مسارات الإسلاميين: كيف يراها الريسوني اليوم؟ | مقابلة
بعد انتخابه رئيسًا للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، أحدث مقال الدكتور أحمد الريسوني «مستقبل الإسلام بين الشعوب والحكام» جدلًا واسعًا بعد أن سدد ضربة قوية لكثير من الحركات والتنظيمات الإسلامية حول نظام الحكم في الإسلام الذي أطاح فيه بنظرية يتبناها كثير من الإسلاميين هي أن الخلافة هي النظام الإسلامي للحكم، وهو ما أوضح ملابساته في بيان لاحق.
وقد استمرت مراجعات الريسوني لمسارات الإسلاميين السياسية بعد ذلك، حيث قال في حوار مع موقع «ميدان» إن الإسلام ليس به نظام حكم بالمصطلح السياسي الدستوري، «وإنما توجد أسس وتوجهات عامة يجب التزامها والبناء عليها، كالعدل والشورى والحكم بما أنزل الله ومساءلة الحكام».
لم يطرح الدكتور الريسوني في تلك الحوارات والمقالات تقييمه لتجربة الإسلاميين في المغرب ومصر وتركيا، وهو التقييم العملي الذي من شأنه أن يتمم نقده النظري لفكرة الخلافة وتجربة الإسلاميين. نقدم هنا حوارًا أجري في 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، مع الدكتور أحمد الريسوني، يتناول فيه تجربة الإسلاميين في الحكم في المغرب والانتقادات الموجهة إليه، ومدى مسئولية الإخوان عما حدث بعد أحداث 30 يونيو 2013، وكذلك تعليقه على الانتقادت التي وجهت خلال الأعوام الأخيرة للتحولات في تجربة حزب العدالة والتنمية التركي.
إضاءات: كيف تُقيم تجربة الإسلاميين في الحكم في المغرب من بعد 2011؟الريسوني: نعتبر تجربة الإسلاميين جيدة وناجحة، وكان يمكن أن تنجح أكثر لولا كثير من الصعوبات والعراقيل، ولولا أن صلاحياتهم محدودة سواء في الحكومة، حيث كما هو معروف عندهم بعض الوزارات بالإضافة إلى رئاسة الحكومة، ولكن أغلبية الحكومة ليست منهم، وليس لهم أغلبية برلمانية، وهناك مؤسسات خارج نطاق الحكومة، وبعضها فوق الحكومة.
في هذا الحيز المحدود والصعوبات المعروفة، تبقى تجربتهم جيدة، وكان لهم عدة مواقف وإنجازات وقوانين وقرارات شجاعة كان لها مردود جيد على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي، وربما أهم من هذا كله كما قال أحد الأكاديميين: «هذا أول حزب يحكم ويخرج نظيفًا من تجربته في السلطة».
إضاءات: هناك بعض المآخذ على الحكومة بخصوص بعض القضايا لم يكن هناك تفاعل معها من الحكومة مثل أحداث الحسيمة وغيرها.الريسوني: نحن أمام دولة وحكومة، فالحكومة صلاحياتها محدودة، فالحكومة لم تصنع الحسيمة ولا هي قادرة على معالجة ملف الحسيمة، ولا يسمح لها بمعالجة ملف الحسيمة؛ فهناك الصلاحيات الملكية، وهناك وزارة الداخلية التي هي دولة قائمة بذاتها ولا تخضع للحكومة ولا رئيس الحكومة. يجب أن يكون معروفًا، فالحكومة لا تستطيع حتى أن تقترب منها.
لذا يجب أن نكون واقعيين ونعرف صلاحيات الحكومة، والإسلاميون هم جزء من هذه الحكومة. حتى داخل الحكومة أحيانًا يعانون ويكابدون لتمرير قرار أو قانون، وقد لا يتمكنون من ذلك، لذا يجب محاسبة الإسلاميين في حدود ما لهم وصلاحياتهم وإمكانياتهم وما هو مسموح به لهم سواءً دستوريًا أو واقعيًا، فأحيانًا نجد أن الدستور يسمح لهم بما لا يسمح به الواقع.
