ليست إسرائيل وحدها: الفقر يضرب بيوت غزة

ذلك الحال يُقاسيه الكثيرون على امتداد مساحة قطاع غزة المُقدرة بـ 360 كيلومترًا مربعًا، تجدهم يُعانون الموت إهمالًا وهم على قيد البقاء، يأملون أن تعصف رياح اهتمام حكومي بواقعهم فيُكتبون مع الأحياء رغم وهن أجسادهم. تراهم يعيشون على أطراف المدن في المحافظات الجنوبية الخمس، بيوتهم من جدران متهالكة وبعض ألواح صفيح مهترئة تستر عوراتهم؛ لكنها لا تقيهم حرّ الصيف ولا برد الشتاء.

في أحسن الأحوال تتكون من غرفة ودورة مياه، قد تحتل الغرفة مساحة البيت جميعه بما لا يزيد عن ثلاثين مترًا طولًا وعرضًا، تُقسم أجزاءً وفقًا لاحتياجات أفراد الأسرة؛ جزء للمطبخ، يكون عبارة عن صنبور مياه يجاوره يمينًا ويسارًا بضعة أمتار من الخشب أو الصفيح أو الإسمنت، ليُشكل طاولة تعتليها أواني طهي بالية وبعض مقومات الطهي الأساسية من بقوليات وبعض المُعلبات، التي يتم الحصول عليها من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين، فيما يتعارف عليه فلسطينيًا «كابونة طارئة» لأفقر الفقراء. فيما يُقسم الجزء المتبقي إلى غرف نوم لا يفصلها عن بعضها سوى أغطية رثّة، إحداها يستقر خلفها الذكور والثانية للإناث والثالثة للوالدين.

هناك في كل الأحياء المهمشة بقطاع غزة من شماله إلى جنوبه، تتآلف ملامح وجوه السكان مع مشاعر القهر التي يعيشونها، فتبدو عابسة، هناك حتى براءة الأطفال يغتالها المرض، وأنوثة النساء يُفقدها الفقر معناها، هناك يستمر الجميع بالركض خلف بصيص حياة بلا استسلام، فهل يومًا سيستطيعون إليها سبيلًا؟

«نهر البارد» في خان يونس: شاهد على وجع الحياة

إنها التاسعة صباحًا بتوقيت غزة، الشمس ما زالت تُطلق وهج أشعتها على حي «نهر البارد» لكنّ أهله لا يدفئون، فطقس الخريف البارد أعلن قدومه بعزم شديد، وهم لا يملكون من المال شيئًا يبتاعون به لباسًا يُشعل حرارة جلودهم، ولا أغطيًة تُدفئ أجسادهم، وكذلك لا تُساعدهم على ذلك بيوتهم المصنوعة من صفيح. فقط يحتالون على نسمات البرد بإشعال موقد حطب بدائي يطهون ما تيسر من طعام، ليُدفئ داخلهم ويستمرون بالحياة.

«أبو محمد المصري» في العقد الخامس من عمره، أول من استقبلنا في الحي الواقع إلى أقصى جنوب غرب مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، كان يجمع «خردة الحديد» ليأوي بها إلى سوق المدينة، يبيعها ويشتري بثمنها قوتًا لأبنائه التسعة.

لخمس دقائق نفض الرجل يديه من غبار الخردة، وحدثنا عمّا يُقاسيه من وجع الحياة منذ أن تعطل عن العمل خلال سنوات الحصار العشر الماضية، لقد كان الرجل يقطن في بيت بالإيجار في وسط المدينة لكنه لما لم يستطع دفع المبالغ المتراكمة، طرده صاحب المنزل، ووجد تاليًا موطئ قدم له ولأسرته في حي «نهر البارد» باعتباره منطقة نائية، وكذلك أرضًا حكومية غير مستغلة بسبب انخفاضها عن مستوى الأرض، ووجود مقبرة ومكب للنفايات في محيطها، يقول لـ «إضاءات»: «أقمت منزلًا بأبسط الإمكانيات ليسترني وأسرتي».

بنظرة مُقربة لما يُسميه الرجل منزلًا تجده خاليًا من أي مقومات الحياة الإنسانية، فقط جدران من حجارة متهالكة جمعها من بقايا البيوت التي قُصفت خلال العدوان الإسرائيلي عام 2014، وبعض الأقمشة زهيدة الثمن يغطي بها النوافذ، وأخرى يتخذها ستارًا حاجبًا بين غرف النوم، يؤكد أنه لم يملك المال ليُشطب منزله ويُهيئه بمقومات الحياة الإنسانية، بينما تشتكي زوجته وبناته الخمسة من عدم حصولهن على خصوصيتهن داخل المنزل، وكذلك من اعتلال أجسادهن بالأمراض المزمنة نتيجة الرطوبة والبرد الشديد في ليالي الشتاء، وانتشار الحشرات والقوارض التي تتغذى على مكب النفايات القريب منهن.

