عزلة وعدوانية: معاناة الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة مع كورونا
ابتهج رامي بإجراءات الإغلاق بداية انتشار كورونا، فالعزلة أكثر ما يحبذ ابن الرابعة عشرة الذي يعاني من التوحد، أما أهله فغضبوا بسبب تغير روتينه قبل كورونا، كان يومه منظمًا بين المدرسة والتمرين والنشاطات، كل ذلك أُلغي ليحل محله فراغ الوقت، حاولت الأم إشغاله بروتينٍ بيتي لم يحمه من بعض العصبية والعدوانية، خاصة عندما يمضي وقتًا أمام شاشة الموبايل وألعاب الفيديو.
عانَى الأطفال ذوو الاحتياجات الخاصة كثيرًا خلال الشهور الماضية، فجائحة كورونا أرخت بثقلها على يومياتهم التي دخلت في الفراغ والفوضى بعدما كانت منظمة، أما الأهل فيحملون العبء الأكبر لتلك التغييرات، ويجهدون لخلق روتينٍ جديدٍ يُعوِّض أبناءهم ما فقدوه، فضلًا عن قلقهم على صحتهم خاصة أن أغلبهم يعانون من أوضاع صحية غير مستقرة، وبعضهم لديه جهاز مناعة ضعيف.
حتى الآن، لم يُثبت العلم تأثيرًا مباشرًا لفيروس كورونا على الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، عُثر على إصابات قليلة بينهم، واقتصرت إرشادات تعامل المدربين معهم على الإجراءات الوقائية المُعتادة، مثل ارتداء الكمامة، وغسل الأيدي المستمر بالماء والصابون، وكذلك تعقيم الأدوات المستخدمة، ما يبقي الأطفال في بيئة آمنة وبعيدة عن كورونا. أما إذا ظهرت على الطفل أعراض كورونا فمن الضروري الإسراع وإخبار فريقه الطبي، والقيام بالإجراءات اللازمة.
ولأن التزام البيت أمر بالغ الصعوبة على الأطفال وعلى الأهالي، ينصح الخبراء بأن يتم التحكم في الوقت قدر الإمكان، عبر تنظيم روتين يومي مع الطفل للأكل والأدوية والتمارين والنوم والقيام بأنشطة داخل البيت في حال عدم الخروج، والبقاء على اتصال مع المدربين والإخصائيين كي لا يشعر الأهل بالوحدة والعجز، وقبل كل ذلك ضرورة التحلي بالصبر وبذل كل الجهد المطلوب أملًا بتحسن الوضع، ولا بأس من طلب الدعم من الآخرين خاصة عندما يغلبهم التوتر والتعب.
واحدة من أبرز الجهات التي تقوم بتقديم الدعم لهؤلاء الأطفال هي «الجمعية المصرية لتقدم الأشخاص ذوي الإعاقة والتوحد»، فحتى في وقت الإغلاق واصل أعضاء الفريق من إخصائيين ومدربين التواصل مع الأسر والاطلاع على تطورات الأطفال ودعمهم بالتعليمات اللازمة للتعامل مع هذه الظروف.
لا تقتلوا الروتين
كان مهند (13 عامًا)، مَمَّن يرتادون مقرَّ الجمعية المصرية لتقدم الأشخاص ذوي الإعاقة والتوحد؛ لذلك كانت حالته مستقرة إلى حدٍّ كبير وفقًا لما أكدته لنا أمه، التي تعتبر أن الروتين يشعره بالطمأنينة ويجعله يتوقع الآتي ويتهيَّأ له نفسيًّا، وهو الأمر الذي تغير مع تعليق الدراسة، وانعكس تأثيره فورًا على نجلها بعدما غلبه الإرباك والقلق لعجزه عن فهم الظروف الطارئة، ثم استوعبها عن طريق الحوارات القصيرة والقصص الاجتماعية.
تضيف الأم: «بالنسبة لشخص «غير لفظي» مثل ابني، فإن توصيل رسالتنا يتطلب المزيد من الأفعال والقليل من الكلمات، بدأنا في إنشاء روتين جديد له، نشاركه في المهام اليومية والأعمال المطلوبة على مدى اليوم، أشياء مثل ترتيب غرفته وطهي الطعام والغسل. مع تخصيص بعض الوقت للتسلية أو الحرف اليدوية».
