إسرائيل وإيران بين حتمية المواجهة وتعدد الآليات
تصاعدت التهديدات المتبادلة بين المسئولين الإيرانيين والإسرائيليين بالتدمير المتبادل، وفي جو شرق أوسطي يتسم بسريالية سياسية مفرطة يزداد تعقيدها بتصرفات رئيس أمريكي يصعب التنبؤ بردّات أفعاله أو صدق أقواله، لكن التشبث بالاتجاه التاريخي لحركة الأحداث في الشرق الأوسط أو غرب آسيا، كما يحلو للروس والصينيين تسمية منطقتنا، قد يساعد على تصور سيناريوهات تداعي الأحداث.
تجمع دوائر الدراسات الاستراتيجية الأوروبية والأمريكية والروسية والصينية واليابانية والإسرائيلية والإيرانية والتركية -في منشوراتها باللغة الإنجليزية- على أن التضاد الاستراتيجي بين إيران وإسرائيل في المنطقة هو تضاد حقيقي، وفي كل أبعاده -ونستثني هنا التفكير الغرائزي عند تيارات سياسية عربية معينة- ويشير التوجه الاستراتيجي الإسرائيلي إلى أن إسرائيل تبني استراتيجيتها تجاه إيران على النحو التالي:
1. استراتيجية الثمن الأقل: وتعني دفع أطراف أخرى لمواجهة العدو وتدميره أو نهشه بدعم إسرائيلي دون مشاركة مباشرة، وتتمثل هذه الأطراف في الظروف الحالية في طرفين هما: الولايات المتحدة ودول الخليج، وكان الكثير من الدراسات الإسرائيلية وبعض الدراسات الغربية يراهن قبيل الربيع العربي وخلاله على مواجهة تركية إيرانية، لكن ظروف الأزمة السورية وملابساتها أضعفت هذا الاحتمال بقدر كبير.
وفي إطار هذا السيناريو فإن الطرف الإسرائيلي يسعى –وعبر اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة وفي بعض الدول الأوروبية- إلى تعزيز جهود الرئيس ترامب لتفجير الاتفاق النووي مع إيران أو إرباكه، وتراهن إسرائيل على أن إيران لن تستجيب لفكرة مراجعة الاتفاق أو إلغائه، وفي حالة خروج الولايات المتحدة من الاتفاق سيتصاعد الخلاف مع أمريكا مما يخلق فرصة للمواجهة لا سيما أن ظروف ترامب الداخلية، من اضطراب إداري وضغوط موضوع التدخل الروسي في الانتخابات لصالحه، تغريه بصرف الأنظار وامتصاص الأزمات الداخلية بمواجهة من مستوى معين مع إيران، وهو ما سيؤدي لخسائر إيرانية باهظة تضعفها وتضعف حلفاءها دون خسائر إسرائيلية تُذكر إلا من بعض الدعم اللوجستي للقوات الأمريكية، أي تكرار نموذج تدمير العراق دون خسائر إسرائيلية تذكر.
اقرأ أيضًا: ترامب يخطط للحرب العالمية: 3 تغييرات تشرح لك
البديل الثاني لإسرائيل في سياق استراتيجية الثمن الأقل هو استثمار العداء الخليجي –بقيادة السعودية- لإيران لا سيما في ظل وجود قيادة سعودية شابة يسهل التلاعب بسيكولوجيتها من قبل خبراء هذا الميدان، ناهيك عن ثقافة غرائزية ونقص في الخبرة بتعقيدات العالم. فإذا تكاتف الضغط الأمريكي والغواية الإسرائيلية للخليج بالوقوف إلى جانبهم، فقد يتم اتخاذ القرار بمواجهة عسكرية مع إيران يتم فيها تدمير متبادل عربي إيراني، وسيبقى الشحن الإعلامي أحد الوسائل لخلق البيئة المناسبة للمواجهة، مع احتمال تدبير أو افتعال حدث (كتفجير قوي او اغتيال مسئول أو سفير خليجي أو إيراني) ليكون صاعق التفجير للمواجهة العربية الإيرانية وبأقل الخسائر لإسرائيل.
