تعليل الشعائر، أو درس الشعائر الإسلامية بهدف فهم «أسرارها» و«الحكمة» من تشريعها على هيئتها المخصوصة، شغل حيزًا ليس بالصغير من التراث الإسلامي، سواء تعلق اتساع هذا الحيز بالناحية المذهبية أو بالناحية الحقلية. فمن الناحية المذهبية نجد أن السنة والشيعة كليهما قد كتبا في علل العبادات، ومن ناحية الحقل المعرفي نجد أن هؤلاء الكتاب قد تنوعوا بين فلاسفة «ابن سينا»، وفقهاء «ابن القيم»، «ابن بابويه القمي»، ومتصوفة «الحكيم الترمذي»، كذلك من المهم التنبه – ولو بصورة مبدئية هنا تاركين للمقال القادم مهمة تفصيل الأمر بصورة أكبر- لكون «تعليل الشعائر» لم يكن مجموعة من الكتابات المتناثرة في فضاء التراث الإسلامي منفلتة من اجتراح منهجيات خاصة في التعامل مع موضوعها، بل إن الكلام في العلل كان بمثابة تقليد أساس قام عليه أحد أهم علوم هذا التراث ألا وهو علم المقاصد، حيث يجد هذا العلم إرهاصاته الأولى في كتب الحكيم الترمذي مثل «أسرار الصلاة» و«إثبات العلل»، ثم مع تطور تأصيل وتقعيد علم المقاصد مع الجويني والغزالي ثم ابن تيمية وابن القيم فالعز والقرافي وصولا إلي الشاطبي، أصبح تعليل العبادات والموقف منه أحد المباحث الأساسية في هذا العلم.

وجود هذا الاهتمام التراثي بـ«تعليل الشعائر »، وارتباط هذا الاهتمام بعلم المقاصد كإرهاص، ثم كمبحث، يجعلنا نتصور أن «تعليل الشعائر» لابد له أن يكون جزءا من الكتابات العربية «التقليدية» المعاصرة خصوصا تلك المهتمة بالمقاصد استعادة وتأصيلا وتطويرا.

ونحن نقول «لابد أن يكون»، لأن هذا للأسف لم يحدث، فرغم التطور الكبير لعلم المقاصد في الفكر العربي الحديث، والمساحة الكبيرة التي يأخذها هذا العلم في كتابات المصلحين المسلمين منذ القاسمي وعبده ورشيد رضا وابن عاشور، والتطورات التي لحقت به إلي وقتنا الحالي مع كتابات الريسوني وطه العلواني وجمال الدين عطية وغيرهم، فإن مبحث تعليل الشرائع لم يأخذ المساحة المناسبة له من الحضور فضلا عن التقعيد والتأصيل والتطوير.

ونحن في حقيقة الأمر أمام مركب من الأسباب هو الذي يفسر هذا التراجع لحضور «تعليل الشعائر» في «الفكر المقاصدي المعاصر» بعد أن كانت هي الإرهاص له، منها ما يتعلق بموقع هذا العلم في التراث نفسه، وغيابه عن مثل التأصيل والتقعيد الذي تم لعلم المقاصد حتى وصل غايته مع الشاطبي، ومنها ما يتعلق بطبيعة التطورات المعاصرة لعلم المقاصد.

سندع تحليل الأسباب التي تتعلق بالتراث للمقال القادم المتعلق ببحث جملة الأهداف والسياقات والمفاهيم والأدوات المشكِّلة لعلم «تعليل العبادات» في شكله التراثي، وسنتحدث هنا عن ما يتعلق بالحضور المعاصر لعلم المقاصد – تناسقًا مع كون هذا المقال هو إتمام للمقال السابق في بحث وضعية دراسة الشعائر في الفكر العربي المعاصر- وكيف كانت طبيعة هذا الحضور سببًا في قلة الاهتمام بعلم مبحث تعليل العبادات.


المقاصد في الفكر العربي الحديث

نستطيع أن نلاحظ هذا الحضور الواسع للمقاصد في الفكر العربي الحديث في اتجاهين رئيسين، الأول: اتجاه الاستعادة لهذا العلم ومؤلفاته في التراث الإسلامي، والثاني: اتجاه التأليف المعاصر فيه، فبالنسبة للاتجاه الأول استعاد جمال الدين القاسمي شرح الطوفي على حديث «لا ضرر ولا ضرار» من الأربعين النووية، ونشره في رسالة مستقلة تحت عنوان «رسالة في رعاية المصلحة»، كذلك تمت استعادة كتاب الشاطبي «الموافقات» حيث طبع في تونس بفضل علال الفاسي، بالإضافة لنشر رشيد رضا وتقديمه لـ«الاعتصام» للشاطبي، والذي تناول فيه مباحث متعلقة بالمقاصد مثل المصلحة والاستحسان.