ولكن على العموم، حتى دستوريًا، ليست الحكومة تتحكم في كل شؤون البلاد، وخاصة السياسة الخارجية والسياسة الأمنية (وزارة الداخلية) ووزارة الأوقاف وعدد من الوزارات والمؤسسات؛ لأن الدستور الحالي بصفة خاصة أحدث مؤسسات مستقلة دستوريًا عن الحكومة مثل المجلس الأعلى للتعليم. فالقضايا التي تُشير إليها وفيها تخبط وبها أزمات، هي خارج صلاحيات الحكومة.. وهذا هو الواقع.
إضاءات: هل معنى ذلك أنك غير راضٍ عن شكل نظام الحكم في المغرب حاليًا؟الريسوني: لا أظن أن هناك أحد يتكلم بشكل علمي وموضوعي يقول بأن الديمقراطية المغربية مكتملة أو نموذجية، لا من الأحزاب ولا الأكاديميين ولا المحللين. نحن في طور التدريب الديمقراطي، أو كما يسميه البعض «الانتقال الديمقراطي». وحتى الانتقال الديمقراطي، البعض يستكثره ويراه كثيرًا في توصيف الحالة.
نحن نوع من الديمقراطية الناقصة أو نوع من التدرج في الديمقراطية أو نصف ديمقراطية؛ هذه هي الأوصاف القريبة من الواقع. لذا، فالسلطات الحقيقة هي خارج الديمقراطية، وخارج المؤسسات المنتخبة، وخارج الإرادة الشعبية؛ هذا هو الواقع. ونحن نقول هذا ونحن نسجّل أن هنالك خطوات إيجابية إلى الأمام. فكل طموح دعاة ومناضلي الإصلاح في المغرب هو أن يطوروا هذه الإيجابيات وأن يوسعوا هذا الهامش الديمقراطي.
إضاءات: قلتَ سابقًا إن فرملة النظام للحزب والحركة عام 1997 كان إيجابيًا وجيدًا، ولو أن الحزب تولى الحكم وقتها كانت ستكون كارثة، أليس هناك تعارض بين رأيك هذا ورأيك الحالي؟الريسوني: نحن ندعو إلى أمد متدرج، إلى ديمقراطية كاملة أو إلى ديمقراطية أحسن من هذه، هذا للمجتمع كله وللأحزاب كلها. لكن حين أتحدث عن حزب العدالة والتنمية الذي ظهر في صيغته الحالية قبل 20 عامًا أو أقل، هنا أقول إن هذا الحزب يجب أن يسير حسب طاقته وحسب خبرته وأن يتدرج وأن يكون شريكًا لا منفردًا؛ فلو استفرد، ولو أُعطي له بما تسمح حماسة الناس وتطلعهم إليه، لكان تحمل أكثر مما يُطيق.. وإلى الآن أنا ما زلت أقول هذا.
حتى بعد 20 عامًا، وبعد تدرج في عدد النواب في البرلمان، والتدرج في البلديات وفي الحكومة، ما زال الحزب يحمل أعباءً فوق طاقته وفوق خبرته وخبرائه. فجميع العاملين في حزب العدالة والتنمية تقريبًا كانوا يشتغلون في الدعوة وفي الحركة الإسلامية وفي الجلسات والمواعظ، وبعضهم له تجربة بسيطة في وظيفته الإدارية أو التعليمية لا أقل ولا أكثر؛ لكن الآن يدخلون في مستويات متعددة فيحتاجون أن يتدرجوا وأن يتحملوا ما يطيقونه، لكن نحن ندعو إلى ديمقراطية كاملة متطورة لمجموع المجتمع والأحزاب.
إضاءات: هل معنى هذا الكلام أن حزب العدالة والتنمية ليس جاهزًا لإدارة المشهد أو الاستحواذ على السلطة كاملة في المغرب إذا توفرت ديمقراطية كاملة؟الريسوني: ليس جاهزًا؛ لا لتحمل المسؤولية كاملة، ولا حتى تحمل مسؤولية الحكومة، وهي دستوريًا جزء من المسؤولية، فهناك مسؤوليات الملك وهي مسؤوليات ما زالت واسعة وكبيرة بحكم الدستور.
