صراعات إقامة الدولة: حروب عصابات «إسرائيل»
كانت الصراعات التي اشتعلت بين قادة عصابات الهاجاناه (كلمة عبرية تعني الدفاع) حول طريقة التعامل مع الانتداب البريطاني في فلسطين في فترة ما قبل إقامة «إسرائيل»، تمهيدًا لعصابات سرية أشد ضراوة ضد الفلسطينيين، والانتداب البريطاني، وحتى ضد أنفسهم فيما بعد.
الصراعات التي بدأت تشق طريقها إلى عصابة الهاجاناه كانت تتمحور بالأساس حول طريقة التعامل مع الانتداب البريطاني والعرب في انتزاع شرعية الوجود اليهودي أثناء فترة الانتداب البريطاني في فلسطين، بين محور يرى أن التفاوض والاكتفاء بالدفاع فقط (مع بعض العمليات السرية لأهداف محددة بدعم من الهاجاناه) يجب أن تكون هي المدخل، بينما يرى المحور الآخر ضرورة التعامل بالسلاح مع الانتداب البريطاني وأصحاب الأرض الفلسطينيين لانتزاع ما لا يمكن انتزاعه بالتفاوض.
عصابات وانشقاقات
سبق عصابات الهاجاناه عديد من العصابات الأخرى كمنظمة (بارغيورا) و(هاشومير «الحارس») و«سائقي البغالة» و«الفيلق اليهودي»، لكن تأسيس الهاجاناه – وفقًا لـ«إلياس شوفاني» في كتابه الموجز في تاريخ فلسطين السياسي – كان على يد حزب «أحدوت هاعفودا (وحدة العمل)» الذي تأسس في عام 1919، وسيطر على الهستدروت[2] والذي تبنى في مؤتمره في 1920 تشكيل منظمة للدفاع عن اليهود أثناء فترة الانتداب البريطاني (هاجاناه).
ظلت المناوشات والتوترات بين اليهود والعرب في البلدة القديمة ووقعت أحداث دامية، لعل أبرزها والذي كان نقطة تحوُّل وانشقاق بين قادة الهاجاناه آنذاك، وهي ثورة البراق، في 1929، وفشلت عصابات الهاجاناه فشلًا ذريعًا في الدفاع عن اليهود في ذلك الوقت، وراح ضحية الاصطدام بين الطرفين (كان الطرف اليهودي مدعومًا بقوات الانتداب البريطاني) 133 يهوديًّا وجرح 339 آخرين، بينما قُتل 116 فلسطينيًّا وعربيًّا وجُرح 232 آخرين.
كانت إحدى نتائج ثورة البراق هو انشقاق بين قادة الهاجاناه، على رأسهم أبراهام تهومي (1903-1990)، المولود في مدينة أوديسا الروسية، وفي عام 1923 هاجر إلى إسرائيل بطريقة غير شرعية.
بمجرد وصوله؛ انضم إلى الهاجاناه وأنهى تدريبه العسكري في 1925، ومع وقوع ثورة البراق، تبنى الأفكار الثورية مثل زئيف جابوتنيسكي (1880-1940)، القيادي بالحركة الصهيونية، الذي كان يرى العمل العسكري هو السبيل الوحيد للدفاع عن اليهود في فلسطين، وطالب بشراء أسلحة للدفاع عن أنفسهم.
بحسب الأرشيف الإسرائيلي، في 1926، التقى تهومي بجابوتنيسكي، أثناء زيارته لإسرائيل في تلك الفترة، وطالبه بشراء الأسلحة، لكن جابوتنسكي، لم يعره اهتمامًا في ذلك الوقت، في عام 1928، عرض تهومي على جابوتنسكي، خاصة مع ازدياد دفاع العرب عن أرضهم، اقتراحًا بإنشاء منظمة عسكرية بعيدة عن الهاجاناه.
كان تأثير تهومي هائلًا على قادة الهاجاناه، وهو ما يحيلنا إلى كتاب «تاريخ الهاجاناه» الذي يَرِد فيه ذكر تهومي بالقول: «كان تأثيره على القادة في القدس هو الأعظم؛ إذ إنه في محادثاته معهم، تحدث عن الحاجة إلى تحويل (الهاجاناه) إلى منظمة ذات طبيعة عسكرية أكثر»، ويأتي على لسانه: «بدلًا من الانضباط الذي يأتي من التفاهم والصداقة، هناك حاجة إلى الانضباط الذي يقوم أيضًا على القوانين العسكرية».