حضرت المقاصد في الفكر الإسلامي الحديث من خلال اتجاهين، أحدهما يستعيد أصول العلم ومؤلّفاته التراثية، والآخر يجتهد في الإضافة والتجديد فيه.

أما في الاتجاه الثاني، فقد ألَّف الطاهر بن عاشور «مقاصد الشريعة الإسلامية»، وكذلك علال الفاسي «مقاصد الشريعة ومكارمها»، هذا لو اقتصرنا على تلك المؤلفات المفردة خصيصا لموضوع المقاصد، لكن لو وسَّعنا نظرتنا سنجد أن الاهتمام المقاصدي كان أكثر حضورا في هذه الفترة من تلك الكتب المؤلفة بوضوح في هذا الباب، فكما يشير سامر الرشواني فإن مركزية الفكر المقاصدي في تفسير ابن عاشور «التحرير والتنوير» يجعلنا نعتبر تفسيره «تفسيرا مقاصديا» بالأساس، كذلك فإن محمد عبده وكما يذكر دراز في مقدمته لـ«الموافقات» كان قد اهتم لهذا الفكر وأوصى بالعناية به [1]، وهي وصية نجدها مطبقة في كتابات رشيد رضا حيث يشيع الاهتمام بالمقاصد في كتاباته رغم عدم تخصيصة كتابا فيها، خصوصا في نقاشاته المطولة لكتاب الطوفي بحواشي القاسمي على صفحات المنار [2]، كل هذا يعني أن حضور المقاصد في الفكر العربي الحديث يتعدى كونه مجرد اهتمام ليصبح «التقصيد» أحد الجوانب الرئيسة في هذا الفكر.

هذا الحضور للمقاصد كجانب رئيس في الفكر الإصلاحي، ارتبط بعدد من المهمات والأهداف التي كان يتغيَّاها خطاب الإصلاح، على رأسها بالطبع خلق «أفقا واعدا وخصبا للاجتهاد، ولتجديد المنظومة الفقهية وملاءمتها لأوضاع ومستجدات العصر الراهن»[3]، فضلا عن اتساق هذا العلم مع كثير من الأفكار التي كان ينطلق منها الفكر الإصلاحي، مثلا دلالة هذا العلم على كلية الشريعة ومرونتها وصلاحيتها الدائمة، وقدرته على أن يشكل معيارا لتقييم بعض ممارسات التجربة الإسلامية التاريخية والتفريق بين «الإسلام» و«المسلمين»ـ، كذلك كون علم المقاصد ورغم انتمائه للعلوم الفقهية إلا إنه يعد كالفلسفة لهذه العلوم، مما يقربه من علم العمران الخلدوني ويجعلهما أساسا لعمران و«تمدن» إسلامي كان الإصلاحيون يرون الشريعة في كليتها قادرة على تحقيقه [4].

هذا الارتباط بمهام ومسلمات الفكر الإصلاحي، يجعلنا نقول إن حضور المقاصد في الفكر العربي الإصلاحي والنهضوي عامة يبعد عن أن يكون مجرد استعادة آلية لهذا العلم، بل نحن في الحقيقة أمام إعادة تشكيل له بصورة تمكنه من الانخراط في مهام جديدة، فلا نستطيع بكل بساطة اعتبار أهداف علم المقاصد عند النهضويين هي أهداف محايثة له في نشأته وتأصيله وتقعيده التراثي [5]، ولا بنائه المفاهيمي ولا المنهجي كذلك، فهذا الاستحضار لعلم المقاصد لم يتم دون عملية من«الزحزحة»[6] -بتعبير أركون- لمجمل المفاهيم والسياقات والأهداف والمناهج التي كان يتحرك فيها تراثيا ليعاد تأطير هذا العلم في سياقات وأهداف ومناهج جديدة مرتبطة بخطاب الإصلاح وحمولته المعرفية وأهدافه وتفضيله المنهجي أو ما يمكن أن نجمله في كلمة واحدة «أبستيم الإصلاح».

