، يحظى بإعجاب الآخرين ويبشِّر بكونه نواة لمجتمع يهودي يكون «نورًا للأمم»، وذاك المعسكر الآخر الذي يركّز فقط على «عودة اليهود» لـ«أرض الميعاد»، من دون أي اعتبارات أخرى.
فمنذ ظهور الحركة الصهيونية وكانت العنصرية بمنبت رؤوس قادتها، فهي حركة انتقائية بالأساس، تنتقي اليهود، تحديدًا، من بين كل ديانات العالم، وتقيم لهم دولة تحت تهديد السلاح، كي تصبح موطنًا لهم «يهربون من معاداتهم داخل بلدانهم الأصلية»، وفقًا لوجهة النظر الصهيونية.
الإعاقة في المشروع الصهيوني
كان من بين أهداف الحركة الصهيونية تغيير أو إعادة تأهيل الشعب اليهودي من دولته التي تبدو «معاقة في الشتات» إلى «أمة جديدة صحية وطبيعية في فلسطين»، لكن هذا المفهوم كان كاشفًا لعديد من جوانب مشروع الحركة؛ فلم يتم التعامل مع الأمراض العقلية والجسدية بوصفها أمراضًا فقط يمكن الشفاء منها؛ لكنّه طُبِّق عمليًّا أيضًا في سياسة الهجرة، التي استبعدت كلّ من يعاني من أي مرضٍ.
صاحب ظهور الحركة الصهيونية نقاشًا مستعرًا حول الصحّة الجسدية والعقلية لليهود في الشتات، متأثرًا بالخطاب الطبّي الأوروبي في ذلك الوقت، الذي تزامن أيضًا مع الإرهاصات الأولى لعلم تحسين النسل «اليوجينا»، علاوة على انتشار تقارير في هذه الفترة كانت حُجّة لمعاديي الصهيونية بأنّ «اليهود عرق هجين، وليس لديهم عباقرة، ومصابون بعمى الألوان، وقصر القامة، ووضعهم الاقتصادي بائس»، وكان مفهوم أجساد اليهود المصابين جسديًا وعقليًا، مؤشّرًا للاضطراب القومي والأخلاقي.
ورُغم استخدام قادة الصهاينة في تلك الفترة، كلمة مرض «מחלה» كوصف للأمراض الجسدية أو العقلية، فإنهم كانوا يشيرون في جوهرها إلى ما يصفه العلماء اليوم على نطاق واسع بأنه «إعاقة»، لا سيما في مراجعهم على التداعيات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للأمراض، بحسب ما تشير ساندي سفيان Sandy Sufian، أستاذة الإعاقة في كلية الطب في جامعة إلينوي شيكاغو، في ورقتها البحثية: «الصحة العقلية والإعاقة في المشروع الصهيوني».
يؤكّد جور ألروي Gur Alroey، أستاذ العلوم الإنسانية بجامعة حيفا، في كتابه «أرض الملجأ: الهجرة إلى أرض إسرائيل، 1919-1927» أنَّ عشرات الآلاف من اليهود، الذين طلبوا الهجرة لفلسطين في مرحلة الانتداب البريطاني، دفعوا الثمن غاليًّا لسياسة الهجرة المثيرة للجدل التي تبنّاها القادة الصهاينة الأوائل لرفض أو ترحيل المهاجرين اليهود الذين اعتبروهم مرضى أو غير لائقين.
حتى إنَّ صحيفة هآرتس الإسرائيلية التي كتبت مراجعة للكتاب لم تذكر بعض الأقوال «المروّعة» على لسان قادة الحركة الصهيونية الذين كانوا سببًا في قتل بني ديانتهم بسبب سياستهم التعسّفية، لكنها في الوقت ذاته؛ ذكرت أنّ إحدى المحادثات ضمّت شكوى «يهوشوا جوردون – Joshua Gordon»، نائب مدير دائرة الهجرة في الإدارة الصهيونية قبل إقامة الدولة، من أن «عدد الأشخاص المصابين بأمراض عصبية أو مرضى عقلي آخذ في الازدياد»، وهو ما كان يثير القلق لديه، لذلك بُذلت جهود لإعادة اليهود الذين لا يصلون إلى المستوى الصحي الكافي لأوروبا مرّة أخرى.