وهنا تؤكد الأم، أن المفاجأة كانت تكيُّفه السريع مع التغيير وإظهاره لمهارات عديدة خلال إنجازه مهامه، تقول: «أدركنا أن الظروف التي مررنا بها كانت مفيدة لأنها أجبرتنا جميعًا على المكوث في المنزل دون مساعدين، ما ساعد على رسم الروتين الجديد بسرعة وبشكل ممنهج. ورغم أن ابني لا يزال يفتقد معلميه وروتينه القديم، فإننا سعداء ونحن نراه يتكيف بشجاعة مع التغيير المفاجئ الذي يمر به العالم الآن».
التجربة نفسها مرَّت بها أم حسين (17 عامًا) التي سعت لشغل وقت ابنها في أعمال البيت ونشاطات العائلة وألعابها الجماعية، في سبيل تفريغ طاقته، بعدما تأثر نجلها بالإغلاق والتزام البيت، لكنَّها عزَّت نفسها بشأن هذه الأوضاع الصعبة بأن ظروف الكورونا أرخت ثقلها على الجميع وقلبت حياتهم، وليس عليهم فقط.
تتابع: «ابني لم يكن معتادًا على البقاء في البيت طوال الوقت، ما أصابه بالملل والعصبية، حاولنا البحث عن حلول تلائمه بعد التواصل مع كادر الجمعية، ثم بدأنا تنظيم يومياتنا بين أعمال البيت والطهي والتمرينات والنوم، الأمر الذي خفَّف وطأة الظروف الصعبة».
في المقابل، كان الاندماج في المجتمع والتواصل مع الآخرين الشغل الدائم لأهل رامي (14 عامًا)، بهدف إخراجه من عزلته التي يفضلها، وقد غرق بها بعد إغلاق مركز تأهيل ذوي الاحتياجات الخاصة، كان يرتاده قبل كورونا.
تقول والدته إنهم كانوا يعيشون وفق روتين يومي يشغل وقت ابنها ويجعله على تواصل دائم مع الآخرين، لتأتي كورونا وتغيِّر كل النشاطات والتمارين والاحتكاك أيضًا، فعاد رامي إلى عزلته التي يحبذها على أن يخالط أحدًا.
تضيف: «كنا نذهب إلى المركز والتمارين، بعد كورونا توقف ذلك، أكثر ما كنَّا نحقِّقه من هذه التمارين هو التواصل الاجتماعي، لتأتي كورونا وتزيد العزلة الاجتماعية على ابني، ما أثَّر علينا سلبًا؛ لأنه من الصعب تعويض ذلك في البيت، رغم أن ابني يجد في ذلك راحة لأنه يحب عزلته ويفضلها على أي شيء آخر، لكن هذه الراحة ليست في مصلحته».
عبثًا حاولتْ أم رامي تعويض ما فاته في البيت، وكان أحد الحلول هو جلسات «أون لاين» لم يتقبلها في البداية ولم يعرها انتباهه، ثم مع الوقت استجاب لها وجاءت بنتيجة جيدة بنسبة 70% عن الجلسات الحقيقية، لكن بقيت فجوة التواصل الاجتماعي قائمة لعدم تمكنه من الخروج، وسط فشل كل محاولات إدماجه مع أفراد الأسرة الكبيرة كأولاد أعمامه وخالاته.
ابن الـ14 بات يشارك أمه في أعمال البيت، تحكي: «يدخل المطبخ ويساعدني في تفاصيل البيت ونشاطات ننفذها معًا في محاولة لملء وقته، رغم ذلك يبقى هناك المزيد من الفراغ، خاصة في ظل انشغال والده بالعمل، الأمر الذي يدفعه إلى التسلية في الموبايل وألعاب الفيديو، ولم أستطع منعه لأنه يقتل بذلك الوقت، لكن على جانب آخر فهي تؤثر على إدراكه وانتباهه وتزيد العصبية والعدوانية».
