الأفق الإنساني لنظام الوقف الإسلامي
لا يمتاز نظام الوقف الإسلامي بكونه مصدراً ذاتياً للتمويل فحسب؛ ولكنه يمتاز أيضاً بعمق المضمون الإنساني التحرري الذي يستند إليه في كل النشاطات والأعمال التي ترتبط به، أو تعتمد في تمويلها عليه.
وإذا تساءلنا: هل التوجه الإنساني المدني المحلي العابر للمذهبية والدينية والثقافية، والعالمي العابر للمحلية والإقليمي كان معروفاً في نظام الوقف الإسلامي ومنظومة العمل الخيري التي استندت إليه وعرفتها مجتمعات أمتنا الإسلامية في خبرتها الحضارية الطويلة؟ الإجابة القاطعة هي نعم. والأدلة على ذلك كثيرة ومتأصلة على المستوى الفقهي/التشريعي، والعملي المؤسسي.
على المستوى الفقهي، جاءت الاجتهادات الفقهية الكبرى والمعتبرة، مبنية على أساس فكرة «الآدمية»؛ باعتبارها فكرة مؤسسة للحقوق والواجبات العامة في ظل الاجتماع الإسلامي. كما جاءت مبنية على فكرة الحرية وهي أصل من أصول الرؤية الإسلامية للعالم، وعليها تأسست عصمة كل آدمي في ماله ودمه وعرضه؛ إذ لا يباح العدوان عليها أو الانتقاص منها بأي شكل من الأشكال. وكذلك تأسس على تلك القاعدة ذاتها استحقاقُ كل آدمي على قدم المساواة في ثمرات العمل الخيري، بما في ذلك عوائد الأوقاف والخدمات التي قدمتها المؤسسات الوقفية: التعليمية، والصحية، والثقافية، والاجتماعية، والترفيهية، والإنتاجية. ولم تنحرف الممارسة عن هذه الرؤية إلا في عهود الانحطاط والتأخر، وكذلك في المراحل التي سيطر فيها الاستعمار الغربي على بلدان أمتنا الإسلامية خلال القرنين الماضيين.
أما على المستوى العملي/المؤسسي، فقد جاءت ممارسات النظام الوقفي والخيري مدنية في أعماقها، إنسانية في تطبيقاتها وتمظهراتها. وقبل هذا وذاك فإنها جاءت «شرعية في مرجعيتها». وظهرت ممارسات عابرة للمحلية منذ وقت مبكر في تاريخ الأوقاف والعمل الخيري، وللتدليل على ذلك نذكر النماذج الآتية:
1. في التمدن
بتدقيق النظر في السجل التاريخي لنظام الوقف يتضح أنه كان قاعدة مادية ومعنوية لبناء ودعم ما نطلق عليه بتعبيراتنا المعاصرة «المجتمع المدني»؛ وما المجتمع المدني إلا قطاع من قطاعات أخرى يظللها نظام الوقف، وذلك على امتداد مجتمعات أمتنا الإسلامية. ويتضح من السجل التاريخي كذلك أن فعاليات الوقف قد غطت مختلف المجالات العلمية والتعليمية، والصحية، والخدمية؛ وحتى الترفيهية، ووصلت إلى إماطة العراقيل من الطرقات حتى لا يتعثر فيها العميان والعجزة، إلى جانب العناية بالحيوانات والطيور المهاجرة، والمحافظة على التنوع البيئي.
إن خلاصة الخبرة الإيجابية لنظام الوقف تشير إلى أن عطاءاته تركزت في إطار نمط من التفاعلات التعاونية حول المعاني الإنسانية العامة في المقام الأول. ومن أبرز النماذج على ذلك: الأوقاف التي خصصها الواقفون للإنفاق على ما نطلق عليه بلغتنا المعاصرة «مشروعات البنية التحتية»، وفي مقدمتها: بناء أسبلة مياه الشرب وتسييرها، وحفر الآبار وتشغيلها، وبناء القناطر وتمهيد الطرق وصيانتها، وإنارة الطرقات والشوارع وتنظيفها، وإنشاء الخانات والمضايف والاستراحات وتوفير وسائل الراحة فيها للمسافرين وعابري السبيل، إضافة إلى الخدمات الأساسية التي وفرتها في مجال الترفيه العام، وإنشاء البيمارستانات ودور العلم والمكتبات العامة وتمويل نسخ المخطوطات في مختلف فروع العلم والمعرفة.