وفي إحدى المحادثات الأخرى؛ فإنَّ ليفي شفويلي، رئيس دائرة الهجرة في حيفا أثناء الانتداب البريطاني، كان محبطًا؛ لأنّ القادة الصهاينة لم يرسلوا يهودًا أصحّاء، وكتب إليهم أنّهم «لا ينتبهون إلى نوعية الأشخاص الذين يرسلونهم إلى فلسطين أو حالتهم الصحية، مطالبًا إياهم بالحرص على انتقاء الأشخاص الذين يرسلونهم».
تقاطع اليوجينا مع الأهداف
بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ظهر علم تحسين النسل أو ما يُعرف بـ«اليوجينا» الذي صكّه الباحث البريطاني فرانسيس جالتون، إذ كانت خطّته تقوم على تشجيع التكاثر بين الأصحّاء، ومنع الفقراء من الإنجاب، أو إخصائهم، أو تعقيمهم قسريًّا، واجتذبت أفكاره سريعًا عديدًا من البلدان، وبدأت أفكاره بالانتشار بصورة أكبر.
تقول أستاذ دراسات النوع الاجتماعي في جامعة بن جوريون، سخلاف ستولر ليس Sachlav Stoler-Liss (1965-2012)، إنّ من أكبر مؤيدي نظرية تحسين النسل للشعب اليهودي، شخصيات رئيسية في المؤسسة الطبية الناشئة في فلسطين، الأشخاص الذين أداروا وأنشأوا جهاز الصحّة الإسرائيلي، وعلى رأسهم الدكتور يوسف مئير، الذي افتُتح مستشفى في كفر سابا على اسمه.
مئير ألّف كتابًا بعنوان «الأم والطفل» وافتتحه بسؤال «من الذي يحق له إنجاب الأبناء؟»، في افتتاحية الكتاب يقول مئير: «عند عودة الشعب العبراني إلى أرض أجدادهم، فإنه يقع على عاتقهم العناية بولادة أبناء أصحاء وكاملون في الجسد والروح»، زاعمًا أن «قيمة تبني مبادئ علم تحسين النسل بالنسبة لليهود أكبر من بقية الأمم»، موضحًا أن «تحسين النسل، يتطلب التأكد من صحة النسب للعائلات قبل الزواج، ومنع الوالدين الذين يعانون من عيوب وراثية من الإنجاب، وفي حالة الحمل، فإن الأطباء يجب إجبارهم على الإجهاض».
دَعْم مئير وكبار الموظفين الآخرين في النظام الصحي لأفكار تحسين النسل؛ ظلَّ طي الكتمان لسنوات عديدة، حتى حين جُمعت مذكرات مئير ونُشرت في ذكراه الخمسين لم يتم الإشارة إلى هذه المواقف الداعمة للتعقيم القسري للذين يعانون من أمراض وراثية.
تستشهد أستاذ دراسات النوع الاجتماعي في جامعة بن جوريون بانتقاد مئير فكرة دافيد بن غوريون، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، بإعطاء 100 ليرة إلى كل أم تنجب 10 أطفال، وكتب حينها يقول: «ليس لدينا اهتمام بالطفل العاشر أو حتى السابع في العائلات الفقيرة من الشرق، يجب ألا يُطلب من السكان إنجاب عديد من الأطفال؛ بل يجب تحجيمهم».
لم يكن مئير وحده الزعيم الصهيوني الذي يدعّم تحسين النسل، وفقًا للدراسات التي أجراها الدكتور رافائيل فالك Raphael Falk، عالم الوراثة ومؤرخ العلوم والطب في الجامعة العبرية، فإن كبار المفكرين الصهاينة، من بينهم الدكتور «ماكس نورداو – Max Nordau»، زميل تيودور هرتزل وذراعه الأيمن، والدكتو آرثر روبين، رئيس مكتب المنظمة الصهيونية العالمية في فلسطين، دعّما فكرة تحسين النسل للشعب اليهودي قبل «العودة إلى أرض الميعاد»، ونورداو هو الذي صاحب مصطلح «يهودية العضلات».