حضور المقاصد في الفكر العربي الإصلاحي والنهضوي عامة ليس مجرد إستعادة آلية لهذا العلم، بل نحن في الحقيقة أمام إعادة تشكيل له بصورة تمكنه من الانخراط في مهام جديدة

في دراسة بعنوان «الحق الطبيعي ومقاصد الشريعة» يشير ولد أباه لعدد من المفاهيم في «مقاصد الشاطبي»، والتي خضعت لعدد من عمليات «الزحزحة» هذه قبل أن تشكل «الهيكل المفاهيمي» لـ«مقاصد ابن عاشور»، فمفهوم «الشريعة» المركزي تماما تم إعادة شحنه بمعاني مختلفة عن معجمه التقليدي، فالشريعة عند ابن عاشور تتركز على قوانين المعاملات، ويعرفها بأنها «المقوم لنظام العالم وسلامة المجتمع»، فهي «قانون الأمة» وليس مدونة التكليف «فقد أخرج من التشريع، المندوبات والمكروهات وكل أحكام العبادات»[7]، الأمر نفسه حدث مع مفهوم لا يقل مركزية هو مفهوم «الفطرة» الذي لا يتعلق بتصور المفسرين والفقهاء الأقدمين لها كـ«دين التوحيد الأصلي أو الحق قبل التبديل» بل يصبح «الخلقة، أي النظام الذي أوجده الله في كل مخلوق»، ويصبح معنى أن الإسلام دين الفطرة هو «أنه فطرة عقلية أو جارية على وفق ما يدركه العقل ويشهد به».

هذا يجعلنا نقول إننا أمام «هيكل مفاهيمي جديد» يشكل البنية المفاهيمية لعلم المقاصد، ويخرجه من أهدافه التراثية ومجمل سياقاته التي يتحرك خلالها، ويؤهله للقيام بمهام نهضوية أخرى منها أن يكون «جسرا بين المذهب الفقهي القديم والمذاهب القانونية الحديثة».[8]

هذا التغير الذي طرأ على «هيكل علم المقاصد المفاهيمي» يترك تأثيره كذلك على «الهيكل المنهجي» لهذا العلم، يظهر هذا بوضوح في النظرة التي ترسخت – ومنذ لحظة الاستعادة- لهذا العلم كعلم عقلاني، سيتطور هذا مع الجابري الذي سيجعل المقاصد تأسيس «برهاني» للتشريع، علما تبلور عبر قطيعة معرفية مع «البيان»الفقهي، وهذا تجاهل – أو إعادة تركيب- للتشابك المنهجي في هذا العلم في بنائه التراثي، وصلته بصورة كبيرة بـ«العرفان»، وهي صلة لا تظهر فقط في الإرهاص لهذا العلم مع كتابات الحكيم الترمذي، بل تظهر أيضا فيما يشير إليه ولد أباه من المشارب الصوفية للمهتمين بالمقاصد من الغزالي لابن عبد السلام للشاطبي [9]، هذا الأخير الذي سمى كتابه في الأصل اسما يشي بالصلة بالنموذج العرفاني وهو «الموافقات في أسرار التكليف»! بل لو استحضرنا البعد المالكي في الفكر المقاصدي، والذي يصر عليه بعض الباحثين في المقاصد مثل الريسوني، فسنقول إن المقاصد والتصوف شديدا الترابط، أو كما يرى طه عبد الرحمن فإن «المالكية والتصوف صنوان»![10]

كون هذا الجانب «العرفاني» من منهج التقصيد ارتبط بصورة كبيرة بـ«تعليل الشعائر» بالذات، يجعلنا نقول أن كلا من التشكيل «المفاهيمي» الجديد والذي أعاد تشكيل مفهوم «الشريعة»، بحيث يقلص حضور العبادات، و«المنهجي» والذي قلص الاهتمام بـ«العرفان»، والذين قام بهما الفكر الإصلاحي، «أي مجمل عملية الزحزحة التي تمت بتأطير المقاصد في أبستيم الإصلاح»، هو الذي أدى لتقليص مساحة حضور «علم تعليل العبادات» في الفكر العربي الحديث، وقصر تطوير المقاصد فيه على جوانب المعاملات وعلاقة النص بالواقع والمصلحة.

بالطبع يمكن القول هنا اعتراضا، إن قلة الاهتمام بـ«تعليل العبادات» قائم قبل الفكر الإصلاحي الذي نحمِّله مسؤولية هذا التجاهل، في جملة مواقف سابقة تطورت وتبلورت مع الشاطبي، الذي يرفض تعليل العبادات أو بتعبير آخر يقرِّبه من ابن عاشور، «يخرج العبادات من الشريعة المقصدة والمعللة»، ويعتمد في الوصول إلي مقاصده منهجا استقرائيا بعيدا عن العرفان، فضلا عن كون الشاطبي هو الذي بلور بوضوح هذا الموقف –الموجود سابقا عند بعض علماء التراث- من تعليل الشعائر باعتبارها أقرب للذوق لا للعلم أو كملحة ينبغي عدم التنقير فيها كما سيقول أبو عبد الله المقري بعد هذا، وكل هذا قد أدى إلي حرمان علم العلل من التطوير والتأصيل والتقعيد حتى قبل الفكر الإصلاحي بقرون.