في ذلك الوقت كانت التوترات بدأت تلوح في الأفق، لكن قادة الهاجاناه لم يروا في الأمر حاجة إلى مزيد من الأسلحة، لذلك تجاهلوا مطالب تهومي، لكن الانقسامات والأصوات التي تطالب بمزيد من الأسلحة للدفاع عن اليهود بدأت تظهر على السطح؛ وبدأ تكوين معسكرات موالية لكل شخص وفكره، حتى إن تهومي اتُّهم بأنه يخطط لانقلاب على قادة المنظمة، وجمع الأموال لإنشاء منظمة عسكرية أخرى تلعب الدور الذي ترفضه «الهاجاناه» في ذلك الوقت ضد الانتداب البريطاني.
في شهادته عن تلك الفترة يقول تهومي: «لسنوات عديدة كانت الهاجاناه تُدار وكأنها فرقة إطفاء، دون تدريب عسكري أو حتى نية لإنشاء منظمة عسكرية، وخلق اختلاف الآراء انقسامًا في الهاجاناه وتأسيس منظمة عسكرية موازية».
بعد اتهامه بالانقلاب، قرر إنشاء «إرجون» أو «المنظمة العسكرية القومية في أرض إسرائيل»، وكان السبب المعلن لتشكيل هذه العصابة؛ هو «القيود المفروضة من الانتداب البريطاني على تعامل الهاجاناه مع الفلسطينيين»، وتولَّى جابوتنسكي (الصهيوني المتطرف) الرئيس الشرفي لها حتى وفاته في 1940.
في الثورة الفلسطينية الكبرى (1936)؛ كان هناك منظمتان: الهاجاناه، وإرجون، ونفذت الأخيرة عمليات استباقية أشعلت الثورة بعد أن فقد تهومي السيطرة على التنظيم السري الجديد؛ بنحو 20 عملية أو أكثر راح ضحيتها عدد لا بأس به من الفلسطينيين في ذلك الوقت.
وكان مفهوم «إرجون» الأمني تنفيذ عمليات انتقامية ضد المدنيين الفلسطينيين، والتي «وُصفت بالعنيفة والمدوية، وكان المفهوم الأمني أيضًا يتمحور حول السلام الكامل أو الحرب الشاملة»، ثم كثَّفت من عملياتها مع صدور الكتاب الأبيض (1939).
في أحد إعلانات «إرجون» جاءت مقولة: «تذكَّر أن أمر (لا تقتل) لا ينطبق على العدو؛ فموسى نفسه الذي أصدر الأمر (لا تقتل) قتل المصري ودفنه في الرمال»، وهو ما يشير إلى «العقيدة» العسكرية التي تبنتها العصابة الصهيونية السرية.
في ذلك الوقت؛ وجد الانتداب البريطاني زيادة هائلة في أعداد اليهود الذين يهاجرون إلى فلسطين؛ فأصدرت الحكومة البريطانية الكتاب الأبيض (وهو وثيقة بريطانية صدرت في 1939) الذي يحد من هجرة اليهود إلى فلسطين.
مع اندلاع الحرب العالمية الثانية أعلنت «إرجون» تجميد عملياتها ضد الانتداب البريطاني، وقاتلت إلى صفوف البريطانيين لمواجهة العدو المشترك وهو النازية، ثم اختلف قادة الحركة مرة أخرى على طريقة التعامل مع الانتداب البريطاني، فانفصل أبراهام شتيرن (1907-1942)، أحد القياديين في إرجون آنذاك، وأسس «ليحي» أو «محاربو حرية إسرائيل».
شتيرن كان يرى أنه «لا داعي للخوف من قتل العرب الأبرياء، لأن مصلحة الأمة تقتضي المضي إلى إقامة الدولة بأي ثمن»، والذي يعني به قتل الأبرياء «ليس مشكلة كبيرة» من أجل إقامة الدولة، آخذًا فكرة الطليعة التي تضحي بنفسها.