يهودية العضلات
تصف أستاذة علم الاجتماع في الجامعة العبرية بالقدس، «مئيرا فايس – Meira Weiss»، في كتابها «الجسد المختار» كيف كان قادة الحركة الصهيونية ينظرون إلى استيطان الأرض والعمل بها على أنه «علاج» من شأنه أن يعيد صحة الجسد اليهودي الذي انحط في الشتات، فوفقًا لنورداو، فإن «يهودية العضلات» ستحل محل «يهودي الشتات الشاحب النحيف».
توضّح «ستولر» أنّ مئير والمجموعة التي انضمت إليه كانت اليوجينا بالنسبة لهم أمرًا عمليًا للغاية، وبدأوا العمل على فكرة الإقناع والاختيار، تقول: «لماذا يجب أن يعمل الناس ضد مصالحهم الشخصية؟ وهنا تأتي الصلة بالمصلحة الوطنية، إذا فهم الشخص اليهودي أنه من خلال إنجاب طفل، فإنه سيضر بالمصلحة الوطنية، وبناء الأرض، وتطبيق نظرية اليهودي الجديد، سيمتنع عن الإنجاب».
في بحث للمؤرخة الإسرائيلية «راكيفت زالاشيك – Rakefet Zalashik»، حول تاريخ الطب النفسي في فلسطين خلال فترة الانتداب وبعد تأسيس الدولة، أشارت إلى أنَّ عديدًا من الأطباء النفسيين اليهود اشتركوا في تصوُّر زملائهم الألمان لليهود كجنس، معتمدين على النظرية التي تم تطويرها في أوروبا، ومع ذلك، عند وصولهم إلى فلسطين، واجهوا يهودًا من أنواع مختلفة وبدأوا في التمييز بين عرق اليهود الإشكنازيين، وعرق اليهود السفارديم، فمثلًا، الطبيب النفسي أفراهام رابينوفيتش، الذي كان طبيبًا في منشأة عزرات ناشيم في القدس، وأدار لاحقًا مؤسسة صحّة عقلية في بني براك، وصف في تقاريره الخاصة به للمرضى- في الفترة من 1921-1928، اليهود الذين جاؤوا من الشرق بـ«الأجناس البدائية».
يشرح رابينوفيتش في تقريره سبب تأثرهم بالمرض العقلي قائلًا: «وعيهم بمحتواه الضئيل، لا يفرض أي متطلبات خاصّة للحياة، ويخضعون للظروف الخارجية؛ لذلك لن يكونوا قادرين على المواجهة»، وبحسب ما نقلته صحيفة هآرتس الإسرائيلية عنه يقول:
الهجرة الإقصائية
تشير ساندي سفيان في ورقتها البحثية إلى أنّ المهاجرين اليهود واجهوا إجراءات عملية استبعدت الأفراد من دخول فلسطين، وهو ما شكّل توترًا بين الأيدلوجية الصهيونية والممارسة لأنّها تحدّت ضمنيًّا القوة الكامنة في الصهيونية في علاج الجميع والسماح بهجرتهم، فكان فقط أولئك اليهود الذين لا يعانون من مرض جسدي أو عقلي مزمن تم قبولهم عن قصد في فلسطين.
في تلك الفترة اعتمدت حكومة الانتداب البريطاني قانون الهجرة في 1925، الذي يحدّ من هجرة أولئك الذين يعانون من أمراض عقلية، وكانت سياسات الهجرة الخاصّة بالمنظّمة الصهيونية تقع ضمن قوانين الهجرة الخاصّة بحكومة الانتداب، ورُغم أنّ حكومة الانتداب البريطاني تشاورت مع المنظّمة الصهيونية بشأن محتوى مرسوم الهجرة؛ إلا أنّ الأخيرة هي التي طبّقت القواعد.
تشير أستاذة العلوم الإنسانية الصحية والتاريخ بجامعة إلينوي شيكاغو إلى أنّ عملية الهجرة كانت تتم كل 6 أشهر عن طريق منح حكومة الانتداب البريطانية جدول عمل يُفصّل عدد شهادات الهجرة المسموح بها، مصحوبًا بتوجيهات حول مهارات العمل للمهاجرين وأعمارهم ونسبة الجنسين.