ولكن حتى الحكومة، ولا ننسى أن حزب العدالة والتنمية انتخب في معظم المدن المغربية، هذا وحده عبء كبير جدًا، لذا فلا أُريد لهذا الحزب أن يتحمل ما لا يُطيق فيفشل حتمًا، فتحمله ما لا يُطيق هو فشل مُحقق. فمن يريد أن يُحمله كل شيء هو يريد له فشلا مُحققًا، فالحزب لو لم يتحمل إلا المدن التي يحكمها مثل فاس ومكناس وطنجة وتطوان والرباط والدار البيضاء وأكادير ومراكش، وهي التي تمثل 80 بالمائة من سكان المغرب أو أكثر، و80 أو 90 بالمائة من اقتصاد المغرب يوجد في هذه المدن، لو خرج من الحكومة واكتفى بهذه المدن لكان شيئًا جيدًا.
لذا فإنني أرى أن حزب العدالة والتنمية ليس قادرًا على أن يُشكل الحكومة وحده، وليس قادرًا على أن تكون له أغلبية البرلمان، وليس قادرًا على أن يُسيّر المجالس المنتخبة في المدن وحده، ويحتاج لأن يكون شريكًا ومتدرجًا. وبعد ذلك، بحسب تراكم خبراته وخبرائه، يتولى ما يستحق.
إضاءات: كيف ترى أداء الإسلاميين في الحكم في مصر وتونس وتركيا؟الريسوني: الإسلاميون في تركيا الآن أمضوا فترة طويلة لعدة ولايات وحكموا حكمًا حقيقيًا، حكومة كاملة وأغلبية برلمانية وحكمًا محليًا، وتمكنوا من إعادة هيكلة الدولة وإعادة هيكلة النظام ونجحوا اقتصاديًا وسياسيًا، وكل هذا نجاح باهر. هذه تجربة لا يمكن مقارنتها بتونس ولا مصر ولا المغرب.
إضاءات: بمناسبة الكلام عن تركيا.. بعد الأحداث الأخيرة، هناك موجات اعتقالات والقبض على المعارضين وآلاف الأشخاص الذين فقدوا وظائفهم. كيف ترى تلك الممارسات بعدما تملك حزب العدالة من الحكم؟ فهل هذا انقلاب على الديمقراطية والحرية التي أوصلته إلى الحكم؟الريسوني: هذا ليس انقلابًا على الديمقراطية وإنما انقلاب على الانقلاب، حيث لا يمكن أن تذكر الاعتقالات والمحاكمات بالآلاف أو عشرات الآلاف دون أن نذكر السبب، فهم لم يُعتقلوا هكذا دون سبب، ولم يُعتقلوا قبل محاولة الانقلاب العسكري الدموية على الديمقراطية والانتخابات، وعلى شرعية ديمقراطية لا يطعن فيها أحد لا من معارضة ولا من الداخل ولا من الخارج. فيأتي هذا الانقلاب الدموي الذي كان من مخططاته قتل الرئيس الفعلي أردوغان، فكان عملاً شنيعًا وقبيحًا جدًا، وللأسف معظم الدول الغربية كانت مترددة وبعضها يميل للتأييد وبعضها وقف موقف المتفرج.
لذا، فالاعتقالات والمحاكمات والفصل من الوظائف له سبب. لكن أنا اعتقادي، ولست في تركيا ولا أعرف كثيرًا من الخفايا، لكنني أرى أن رد الفعل كان مبالغًا فيه، لأن رد الفعل كان ينبغي أن يقتصر على المشاركين في المحاولة الانقلابية سواء كانوا عسكريين أو مدنيين الذين دعموها أو الذين كان لهم علم بها؛ هؤلاء نعم يُحاكمون لا إشكال في ذلك، لكن أن تمتد التصفية إلى هذه الجماعة التي أعضاؤها بالملايين، وأن يعاقب الناس لمجرد الانتماء إليها، وأن يُطاردوا حتى خارج تركيا، وأن تُطارد حتى مدارسهم، ومنها مدارس أُغلقت في المغرب وفي عدد من الدول، هذا أمر أظنه مُجحفًا وظالمًا ومبالغًا فيه.