تأثير طويل الأمد
تؤكد هند مجدي، معلمة التربية الخاصة، أن الكورونا «قلبت حياتنا وأعمالنا وثقلها نال جميع فئات المجتمع، غير أن ذوي الاحتياجات الخاصة هم الأكثر تأثرًا، خاصة وقت الإغلاق التام الذي أقعدهم في البيت، وتسبب في تدهور أحوال غالبيتهم».
وتعتبر أن التزام البيت أنساهم ما تلقوه في المركز من تدريبات وتأهيل، بل ظهرت على بعضهم سلوكيات كانت قد اختفت بفعل التدريب، كالغضب وقلة التركيز وغير ذلك، وهناك بعض الأهالي الذين حاولوا مواجهة ذلك عبر إجراء جلساتٍ افتراضية لأبنائهم، لكنها لم تؤتِ ثمارها كالواقعية.
هند معلمة تربية خاصة في مركز خاص لتأهيل ذوي الاحتياجات الخاصة، اضطر المركز للإغلاق لشهور عديدة حسب قولها، وعند إعادة فتحه كانت تغيرات كثيرة قد طرأت على الأطفال عند عودتهم إلى المركز بعدما رُفع الإغلاق، خاصة في ظل عجز الأهالي عن تعويض تدريبات المركز ومكوث الأطفال وقتًا طويلًا أمام شاشات التلفزيون والموبايل، كل ذلك دفع فريق المركز من المدربين والمختصين إلى إعادة تأهيل الأطفال وتقويم سلوكياتهم، تشرح: «أعدنا تأهليهم وتدريبهم والعمل على السلوكيات السلبية التي ظهرت، سعينا إلى هيكلة روتين جديد لأطفال التوحد الذين يجدون أمانهم في الروتين ويعانون مع تغييره، بل يسيطر عليهم الغضب والتعب».
لكن العودة لم تشمل جميع الأطفال، بحسب المدربة، بسبب الواقع الجديد الذي خلقه كورونا على العالم، تقول: «كان ضروريًّا تقليل عدد الأطفال وتنفيذ التباعد بينهم، أيضًا تناوب المدرسون تخفيفًا لعدد أعضاء الفريق والالتزام الجدِّي بالإجراءات الاحترازية، بدايةً من تعقيم الأطفال والمدربين والإخصائيين قبل دخولهم المركز، ثم قياس الحرارة باستمرار ومتابعة ما يظهر عليهم من أعراض، واليوم يستعد فريق المركز لقرارات الدولة فيما يتعلق بالموجة الثانية لكورونا».
تحديات وعراقيل
المركز الذي تعمل به هند يرعى أطفالاً بإعاقات مختلفة، وفيه يعمل المدربون على تعزيز مهارات الإدراك والانتباه والتركيز وتنمية المهارات الأكاديمية ومهارات رعاية الذات، أي كيف ينجزون بعض المهام الخاصة بهم دون تدخل الآخرين، لكن هناك تحديات كبيرة تواجه ذوي الاحتياجات الخاصة في مصر، أهمها جهل الأهل بإعاقات أبنائهم وتأخرهم في اكتشاف الحالة أو الدراية بضرورة علاجها والبحث عن مراكز مختصة بذلك، بحسب هند مجدي.
وتتابع هند بأن التنمر حاجز يحول دون اندماج الأطفال ذوي الإعاقات مع أقرانهم، خاصةً في المدارس الحكومية غير المؤهلة لذلك، وهنا يجب إجراء جلسات لجميع أطفال المدرسة حول كيفية التعامل مع الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة واستيعابهم وتسهيل عملية دمجهم مع الآخرين.
وتضيف مُعلمة التربية الخاصة تحديًا أكبر يُواجه هؤلاء الأطفال وهو غلاء أسعار المراكز والجلسات الخاصة، مؤكدة أن من المشاكل الأخرى التي تعوق نجاحهم في مهمتهم هو أن بعض الأهالي لا يدركون أن الاستمرار في التأهيل شرط ضروري لتحقيق النتائج المأمولة، غير أن بعضهم يعتبر أن الأمر سينتهي بجلسة أو اثنتين. تنهي حديثها معنا بالقول: «نحن مهتمنا تأهيل الأطفال وليس علاجهم، نبذل ما بوسعنا كي يعيشوا حياة تناسب ظروفهم وتواكب إدراكهم».