تتمنى زوجته «أم محمد» أن تنظر إليهم الحكومة بعين الاهتمام قليلًا، وأن توصل شبكات كهرباء ومياه وصرف صحي لبيوتهم لتمنحها سبيلاً للعيش الآدمي، وتُناشد الجهات الرسمية والأهلية أن توفر التمويل اللازم من أجل تحسين ظروف العيش في تلك المنطقة، أو تعويضهم ببيوت في التجمعات السكنية التي تمولها جهات خارجية عربية وأوروبية في إطار إعادة الإعمار.

وتفتقر حياة الناس في حي «نهر البارد» إلى أبسط مقومات الحياة الإنسانية؛ فلا مركز صحي للرعاية الأولية هناك ولا المياه تزور بيوت السكان وكذلك الكهرباء، فهم يُضيئون بيوتهم بالوسائل البدائية كـ «لمبة الكاز»، كما تنتشر بينهم الأمراض خاصة الأطفال الذين لا يجدون متنفسًا للهو إلا في الفراغ بين بيوتهم ومكب النفايات والمقبرة.

«جحر الديك»: عزل وتهميش

بالانتقال إلى وسط القطاع لا تبدو تفاصيل الحياة لدى سكان منطقة «جحر الديك» مختلفة كثيرًا، فالمنطقة الواقعة على بعد عشرة كيلومترات عن وسط مدينة غزة يعيش فيها أكثر من 4500 مواطن، جُلهم من العمال الذين منعتهم إسرائيل من العودة إلى العمل في الأراضي المحتلة عام 1948 في أعقاب اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000.

«عطاف أبو حجير» لا يُجاوز عمرها الأربعين عامًا، لكنها تبدو أكثر من ذلك بعشرين عامًا على الأقل، هذه السيدة منذ أن تزوجت في أوائل التسعينيات تُقاسي الأمرين، تمرست الطهي على موقد تقليدي صنعه زوجها لها من الطين لعدم قدرته على شراء موقدٍ عادي، تقول لـ «إضاءات»:

تخلو تلك المنطقة من مظاهر الحياة الحضارية؛ فالكهرباء التي تصل بالكاد إلى المدن المأهولة بالسكان لا تصلهم، وكذلك شبكات المياه والصرف الصحي؛ ما يؤدي إلى كوارث بيئية وصحية، لا يلتفت إليها أي مسئول في وزارة حكومية إلا ببعض التصريحات الفارغة من مضمونها.

تؤكد «أبو حجير» أن بيتها المسقوف بالصفيح والذي يأويها وأبناءها الخمسة قُصف خلال عدوان 2014، وكذلك تضررت الأرض الزراعية التي تزرعها وتعتاش من مدخول محصولها. تقول:

لافتة إلى أن بعض الدول العربية مولت مشاريع إسكانية في المنطقة لكنها لم تستفد منها. الحال ذاته لدى «جبريل السواركة»، الذي يؤكد أن ما يزيد معاناة سكان «جحر الديك» هو ممارسات الاحتلال التي لا تنتهي؛ بدءًا من تجريف الأراضي سواء في وقت الحرب أو السلم، يقول:

ويُضيف: أن الاحتلال لا يكتفي بأعمال الهدم والتجريف، وإنما يعمد إلى سرقة موارد المياه، وذلك عن طريق سحب المياه الجوفية عن المنطقة وضخها إلى الداخل المحتل، ما يؤثر على السلة الغذائية للسكان.

ما يؤلم «السواركة» حقًا حالة التهميش وعدم الاهتمام الرسمي من أي حكومة سابقة أو حالية، يؤكد أن أحدًا من الحكومات لم يُسهم في بناء مدرسة أو مستوصف صحي، ويُشير أن أبناءه يضطرون لقطع مسافة أربعة كيلومترات تقريبًا مشيًا على الأقدام للوصول إلى المدرسة وأحيانًا يستقلون العربات البدائية، بينما غالبية السكان لا يُرسلون أبناءهم إلى المدارس لأنهم لا يملكون الأموال لنفقات التعليم.