لم يستطع علم المقاصد في حضوره الحديث من بنائه «المفاهيمي» و«المنهجي» وجملة الأهداف المنوطة به، أن يصبح تربة ثرية لتطور علم «تعليل العبادات»، بل بالعكس عمل على تعميق هامشيته.

وهذا قد يكون صحيحا، لكن فقط بصورة جزئية، لأنه في واقع الأمر فإن أي من هذه الأحكام تجاه علم تعليل العبادات وإن حرمته من التطوير أو من حوز صفة «العلم» فإنها لم تحرمه من الوجود على الأقل، فقد استمر التعليل كـ«مُلَح» لعلم المقاصد، فضلا عن استمراره في كتابات مستقلة مفردة خصيصا للعبادات وأسرارها كتقليد مستقل عن الفقه له تركيبه المنهجي الخاص، واستمراره في بعض كتب الفقه مع فقهاء ذوي ميول صوفية مثل ابن القيم الذي يعلل كثيرا من العبادات في «سير أعلام الموقعين»، وهو أمر مختلف عما حدث مع إعادة التشكيل الإصلاحي له، حيث لم يستطع هذا العلم النمو في مثل هذه المساحات، وهذا لأن استبعاد «العرفان» و«الذوق» في الفكر الإصلاحي لم يكن مسألة تحديد ل«صلب العلم وملحه»، أو تدقيق فيما يستحق وصف العلمية والقرب من اليقين، أو ما يترتب عليه حلال وحرام وما لا يترتب عليه، كما كان الأمر تراثيا، بل كان محاولة لاستبعاد «التصوف» نفسه كأحد أسباب الجمود والكسل والاستبداد كما يذكر الكواكبي في أم القرى، ومحاربة لكل ما يتعلق به من منهجيات ورؤى عبر مظاهر «التبديع» و«موالاة الاستعمار» و«التجميد».[11]

لذا نستطيع القول إن علم المقاصد في حضوره الحديث من بنائه «المفاهيمي» و«المنهجي» وجملة الأهداف المنوطة به، وبسبب دمجه في أبستيم الإصلاح بتفضيلاته المنهجية ومسلماته الفكرية ومهامه الواقعية، بل و كذلك صراعات الهيمنة مع الخطابات الأخرى، فإنه لم يستطع أن يصبح تربة ثرية لتطور علم «تعليل العبادات»، بل بالعكس عمل على تعميق هامشيته.

لو انتقلنا إلي الانعطافة المعاصرة في الكتابات المقاصدية والتي تبرز فيها أسماء الريسوني والعلواني وعطية، فإننا سنجد اهتماما كبيرا بتطوير المقاصد في اتجاه تكون فيه أكثر «كلية» و«ابتدائية»، تم هذا عبر أكثر من إجراء؛ أولها: إعادة توسعة معنى الشريعة بعد أن ضيَّقه ابن عاشور، إما باستعادة المفهوم التراثي مع الريسوني، أو بتوسعة معناها عبر مركزية الإنسان في أبعاده المتعددة مع العلواني [12]، أو عبر تعديد المقاصد على مجالات حركة المسلم مثلما فعل جمال الدين عطية [13]. الإجراء الثاني: هو إدخال بعد الواقع بتركيبه وأسئلته كجزء رئيس من عملية التقصيد، وهو إجراء لا يمكن فهم نتائجه تماما إلا باستحضار التشابك بين علم المقاصد المعاصر والمدراس التفسيرية المعاصرة، خصوصا التفسير الموضوعي وانعطافته الواقعية مع باقر الصدر، والذي أدى لتغيير مفاهيم المقاصد والتفسير والمفسر وعلاقة الواقع بالنص والمقاصد بالفعل الإنساني. والإجراء الأخير: هو عدم الاكتفاء على مستوى المنهج بالاستقراء كوسيلة للوصول لمقاصد يقينية، بل تثمين التحليل المفاهيمي وتأويل النصوص الكلية في إطار يمكِّن من استخدامها كأساس لتوليد مقاصد كلية.