إضاءات: خرج بيان من الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يؤيد التعديلات الدستورية في تركيا للتوجه نحو النظام الرئاسي، ويصفه بأنه هو النظام الإسلامي، وقد أشرتَ سابقًا إلى أن هذا البيان هو اجتهاد شخصي من الدكتور يوسف القرضاوي، فهل يمكن أن نُطلق على نظام حكم بأنه إسلامي أو غير إسلامي؟ أي هل يمكن أن نقول إن النظام الرئاسي هو نظام إسلامي والنظام البرلماني غير إسلامي؟الريسوني: أنا لا أتذكر بالضبط العبارة التي استخدمها الشيخ، لكن بحسب ما أعرفه من رأيه ومن رأي غيره أن النظام الرئاسي أقرب إلى النموذج الإسلامي، والنموذج الإسلامي عندنا هو الخلافة الراشدة، والنظام الإسلامي يتحدث دائمًا عن ولي الأمر وعن الإمام وعن الخليفة، إذن هناك سلطة مركزية تتمثل في رئيس الدولة، وهذا ما يُسمى اليوم بالنظام الرئاسي، فيرى الشيخ أن هذا هو الأقرب، ولذلك هو أيّد النظام الرئاسي في مصر حين كان هناك نقاش حول الدستور المصري، وأيده في تونس ولو أنه لم يؤخذ به تمامًا، إذن فهو له رأي بأن هذا هو الأقرب إلى النموذج الإسلامي وليس إسلاميًا وغير إسلامي، ولكن رأيي الشخصي أن الأقرب إلى الإسلام هو ما يحقق العدل والمصلحة والاستقرار، كل ذلك إسلامي، ما دام الإسلام لم يضع نموذجًا مفصلاً فالأمر اجتهادي.
إضاءات: مصر.. لكم آراء ومداخلات وتعليقات كثيرة على حكم الإخوان المسلمين في مصر، ولكن بعدما وصل الحال إلى ما هو عليه الآن في مصر، كيف ترى أداء الإسلاميين في الحكم في مصر؟الريسوني: سأقول لك أمرًا ربما يكون مفاجئًا، وهو أن ما أقوله يقوله عامة الإسلاميين في العالم، وهو أن أداء الإخوان المصريين بصفة خاصة ضعيف ومرتبك ويدل على ضعف الخبرة والتجربة أو التفكير السياسي. هذا رأي جميع الإسلاميين حتى المنتمين للإخوان خارج مصر؛ هذا ما يقولونه عن الإخوان في مصر. لكن للأسف يقولونه في الغالب في مجالسهم، وأنا أحيانًا أقوله علنًا وعلى الهواء، عمومًا أداء الإخوان المصريين السياسي ضعيف مرتبك، وهذا أدى إلى أن تقع منهم أخطاء كثيرة ويخوضوا مغامرات غير محسوبة، وهذا هو التقييم.
إضاءات: في أواخر عهد الرئيس السابق محمد مرسي، كان هناك عدد كبير من الإسلاميين حول العالم ينصحونهم، ولكن الجميع أجمع على أنهم لم يكونوا يستمعون إلى أحد. كيف تفسر هذا الأداء منهم؟ فحتى أقرب الأقربين منهم لم يكونوا يستمعون إليهم، فما هي الأسباب التي تراها لذلك؟الريسوني: هذا أمر حتى بعض الإخوان من مصر أحسوا به، ممن تركوا الإخوان من قبل أو من بعد، وهي هذه العقدة، عقدة الأستاذية وأن زعامة الحركة الإسلامية هي مصر، وهي إخوان مصر، وهذا طبعًا خطأ. كون الإخوان تأسسوا في مصر، وكون الحركة الإسلامية في مصر لها مكانتها، وكون مصر نفسها لها مكانتها، هذه المقدمات لا تخوّلهم لأن يكونوا أحسن الناس تفكيرًا وفي جميع الحالات ودائمًا.