ويرى عدد كبير من الإسرائيليين في الوقت الحالي أن «ليحي» هي التي دفعت الاستيطان اليهودي قدمًا للأمام في مواجهة ما أسموه «التزمُّت البريطاني» في هجرة اليهود، إلى فلسطين أثناء فترة الانتداب، إذ كان نشيدهم الرسمي في البدايات: «جميعنا مجندون للحياة.. خلاصنا الوحيد هو الموت».
كان تأسيس «ليحي» في 1940، رد على إعلان «إرجون» وقف عملياتها ضد الانتداب البريطاني على وقع مشاركتها في الحرب العالمية الثانية، وحطت سلاحها في 1949، مع إعلان إقامة إسرائيل، وتأسيس الجيش الإسرائيلي، وانضمام كل تلك المنظمات والعصابات تحت ألويته.
وفقًا لموسوعة «دَعَت» فإن «ليحي» على مر أعوامها القصيرة نشرت عددًا من الصحف، بالإضافة إلى تشغيل محطة إذاعة «صوت إسرائيل» العبرية تحت الأرض، رغم «أنها كانت منظمة صغيرة لا يتجاوز تعدادها بضع مئات من الأشخاص، لكنها قامت بأعمال جريئة ضد العرب والحكومة البريطانية، من بينها استخدام الألغام ضد رجال الشرطة البريطانيين وشن هجمات على أهداف بريطانية».
رغم الاختلافات بين الهاجاناه وإرجون وليحي في كثير من القضايا حول استهداف عملاء بريطانيا وأعضاء الحكومة البريطانية فإن الهدف كان واحدًا وهو المضي قدمًا في الاستيطان وتعزيز الوجود اليهودي في فلسطين أثناء فترة الانتداب.
«ليحي» وموين
كان قائد العمليات في «ليحي» يتسحاق شامير، المتطرف الصهيوني المعروف، بعد مقتل مؤسسها «شتيرن» في 1942، وكان وزير الدولة البريطاني لشئون الشرق الأوسط (1880-1944)، إدوارد جينيس، المعروف باللورد موين، مسئولًا عن تنفيذ وثيقة الكتاب الأبيض.
كان حينها يحاول مسئولو الوكالة اليهودية إنقاذ يهود المجر تحديدًا قبل إرسالهم إلى معسكرات أوشفيتز، وسافر مندوب من وكالة الإنقاذ اليهودية للقاء موشيه شاريت، الذي أصبح ثاني رئيس وزراء لإسرائيل، ونقل اقتراحه إلى البريطانيين، لكن بأوامر من اللورد موين تم اعتقال هذا المندوب.
وتزعم تقارير إسرائيلية أنه حين طُلب من اللورد موين إنقاذ مليون يهودي أثناء الحرب العالمية الثانية من معسكرات النازيين، قال لهم: «ماذا سأفعل بمليون يهودي؟ أين أضعهم؟» وربما هو ذلك الذي تسبب في اغتياله في 1944، بالقاهرة.
تقول جوانا سايدل، الباحثة في جامعة نيوهامشاير الأمريكية: «وضع قادة ليحي السريين، يتسحاق شامير وإسرائيل إلداد، خطة للتخلص من موين».
ويسرد «شامير» في حواره مع سايدل: لماذا قتلت موين؟ أن «اللورد موين كان ضد اليهود بشدة، وضد إنشاء دولة لهم»، ويبرر بوضع أعلى مسئول بريطاني في الشرق الأوسط آنذاك كهدف لـ«ليحي»؛ لأنه «كان ضد أي هجرة يهودية، ولم يؤمن بوجود شيء كشعب يهودي».
والشيء بالشيء يُذكر أنَّ الانتداب البريطاني بعد مقتل اللورد موين، علَّق إعلانًا – والرواية على عهدة وزير الخارجية السوري فاروق الشرع أثناء مؤتمر مدريد للسلام 1991 – وبه صورة يستحاق شامير، وتحتها كلمة «مطلوب (Wanted)».
كان موين صديقًا لونستون تشرشل، وكان القتل بمثابة تحدٍّ لتعاطف الأخير مع اليهود، وقف متحدِّثًا في البرلمان البريطاني: «إذا كانت أحلامنا في الصهيونية ستنتهي على أيدي هؤلاء القتلة، وعملنا من أجل مستقبلها سينتج مجموعة جديدة من رجال العصابات فإنهم يستحقون ألمانيا النازية».
