صامتةً وسط شجرات خضراء تحتضنها، ملقاةً على الأرض أمام جدارِ شامخ يواسيها، وكلمة الصحافة على سترتها تُمرغ في التراب، وكلماتها الموءودة ترفع جسدها عن الأرض وتقرّبه للسماء . لم تعتد شيرين أبو عاقلة أن تصمت أو ألا تكون واقفة في قلب الخطر، أو تنظر للأرض لا لعين العالم عبر عدسة الكاميرا.

تبرز في لحظة كل عدوان إسرائيلي، تنقل للعالم حقيقة ما يجري. تبعث شيرين بكلماتها كمن يُلقي بحجر ضعيف في محيط راكد، لا يمكنها أن تخلق تسونامي، لكن بضع موجات تُؤثر في العالم الساكت كان كافيًا بالنسبة لها. لم يحمها العالم، ولم تمنع حصانة الصحافة عنها رصاصة احتلال لا يعترف بمقدس، أو يتردع أمام خط أحمر.

ربما ليس سهلًا أن أغير الواقع، لكنني على الأقل قادرة على إيصال ذلك الصوت للعالم.

كانت تلك كلماتها، وهي جوهر حياتها. دراستها الأصلية كانت للهندسة المعمارية في جامعة العلوم والتكنولوجيا في الأردن، لكنّها رأت هندسة فلسطين بالكامل يتم التلاعب بها ومحو مناطق وإحلال الصهاينة في مناطق أخرى، فانتقلت للصحافة كي تسجل اعتراضها على ما يحدث.

بدأت بالصحافة المكتوبة، أجادتها وحصلت على درجة البكالوريوس من جامعة اليرموك الأردنية. تخرّجت في الجامعة فقررت العودة لفلسطين، بلدها الأم ومسقط رأسها مدينة بيت لحم. استهلت عملها مع وكالة الأونورا، ثم إذاعة صوت فلسطين. في الإذاعة اكتشفت شيرين أهمية الكلمة المنطوقة، وكيف أن بعض الأحداث تحتاج تغطية لحظية، واستهلاك دقائق للكتابة عن الحدث قد يُعتبر خيانة للحدث، فقررت أن تمضي في اتجاه المراسل الصحفي.

عملت مع قناة عمان الفضائية، بعدها عملت مع مؤسسة مفتاح، ثم إذاعة مونت كارلو. وفي عام 1997، وهي بنت السادسة والعشرين وقتئذ، انتقلت للعمل مع قناة «الجزيرة» الفضائية. ومن «الجزيرة» ارتقت للسماء برصاصةٍ في الرأس من قناص يستتر خلف سلاح متطور وحاجز خرساني وملابس مجهزة وكيان إجرامي، وكانت شيرين وحدها طوال رحلتها الصحفية في مواجهة كل ذلك وحدها، لا تمتلك إلا صوتها وشجاعتها.

لن أنسى أبدًا حجم الدمار، ولا الشعور بأن الموت كان أحيانًا على مسافة قريبة.

تتحدث شيرين عن الاجتياح الإسرائيلي للضفة الغربية عام 2002. اجتياح كان الأعنف والأشد فجاجة منذ بداية الاحتلال الإسرائيلي. لكنها رغم ذلك كانت من الأبنية القليلة التي تماسكت أمام المُحتل، وقررت أن تُحوّل نفسها لأيقونة مثل العنقاء، كلما أغلق الاحتلال منطقة بزغت لهم من منطقة أخرى. كلما أراد الاحتلال منع التغطية وحبس الصورة قبل أن تصل للعالم، كانت شيرين تعرف كيف تُهرب الصورة بين ثنايا كلماتها، كي يرى من لم يحضر، ويتعاطف قلب العالم البارد مع المدنيين الذين يكابدون الاحتلال.

كل تلك القوة، وشيرين من الجيل الأول لصحفيي قناة «الجزيرة» القطرية. التحقت بها بعد عام واحد فقط من بدايتها. سبّبت شيرين كثيرًا من الإزعاج لقاتلها، فدائمًا ما أعلنت شيرين أن قوات الاحتلال تتهمها بأنها تصوّر مناطق أمنية، وأنها تهدد أمن المستوطنين.

نقلت شيرين ذات مرة شعورها الدائم بأنها مستهدفة، وأن هناك من يتربص بها، سواء كانت قوات جيش الاحتلال أو المستوطنين المسلحين الذين باتوا يعرفونها كما يعرفها الفلسطينيون، بل ربما أكثر.

لكن ذلك الشعور لم يثنّها عن عملها، وكلما شعرت بالضعف تذكرت سجن عسقلان. أكثر اللحظات المحفورة في عقل شيرين، كما تقول. فقد اطلعت على أوضاع أسرى فلسطينيين قضوا خلف سجون الاحتلال ما يزيد على العشرين عامًا. وكانت شيرين هي النافذة التي أطل منها الأسرى على العالم، ونقلت معاناتهم للعالم.