2. استراتيجية الثمن المتوسط: تقوم استراتيجية الثمن المتوسط الإسرائيلية على «النهش المتواصل» لحلفاء إيران في المنطقة العربية، بنهش لبناني لحزب الله، وهجمات إسرائيلية بين الحين والآخر على الجيش السوري أو حزب الله في سوريا، وبنهش سعودي لأنصار الله في اليمن، وبضغوط على هيئات المجتمع المدني البحريني مما يُتهم منها بعلاقات أو تعاطف مع إيران، أو من خلال صلات غامضة مع حركات معارضة إيرانية، سواء من الأكراد أو في بلوشستان أو في الخارج «مريم رجوي زعيمة مجاهدي خلق»… إلخ.
وتتيح هذه الاستراتيجية لإسرائيل على المدى البعيد إنهاك إيران من ناحية وتجنبها مخاطر المواجهة الشاملة من ناحية ثانية، ناهيك عن أنها توفر لإسرائيل فرصة تعميق تغلغلها في السياسات العربية لمزيد من التطبيع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وبالتالي توظيف العداء العربي لإيران لصالح انفتاح عربي إسرائيلي. ولعل فكرة إرسال قوات عربية إلى سوريا -رغم هشاشتها- هي جزء من هذه الاستراتيجية لخنق النفوذ الإيراني بنفقات عربية وبمكاسب أمريكية على حساب إيران وروسيا.
اقرأ أيضًا: المهمة المستحيلة للقوات العربية في سوريا
3. استراتيجية المقامرة: ويبدو لي أن هذه الاستراتيجية هي الأقل جاذبية لصناع القرار الإسرائيلي، لاسيما أن الوجود الإيراني في سوريا ومخزون الصواريخ لدى حزب الله في لبنان واحتمال جر غزة لهذه المواجهة قد يجعل العمق الإسرائيلي تحت وابل من النيران التي قد تصيب إسرائيل بخسائر بشرية لا تحتملها بنيات المجتمع الإسرائيلي.
ولعل إشارة عدد من القيادات الإيرانية لافتقاد إسرائيل العمق الاستراتيجي مؤشر على النوايا الإيرانية في هذه المواجهة لو وقعت. وربما تأمل إسرائيل أن يبادر بعض العرب والأمريكيين وبعض الأوروبيين بالمساندة لها في حال وقوع هذه المواجهة، لكن ردود الفعل الروسية والصينية وربما التركية تبقى في حدها الأدنى في غير صالح إسرائيل، ولعل تنامي الخلاف الأمريكي التركي حول الموقف من الأكراد وحول صفقة صواريخ إس 400 الروسية وسحب تركيا لذهبها من أمريكا وموضوع فتح الله غولن، ناهيك عن السياسات التركية تجاه الموضوع الفلسطيني، تزيد من القلق الإسرائيلي تجاه جدوى مثل هذه الاستراتيجية.
4. استراتيجية المراهنة: ثمة تيار في إسرائيل يعتقد أن الوضع الداخلي في إيران مع استمرار الضغوط الاقتصادية والتورط في المزيد من مشكلات المنطقة واحتمالات نشوب نزاع سلطوي في مرحلة ما بعد خامنئي قد يفسح المجال لتحول استراتيجي في بنية السلطة الإيرانية واحتمال العودة لسياسات قريبة من سياسات الشاه السابقة، أو على الأقل الوصول لنظام أقل عداءً لإسرائيل، لكن تيارًا قويًا في إسرائيل لا يشاطر هذه الاستراتيجية الرأي، بينما يتوزع أغلب الاستراتيجيين الإسرائيليين على الاستراتيجيات الثلاث السابقة.
ذلك يعني أن الاستراتيجية الأنسب لإسرائيل في المدى القصير –حتى نهاية فترة ترامب- هي الاستراتيجية الأولى، لكن مخاوف إسرائيل من احتمالات غياب ترامب -عزلًا او اغتيالًا- يضغط عليها نحو تبني الاستراتيجية الثانية أو الثالثة. وتبقى «ربما» قائمة في منطقة ينقص كثير من سياساتها التفكير العقلاني، فقد يؤدي غياب حاكم عربي لتحول استراتيجي في توجهات الدولة وربما المنطقة كلها.