2. في بناء وحدة الأمة
وأوضح مثال هنا نجده في «أوقاف الحرمين الشريفين» (المكي والمدني)، وهي عبارة عن ممتلكات من الأراضي الزراعية، والمنشآت السكنية، والمحلات التجارية، وبعض الأموال المنقولة، وقد أوقفها المحسنون لصرف ريعها على الحرمين وتسهيل طرق أداء فريضة الحج، ومن ثم تعمير كثير من المرافق (طرق، جسور، خانات للاستراحة، وسائل للنقل، مطاعم ومضايف) على طول طرق الحج في طول البلدان الإسلامية وعرضها، ومن طنجة غرباً إلى جاكرتا شرقاً. ولا يتصور أحدٌ أبداً أن جميع تلك البنية الأساسية كان استخدامها مقصوراً على المسلمين وحدهم، ولا على أبناء بلدة دون أخرى. ولا تزال آثار أوقاف الحرمين قائمة إلى الساعة. وكثير من ممتلكاتها لا تزال على حالها في أغلبية البلدان الإسلامية، ولكن إخضاع النظام الوقفي للإدارات الحكومية هو الذي يجعلها في الظل، وحجبها ولا يزال يحجبها حجباً قسرياً عن الظهور وأداء وظائفها التي قصدها الذين تبرعوا بتلك الأوقاف الخيرية.
3. في أفق الاتصالات العالمية
أوضح مثال هنا نجده في «مشروع وقف سكة حديد الحجاز»، وقد كان من المشروعات اللوجستية الكبرى في أواخر عهد الدولة العثمانية، وكان الهدف الأساسي منه أن يكون رابطاً بين قلب العالم الإسلامي ابتداءً من مكة والمدينة، وقلب أوروبا؛ حيث كان من المفترض أن يصل الخط إلى برلين (ألمانيا)، مع إنشاء شبكات فرعية حوله تربط بين العواصم والمدن الكبرى: بغداد والقدس ودمشق والقاهرة وإسطنبول… إلخ. وصدر قانون من الدولة العثمانية العلية برقم 1921 في 18 أغسطس/آب 1913 نص على أن تكون سكة حديد الحجاز «وقفاً إسلامياً محضاً»، وقد تم تنفيذ أجزاء من المشروع، وكانت التبرعات الوقفية مصدراً رئيسياً للتمويل؛ سواء في صورة أموال سائلة، أو عقارات من الأراضي والمباني. ولكن هذا المشروع تم تدميرُه من أساسه أثناء الحرب العالمية الأولى وخلال السنوات التي تلتها، وكان تفكيك ما أنجز منه مخالفاً لشروط معاهدات الصلح التي فرضها الحلفاء المنتصرون على الدولة العثمانية، حيث اعترفت معاهدة لوزان بحرمة مشروع سكة حديد الحجاز، وأقرت بأن يدار وفق أحكام الشريعة الإسلامية التي تحكم نظام الوقف الإسلامي، ولكن ما جرى جاء على خلاف ما اتفقوا عليه.
4. في النضال من أجل الحرية
تكشف الخبرة التاريخية لنظام الوقف عن حقيقة أساسية مؤداها أن «الحرية» فكرة مركزية في بنيته المعرفية، وفي تجلياته الاجتماعية على مستوى الممارسة المؤسسية والوظيفية.
فمن جهة «الواقفين»، تستند عملية إنشاء الوقف إلى فكرة رجوع ملكية كل شيء إلى الله سبحانه، ومن هذا المنظور فإن عملية الوقف تساوي عملية تحرير النفس من شهوة التملك، ومن غريزة حب المال، وتحريرها أيضاً من أسر المعصية ومخالفة المبادئ والقيم التي أمر بها الإسلام. ولا تقتصر آثار هذه العملية على المستوى الفردي، بل تنصرف إلى مستويات جماعية أخرى عندما تسهم عوائد الوقف والتبرعات الخيرية في تحرير ذوي الخصاصة، وغير القادرين من أسر الحاجة والعجز، وكذلك تمكين ذوي القدرات الذهنية والإبداعية من فرص التعلم والعمل إن كانوا غير قادرين على النفاذ إليها لأسباب مادية، أو لظروف اجتماعية، ومن ثم فإن الوقف يسهم في تحريرهم أيضاً من أسر الفقر ومن عجز القدرة.