كنّا نحمل الكاميرات… نتنقل عبر الحواجز العسكرية والطرق الوعرة.. كنا نبيت في مستشفيات، أو بيت أناس لم نعرفهم..

هكذا قضت شيرين، وربما كل مراسل صحافي، حياتها. لا همّ لها إلا كشف الحقيقة، وتكبير صرخة الفلسطينيّ حتى تسمعها أذن العالم. وبالتأكيد كانت شيرين تتوقع أن نهاية جسدها ستكون أمام الكاميرا في طريق وعرة، ترقد بعدها في مستشفى وسط زملاء يصرخون يطالبونها بالاستيقاظ غير مصدّقين أنها فارقتهم.

صحيح أن الصحفيين يشعرون بأمان نسبي كونهم يحملون حصانة عرفية ودولية من القتل أثناء تغطية الحدث، أو على الأقل أمام الكاميرا. لكن شيرين كانت تعرف العدو الذي تواجهه، وتدرك جيدًا أنه لا وجود للكود الأخلاقي وأعراف العمل الصحفي وقواعد الإنسانية أمام الاحتلال الإسرائيلي. فلم يكتف القناص برصاصة الرأس، بل أفاد شهود عيان أن إطلاق النار استمر في محاولةٍ لمنع إسعافها، وأن الرصاص كان يهطل كلما حاول أحد الاقتراب منها.

رغم الخطر يجب أن نواصل العمل.
وفي اللحظات الصعبة تغلبّت على الخوف.
فقد اخترت الصحافة كي أبقى قريبة من الإنسان.

هكذا كانت ترى شيرين نفسها وعملها. اقتراب من الإنسان المقهور وانتصار للإنسان الستضعف. قدرها أن المقهور هو وطنها، والمستضعف هو شعبها. لكنها كانت من خلالهم تنصر قضية كل شعب مُحتل، وتهاجم كل احتلال. وتعيد بصوتها وكلماتها المنتقاة ترميم التاريخ الذي يحاول الاحتلال طمسه، وكمحاولة أخيرة منها قررت أن تُهدي دمها علّه يغسل الغشاوة التي تصيب العالم حال نظره للقضية الفلسطينية.

وأن تسكب كلماتها من ثقب رصاصة في رأسها لتمتزج بتراب فلسطين، ليتلقطها طفل في هيئة حجر ينتفض به على جندي إسرائيلي. أو تروي شجرة زيتون شامخة تنتصب في وجه المحتل. ولتكون دماؤها واحتضانها للأرض بمثابة مرجع تاريخي لمن يتساءل عن ملكية أرض فلسطين لمن تعود؟ فهي بالتأكيد تعود لكلمات شيرين أبو عاقلة، وتوقيعها ببصمة رأسها وجهها ودمها هو التوثيق الرسمي لأحقية أهل فلسطين بأرضهم، وأنهم لن يتركوها.

شيرين، ومن سبقوها من الصحفيين الذين قتلهم الاحتلال وهم يرتدون سترة الصحافة، دليل لا يحتمل التأويل بأن حجة هرتزل أن الفلسطينيين شعب بلا حضارة يحتاج لمستعمر متحضر كي يرفعهم لمرتبة المتحضرين حجة واهمة. هي حجة كافة المستعمرين، والديباجة التي يقولها كل احتلال في كل مكان.

كما كانت تقول لافتة في محطة مترو أمريكية، في أي حرب بين المتمدن والهمجي، أيد الإنسان المتمدن، أيدوا إسرائيل. فإسرائيل في السردية الغربية، وفي سرديتها الخاصة، هي المتمدن المتحضر المضطر لابتلاع فلسطين كي ينتشلها من هجمية أبنائها. لكن حين طمست صحفية مصرية أمريكية، منى الطحاوي، ذلك الإعلان منذ 10 سنوات مضت، كُبّلت وعوملت كما يعامل الهمج رغم أنها استخدمت حقها الحضاري في التعبير.

 لكن ما فات منى أن المتحضر كلمة لا تحتمل التأويل فهي الغربي دائمًا، وإسرائيل هي رمز الحضارة مهما ارتكبت من جرائم. ومن منى إلى شيرين، ومن 2012 حيث حادثة منى إلى 2022 حيث قتل شيرين، ظلت إسرائيل عنوانًا لانتهاك الحضارة ومعاداة الإنسان.

ولن تكون شيرين الأخيرة، ليس لأن الاحتلال الإسرائيلي لن يُعدّل من معاملته للفلسطينيين أو الصحفيين، بل لأن فلسطين سوف تستمر في إنجاب تلك الأصوات التي تؤرق الاحتلال، وأن الفلسطينين لن يصمتوا حتى يتخلصوا من المحتل، حتى لو كان بأن تستمر دماء أبنائهم في الانهمار حتى تغرق المُحتل.