إذن، فهناك عقدة عند الإخوان المصريين أنهم هم قادة الحركة الإسلامية، وهم أحسن الناس تفكيرًا وإدراكًا للعمل الإسلامي وأهدافه وخططه، وهذا ما ظهر خطأه عبر الأجيال وليس مؤخرًا، وهذا ما يؤخذ على الإخوان ممن هم معهم في جماعة الإخوان في الأردن وفي لبنان وفي جميع الدول العربية وغير العربية. يقولون إن الإخوان المصريين عندهم عقدة الأستاذية والتفوق والقيادة؛ لذلك لا يسمعون لأحد وينتظرون أن يستمع الجميع إليهم ويتلقى منهم، ولعل هذه النظرة قد تغيرت.
إضاءات: هل ترى أن الإخوان في مصر يتحملون جزءًا من المسؤولية مما حدث في 2013؟الريسوني: أنا أفرّق بين مسؤوليتهم في أنهم كان بإمكانهم أن يتلافوا ما وقع، كثيرًا منه أو جزءًا منه، كان بإمكانهم أن يخففوا الكارثة، ولكن إذا لم يفعلوا ليس معناه أنهم مسؤولون، هم من الناحية القانونية والأخلاقية والدستورية لم يفعلوا شيئًا يحملون فيه مسؤولية ما وقع من كوارث ومجازر وانتكاسات. هم ترشحوا للانتخابات وانتخبهم الشعب، ولم يزوّروا الانتخابات ولم يظلموا أحدًا. بالعكس، كانوا متنازلين عن كثير من حقوقهم، وكان الرئيس مرسي يُشتم على الهواء مباشرة من بلطجية الإعلام المصري والصحافة المصرية.
من يتحمّل مسؤولية الانقلاب هم من قاموا به، ومن موّلوه ودعموه.. هم من يتحملون المسؤولية كاملة في الدماء وفي إعادة الشعب المصري 80 عامًا إلى الوراء، وهم السعوديون والإماراتيون والغربيون والعسكريون بالدرجة الأولى؛ والإخوان أبرياء من هذه الجرائم.
لكن من الناحية السياسية وحسن التدبير وحسن إدارة المعركة، يتحمّلون [الإخوان].. لأنهم كان بإمكانهم أن يخفّضوا هذه المآسي بنسبة 70 أو 80 بالمائة، وكان يمكن تلافيها بالمرة، وكان من الممكن أن يفعلوا مثلما فعل التونسيون الذين كانوا عرضة لأن يقع لهم ولشعبهم مثلما وقع؛ لكن ثورة تونس ما زالت على قيد الحياة على كل حال، وما زالت مرجوّة ومأمولة، وما زال الشعب يستمتع بحريته، وما زالت الأحزاب تستمتع بحريتها لأن هنالك مكاسب تمت المحافظة عليها بمزيد من التنازلات ومزيد من المرونة، وبمد الجسور والتفاهم، وهو ما لم يقع في مصر فكان ما كان من كوارث.
إضاءات: هل كان لما حدث في مصر أثر على الإسلاميين خارج مصر دفعهم لإعادة التفكير مرة أخرى؟الريسوني: هذا صحيح بخصوص تونس فقط، لأن تونس مرتبطة بتجربة الإخوان ارتباطًا ما. ربما الآن هذا الارتباط انتهى، لذلك أخذوا العبرة مما وقع في مصر، والغنوشي رجل مرن في تفكيره ويلتقط الأحداث ودلالاتها، أو كما يقولون في اللغة المعاصرة «برجماتي» وسريع التأقلم والتكيف؛ لذا من الواضح أن سياسة الغنوشي بعد الانقلاب في مصر ليست كسياسته قبل الانقلاب.