يُطالب الرجل وسكان «جحر الديك» جميعهم بدعم حكومي يتخطى مرحلة الدعم الإغاثي إلى تنمية مستدامة عبر بوابة المشاريع الزراعية، مؤكدين أن أراضيهم يُمكن أن تُنتج سلة غذائية متنوعة تفي باحتياجات السكان في قطاع غزة.

«قرية أم النصر»: معاناة وموت بسبب برك الصرف الصحي

شمالًا حيث الأطراف الحدودية شمال قطاع غزة تتربع القرية البدوية على مساحة 800 دونم، يقطنها أكثر من 5 آلاف نسمة منذ العام 1997، جلهم من القبائل البدوية كـ «قبيلة الترابين والرميلات»، الذين نزحوا من منطقة الشيخ زايد بقرار حكومي آنذاك –وفق ما قال «كامل أبو قايدة» أحد وجهاء القرية- وأضاف أن السكان هناك يعتمدون على الرعي والزراعة لكن حياتهم ليست بالحياة الهانئة.

وصولنا إلى القرية البدوية لم يستغرق أكثر من نصف ساعة بعد خروجنا من منطقة «جحر الديك» وسط القطاع، لكن فرق المأساة تجاوز حدود المسافة بكثير، البيوت لم تكن إلا من علب صفيح؛ لا جدار قائم فيها والشوارع ترابية ملطخة بمياه الصرف الصحي المتدفقة من البرك المحيطة بالقرية من كل اتجاه.

في إشارةٍ منه إلى المعاناة التي يقاسيها في بيوتٍ غير آدمية، وشوارع وعرة، وانعدام للخدمات الأساسية من شبكة مياه وكهرباء، ويستكمل بغضب:

وقد سببت تلك البرك مكاره صحية وبيئية للسكان، وما زالت تعصف بهم حتى اللحظة دون أن يملكوا حلًا.

«فاطمة أبو راشد» تعيش في القرية البدوية منذ التسعينيات، تؤكد أن الأمراض الجلدية لا تُغادر أطفال القرية بالإضافة إلى الحمى وأمراض التلوث المعوي، وتُشير أنها نتيجة طبيعية لانتشار برك الصرف الصحي واختلاط مياهها بالتراب الذي يلهو به الأطفال، تقول:

لافتة إلى أن أثرها يشتد في الصيف، فلا تكف عن زيارة المركز الصحي بالقرية بأطفالها، غير أن النتيجة تكون واحدة؛ أمراض وفطريات جارديا وأميبا نتيجة التلوث.

ولا تنتهي معاناة أهل القرية عند وجود برك الصرف الصحي وإنما تتعدى إلى فيضانها وإغراقها بعض المنازل، حيث أشار المواطن «نصار أبو غزال» إلى حدوث انهيار في أحد أحواض الصرف الصحي عام 2007، نتج عنه تدمير عشرات المنازل ومقتل خمسة مواطنين من سكان القرية إضافة إلى العديد من الإصابات.

يرى السكان أن وجود أحواض الصرف الصحي بجانب منازلهم لا يليق بكرامتهم الإنسانية، وأكدوا أنهم منذ عام 2004 يُطالبون بنقلها إلى مناطق غير مأهولة بالسكان خاصة وأن قرار وجودهم في المنطقة لم يكن اختيارهم بل أُجبروا عليه.

أما رئيس بلدية قرية أم النصر فقد أشار أنه تم الاتفاق مع سلطة المياه والجهات المختصة على تحويل ونقل المياه إلى شرق مدينة غزة ومعالجتها معالجة أولية، ومن ثَمَّ حقنها إلى الآبار الجوفية والعمل تاليًا على ضخها عبر آبار اصطيادية للاستفادة منها في مجال الزراعة، لكن حتى اللحظة لم يتم تشغيل المشروع بشكل كامل، ما يعمق مأساة السكان هناك، ويجدد تخوفاتهم بانهيار آخر لأحد الأحواض كما في السابق.

قد لا يبدو الوصول صعبًا لأي من المناطق السابقة فالكل في قطاع غزة يعرف وجهته إليها باعتبارها المناطق الأكثر فقرًا ومرضًا، لكن فيما يبدو أن المسئولين وحدهم هم من يُخطئون الطريق، والادعاءات دومًا الانقسام الذي فرّق سبل التمويل وشتت وحدة المؤسسات الرسمية على قرار واحد ومسئول طيلة عشرة أعوام سابقة، فهل من سبيل لأولئك الناس لكي يعثروا من جديد على آدميتهم وملامح وجودهم الإنساني؟