وصل الأمر إلى تخطيط «ليحي» لاغتيال كبار القادة البريطانيين وعلى رأسهم ونستون تشرشل، حسبما كشف الأرشيف الوطني لبريطانيا، إذ تشير الوثائق التي تم نشرها إلى أنَّ «المعلومات التي حصل عليها الضابط البريطاني، جيمس روبرتسون، من أحد أعضاء الحركة السرية الذي اعتقل في أبريل 1945 واستجوبته سلطات الانتداب أن (ليحي) تُدرِّب أعضائها على الذهاب لإنجلترا واغتيال أعضاء الحكومة، وبصفة خاصة وزير الخارجية البريطاني آنذاك، إرنست بيفين».
موسم الصيد
موسم الصيد، هو المصطلح الذي اشتهر بعد مقتل اللورد موين، نظرًا لوشاية جهاز استخبارات الهاجاناه «البلماح»، بأعضاء «إرجون» و«ليحي» بهدف وضع حد لنشاطاتهما ضد الانتداب البريطاني، حسبما يقول المؤرخ الإسرائيلي، يهودا لابيدوت، والذي كان عضوًا في منظمة «إرجون».
وكان الجدال قائمًا بين قادة الهاجاناه، وقادة إرجون وليحي قبل مقتل اللورد موين حول ضرورة قبول الأخيرين لسلطات الهاجاناه ووقف النشاطات «العدائية» ضد الانتداب البريطاني، والانصياع لأوامر قادة الهاجاناه.
بحسب لابيدوت، فإنه في سبتمبر 1944، عقد قائد الإرجون آنذاك، مناحيم بيجن، اجتماعين مع موشيه سنيه، رئيس مقر الهاجاناه العام، وإلياهو جولومب، أحد قادة الهاجاناه، وكان سنيه أقل حدة من جولومب، إذ قال الأخير: «يجب وقف نشاطاتكم ضد البريطانيين فورًا، لا نريد حربًا أهلية؛ لكننا سنكون مستعدين لذلك أيضًا، سنضطر إلى اتخاذ تدابيرنا الخاصة لمنع أنشطتكم»، وصل الأمر إلى التهديد بالتصفية الجسدية إذا تطلب الأمر ذلك.
كان ذلك الاجتماع قبل مقتل اللورد موين، بعد مقتل اللورد موين كانت نقطة التحوُّل لدى الهاجاناه في التعامل مع قادة «إرجون» و«ليحي»، فلقد أحدث اغتياله موجة من الصدمات في العالم بأسره، وأدانت الوكالة اليهودية العملية، وقررت شن حربًا على ما أسموه «بالتنظيمات الإرهابية» في فلسطين، في إشارة إلى «إرجون» و«ليحي».
بحسب لابيدوت فإن الوكالة اليهودية آنذاك أصدرت إعلانًا تحض فيه الآباء على تسليم أبنائهم للحكومة البريطانية، ونعتوا أعضاء «إرجون» و«ليحي» بالإرهابيين، وجاء في الإعلان: «إذا كان لديك ابن عنيد ومتمرد، فعليك إخراجه للحكماء، ويقول لهم: هذا ابننا، عنيد ومتمرد، ولن يسمع كلامنا، ويجب على جميع رجال المدينة رجمه».
عمل جهاز الاستخبارات التابع للهاجاناه (البلماح وشاي البالغ عددهم نحو 250 فردًا بحسب لابيدوت) على جمع أسماء أعضاء تلك العصابات لتسليمهم إلى الحكومة البريطانية في محاولة لتهدئة حدة الصراع بينهما، وعينوا حُرَّاسًا شخصيين لأعضاء الوكالة اليهودية لضمان أمنهم؛ خوفًا من تنفيذ عمليات اختطاف مضادة.
وفقًا للابيدوت فإنه تم تسليم ما يقرب من ألف شخص إلى البريطانيين، ونُقل معظمهم إلى معسكر اعتقال أقامته سلطات الانتداب البريطاني في منطقة اللطرون على طريق القدس، ونُفي العديد منهم إلى معسكرات اعتقال في أفريقيا، وتم اختطاف عشرات المشتبه بهم واحتجازهم في زنازين أقيمت خصوصًا لهم، واستُجوبوا من قبل البلماح وتعرَّضوا للتعذيب بين الحين والآخر.