تألفت فئات الهجرة من 4 فئات: الفئة الأولى، تتألف من الأشخاص الرأسماليين الذين كان عددهم غير محدود، والفئة الثانية، تتألف من الطلاب والأشخاص الدينيين الذين تم ضمان بقائهم باستمرار، والفئة الثالثة هم الأشخاص الذين لديهم فرص عمل محددة ويمكنهم العمل في الأرض، والفئة الرابعة هي فئة المُعالين من النساء والأطفال، وسيطرت الحكومة البريطانية على الفئة الأولى والثانية والرابعة، لكنّها منحت سلطة جزئية للمنظمة الصهيونية للفئة الثالثة مقبل وعد بضمان إعالتهم في السنة الأولى من الهجرة.
تقتبس سفيان ما قاله آرثر روبين، رئيس مكتب فلسطين في يافا، عن الاعتماد على سياسة الكمّ أكثر من سياسة الكيف، ناصحًا بضرورة اتبّاع سياسة «الغربلة الحاسمة»: «علينا رفض الأشخاص الأكثر خطورة الذين يعانون من الأمراض المعدية كالزهري، والسل المتقدم، أو من المحتمل أن يصبحوا عالة على المجتمع كالمختلون عقليًّا أو الذين يعانون من الصرع أو كل من منعه المرض من كسب لقمة العيش، وينبغي أن يتولى منع هؤلاء الأشخاص أطباء مكاتب الهجرة في الموانئ؛ لكن يجب إجراء فحص ثان في فلسطين في موانئ الوصول».
تقول سفيان في ورقتها البحثية: «نظمت الوكالة اليهودية عملية اختيار بالفعل في عشرينيات القرن الماضي، استند هذا النظام إلى معسكرات تدريب صهيونية وعلى شبكة من الأطباء اليهود الذين أجروا فحوصات طبية في أوروبا، وهو ما أدى إلى زيادة الجودة مقابل الكميّة، إذ حصل كل مهاجر على بطاقة صحية تفصّل نتائج الفحوصات الطبية التي أجريت عند نقطة المغادرة، وتم إجراء الفحص الطبي مرة أخرى عند وصول المهاجرين، وتُمنح شهادات الهجرة عادةً للرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و35 عامًا، والذين كانوا قادرين على القيام بعمل بدني أو لديهم حرفة معينة».
مخاوف تحسين النسل والقيود العملية على الهجرة؛ أدت لتوصية الوكالة اليهودية وأمانة الشؤون الصحية التابعة للجنة القومية اليهودية في فلسطين، بالعودة إلى أوروبا لأولئك الأشخاص المصابين بأمراض عقلية الذين تخطوا فحص الهجرة بالصدفة أو مرضوا بعد هجرتهم، وبحلول نهاية عام 1930، تمت إعادة مئات المهاجرين المعاقين إلى بلدانهم الأصلية، وتم تشخيص إصابة ثلثهم بأمراض عصبية أو عقلية.
لذلك أسست دائرة الرعاية الاجتماعية في المجلس الوطني (וועד הלאומי) صندوقًا خاصًا في عام 1935 لإعادة المرضى إلى أسرهم في الخارج ودفع التكلفة، وهو نفس العام الذي تم فيه سنّ قانون عام 1935 لحماية الصحة الوراثية للأمة الألمانية، وبحلول ديسمبر 1936، أعاد الصندوق عشرات الأشخاص المصابين بأمراض مزمنة، إلى أوروبا مرّة أخرى.
قدّم حاييم ياسكي مدير منظمة هداسا الطبية في طبعة 1937، جدولًا يوضّح عدد الأشخاص الذين قدّموا المساعدات المالية والمبلغ النقدي الإجمالي الموزّع بين 1935-1936، وكان الصندوق قد أعطى 39 شخصًا أموالًا وأسهم في نفقات السفن الخاصة بهم، بينما ساعد 63 شخصًا في تقليل نفقات السفن الخاصة بهم فقط، وتم تقديم ما مجموعه 210 أو 226 ليرة فلسطينية كمساعدات، وأشار ياسكي إلى أنّه في عام 1937، ازداد الطلب على استخدام الصندوق لدرجة أنه لم يستطع مساعدة كل من طلبوه.