وإلى جانب هذه الممارسات التحريرية ذات العمق الإنساني الاجتماعي على المستوي الفردي والجماعي، تكشف لنا الخبرات التاريخية أيضاً عن أن نظام الوقف كان إحدى وسائل النضال من أجل التحرر من الاستعمار في كثير من البلدان العربية والإسلامية، والنماذج على ذلك كثيرة نذكر منها فقط عدة أمثلة:
أ. أوقاف مصر في مواجهة الاحتلال البريطاني
لقد عمد المصريون إلى إدخال كثير من ممتلكاتهم من الأراضي الزراعية والعقارات المبنية في نظام الوقف بكثافة عالية بعد أن وقعت البلاد تحت الاحتلال البريطاني 1882م. وكان هذا الإجراء يضمن: ألا تخضع تلك الممتلكات للمحاكم المختلطة أو الأجنبية فيما يخص المعاملات أو المنازعات التي تنشأ حولها، وألا يتم الاستيلاء عليها سداداً لديون الرهن العقاري التي كانت تقدمها البنوك والمؤسسات المالية الأجنبية وتتذرع بها لنزع الأملاك من أصحابها. وأتاح الوقف للواقفين أيضاً أن يقاطعوا ذوي الامتيازات الأجنبية، وذلك بوضع شروط تمنعهم من الاستفادة بأي وجه كان من عوائد تلك الأملاك الموقوفة. ومن أشهر من مارسوا الوقف بوعي كامل لهذه الأبعاد قادة ثورة 1919 (سعد زغلول، عبد العزيز فهمي، علي شعراوي).
ب. أوقاف فلسطين في قلب مواجهة الاحتلال الصهيوني
بالرغم من الهيمنة العسكرية والسياسية الطاغية للكيان الصهيوني في فلسطين منذ 1948، فإن نظام الوقف الإسلامي في فلسطين شكل عائقاً أمام أطماع السياسة الصهيونية؛ الأمر الذي جعلها توليه اهتماماً كبيراً، وتختصه بأكبر قدر من الانتهاكات للمعاهدات الدولية التي تنظم إدارة الأراضي التي تقع تحت الاحتلال الأجنبي. فقد واجهت حكومة الاحتلال منذ عام 1948م مشكلة معقدة تتعلق بنظام الأوقاف وممتلكاته؛ ففي الوقت الذي كانت العصابات المسلحة الإسرائيلية تسيطر عسكرياً على 75% من أراضي فلسطين التي كانت تحت الانتداب البريطاني، كان اليهود لا يملكون سوى نحو 10% فقط من تلك الأراضي، ومن أجل إنشاء «دولة» قابلة للحياة؛ لم تترك سلطات الاحتلال وسيلة من الوسائل إلا استخدمتها من أجل السيطرة على نظام الأوقاف في فلسطين وتحويله إلى مصلحة الكيان الصهيوني بصورة حصرية، وبعبارة أخرى فإن هذه السلطات قد عمدت إلى تهويد الأوقاف الإسلامية بعد إحكام قبضة الاغتصاب عليها، والتهويد هنا لا يعني فقط إضفاء مسحة يهودية على ممتلكات الأوقاف ومؤسساتها وإنما يعني أيضاً إفقادها هويتها الإسلامية، ومحق وظيفتها الأصلية في خدمة المجتمع الفلسطيني، وإعادة توظيفها في خدمة الأهداف الصهيونية بعد نزع ملكيتها.
وقد تركزت سياسات تهويد الأوقاف حول ثلاثة محاور هي: السيطرة على الموارد الاقتصادية للأوقاف، واستقطاب بعض قيادات نظام الأوقاف، واستيعاب البنية الإدارية والمؤسسية للأوقاف داخل جهاز الدولة الصهيونية وإدارتها الحكومية.
ج. أوقاف البوسنة والهرسك ضحية الاحتلال
تعرضت الأملاك الوقفية في البوسنة والهرسك للانتهاك والعدوان والاغتصاب بعد أن سقطت في يد الاحتلال الصربي من عام 1919 إلى عام 1945، ثم تحت النظام الشيوعي لدولة يوغوسلافيا الاتحادية من عام 1945 إلى عام 1990. ولم تراع سلطات الاحتلال حرمة الأوقاف في البوسنة والهرسك، بل إنها عمدت إلى تفكيكها بموجب قوانين مجحفة، ومنها على وجه الخصوص قوانين الإصلاح الزراعي في العهد اليوغوسلافي (وهي تشبه قوانين الإصلاح الزراعي وآثارها السلبية على الأوقاف في مصر في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي) وقد انتزعت مساحات شاسعة من الأراضي الموقوفة على المساجد والمكتبات والمدارس والمستشفيات، وسلمتها السلطات الحكومية إلى الصرب والكروات، وحرمت مسلمي البوسنة والهرسك منها بالمخالفة لكل الأعراف والقوانين الدولية، ومنها هذه الاتفاقيات: اتفاقيات جنيف التي تنص على صيانة حرمة الأماكن والممتلكات الدينية والأثرية وعدم تغيير معالمها.
ورغم كل ما سبق؛ فإن فكرة الوقف الإسلامي لا تزال قوية في ذاتها، وعصية على الاجتثاث. وأثبتت قدرتها لا على البقاء فحسب؛ وإنما على التجدد واستيعاب متغيرات الواقع المعاصر في مختلف بلدان العالم.