وحسنًا فعلوا، لأن الإخوان المصريين، وقد وقع لهم ما وقع ووقع منهم ما وقع، لم يغيروا شيئًا في تفكيرهم، بينما الغنوشي على بعد آلاف الكيلومترات غيّر إستراتيجيته وتحالفاته وطريقته وأخذ العبرة. ولا أرى ذلك في غير تونس؛ لا في المغرب ولا سوريا التي ذهبت مذهبًا آخر في عسكرة الثورة، واليمن أيضًا ذهبت مذهبًا آخر بعد أن دخل الحوثيون وعسكروا البلاد وعاثوا فيها فسادًا؛ لذا فإن التجارب مختلفة بينما كانت التجربة الشبيهة بمصر هي تونس وفعلًا استفادوا استفادة إيجابية.
إضاءات: قُلتَ إن الإخوان في مصر لا يراجعون أنفسهم، والآن وهم لا يزالون مُصرين على مواقفهم وخطابهم ومطالبهم من عودة مرسي وغيرها، بماذا يمكن أن تنصحهم؟الريسوني (بعد صمت طويل): الوضع صعب حقيقة، ولقد وصل إلى حد صعب وليس عندي شيء جاهز أقوله. أولاً الإخوان قابليتهم لإعادة بناء أنفسهم وفكرهم ضئيلة وبطيئة جدًا ولا يعول عليها؛ ولكن أيضًا النظام الآن هو ظلمات مائة بالمائة. وحتى التنازل، ما جدواه الآن؟
النظام ذهب في ظلمه وبطشه ودمويته إلى أقصى الحدود، ولا يُرجى منه خير كذلك. في الأمد القريب لا أرى كيف يمكن أن تتطور الأوضاع في مصر. ولكن دائمًا هناك مفاجآت التاريخ؛ كما فاجأنا التاريخ بـ 25 يناير وما وقع في تونس، سيفاجئنا يومًا بوقوع شيء في مصر وفي السعودية، وهما مرتبطان. ولا أمل لمصر إلا بزوال الحكم العسكري.
إضاءات: ولكن هل ممكن أن تُكرر مصر ما حدث في جامبيا أو تشيلي أو غيرها من التجارب العسكرية التي زالت بالانتخابات؟الريسوني: مصر يحكمها العسكر منذ عهد محمد عليّ، ويحكمها العسكر بشكل سافر تمامًا من أيام جمال عبد الناصر ومحمد نجيب، لذا فإنها شيء آخر. فمصر أصبحت ملكًا للعسكر باقتصادها وشعبها وصحفييها وفنانيها؛ كل هؤلاء يملكهم الجيش، ويتحكم الجيش في رقابهم وأرزاقهم وحياتهم وأعمارهم. لذا فهذا وضع مختلف. هذا ليس انقلاب عشر سنوات مثل موريتانيا أو غامبيا أو تشيلي؛ الحكم في مصر حكم كامل يحكم الأنفاس والعقول والقلوب والأرزاق منذ انقلاب عام 1952، ولم يتزحزح ولا حتى أيام مرسي.
وكان مرسي يظن أنه يحكم وهو محكوم؛ لذا فالأمر مختلف ولا يوجد مثيل. بالإضافة، لا ننسى، إلى أن الدول الغربية لها تأثير. فالدول الغربية تقف بكل ما تملك ضد إرادة الشعوب في الدول العربية؛ لذا فلا مقارنة بين مصر والأمثلة الأخرى. لذا فلن يتغير الحكم العسكري في مصر إلا بتغيرات جوهرية في المجتمع المصري، وهذه ليست قريبة، أو من المؤسسة العسكرية نفسها بأن يأتي الله بسوار الذهب. وإذا حدثت ضغوط لتغيير الواجهة العسكرية، فسيأتي مرسي جديد كتنفيس للوضع فقط حتى لا ينفجر، ولكن تغييرًا حقيقيًا أو ديمقراطية حقيقية لا تُتنظر.