هذا التطوير وإن عُدَّ انعطافة في تاريخ علم المقاصد، إلا أنه في نهاية الأمر ليس تغييرا للمسار، فهو انعطافة على نفس الطريق وفي اتجاه نفس الهدف، حيث يؤدي وظيفة تحسين البنية المفاهيمية والمنهجية، كي تكون أقدر على تحقيق جملة المهام المؤطَرَة بتكوين منظومات كلية حضارية عمرانية وتشريعية، لذا فإن تجاهل «تعليل العبادات» وحرمانه من التطوير سيستمر أيضا مع هذه الانعطافة إن لم نقل إنه سيترسخ!

فمع الريسوني – والذي يدافع عن تعليل العبادات بالمناسبة والأقرب كذلك لمباحث المقاصد في شكلها التراثي-، سنجد أن العبادات أضحت معه جزءا من المقاصد الخُلُقية «فالتشريع الإسلامي، بفرائضه ومحرماته، ومندوباته ومكروهاته، وآدابه ومستحباته، إنما هو تقنين وتصريف عملي للأخلاق»[14] ، أما مع جمال الدين عطية فلا نجد اهتمامًا يذكر بها، ولا هي كذلك جزءا من حديث العلواني عن “التزكية” كمقصد حاكم، مما يعني أن فهم علل العبادات غائب عن الفكر المقاصدي المعاصر، وهو – إن وجد- فسيكون انطلاقا من المباديء الخلقية والعقدية، ولن يكون انطلاقا من طبيعتها كشعائر، مما يعني إهدار ما يمكن أن نسميه «البعد الشعائري للشعيرة»، أي ما تحدثنا عنه في المقال السابق من وظائف الشعائر، مثل تنظيم علاقة العالمين المقدس والعادي وتحيين أساطير النشأة وإعادة تأسيس العالم واستعادة تجربة الإيمان.

قراءة الشعائر انطلاقا من النظام العقدي وفقا للتصور التراثي، سيقتصر على دمجها في المهام الإبستمولوجية والحضارية والعمرانية للمعتقد، لا أكثر.

فضلا عن أن تحليل الشعائر انطلاقا من المباديء العقدية، وإن كان في غاية الإفادة لارتباط النظام الشعائري حتما بالنظام العقدي، إلا إنه في إطار سيطرة البعد العقلي والواقعي على تصور هؤلاء المفكرين للنظام العقدي، ونفي الجانب السردي-الرمزي منه بنفي جغرافية الروح بتعبير شايغان –ربما الأدق أن نسميها دراما الروح- (والتي تشمل الله وعالم الملائكة والجان والجنة والنار والإنسان والسحر والمعجزة)،وهو نفي قطعا لا يتم بتعطيل الإيمان بها لكن بتحويلها لمساحة للإيمان المجمل، ثم بتفسير التوحيد انطلاقا من مهماته الواقعية والإبستمولوجية والعمرانية، فإن قراءة الشعائر انطلاقا من النظام العقدي وفقا لتصور كهذا لن يضيف الكثير لفهمنا للجانب الشعائري من الشعائر، حيث سيقتصر على دمجها في المهام الإبستمولوجية والحضارية والعمرانية للمعتقد.

مما يعني أنه – وللمفارقة- إذا كان «تعليل العبادات» خرج من مقاصد ابن عاشور بِقِصَر التقصيد على شريعة مقلصة في التشريعات القانونية، فإن التوسعة الحاصلة في مفهوم الشريعة من قبل العلواني والريسوني وعطية وغيرهم لن تقدر على الإفادة في هذا التعليل.

كذلك فإن مما يبعد هذه الانعطافة عن أن تكون قادرة على الإفادة في تعليل العبادات، هو انطلاق المقاصد في هذه الانعطافة من النصوص الكلية ومدى مركزية التحليل المفهومي للقرآن فيها وهو ما أن نسميه استعارة من طه عبد الرحمن بتفاقم «آفة التجريد» – وهي خصيصة مستمرة من خطاب الإصلاح مما يدل على استمرار الانضواء في ذات الإبستيم-، مما يعني استبعاد التفكير في الشعائر نفسها وانطلاقا منها، أو اعتبار أن مقاربتها قد تكون بابًا لفهم الإسلام.

مما يجعلنا نقول إجمالا إن هذه الانعطافة، وبحكم استمرار بعض سمات خطاب الإصلاح وأهدافه معها، ثم بحكم تصورها للنظام العقدي النابع من تحديدها لمشكل الفوات وحله كمشكل إبستمولوجي، فإنها لم تستطع القيام بتطوير علم «علل العبادات» والاستفادة منه، ففي هذه الانعطافة حل الاهتمام العمراني والحضاري والإبستمولوجي محل الاهتمام «المدني» في مهمة إقصاء الاهتمامات «الحِكَمية» وفي قلبها تعليل الشعائر.

هذا الغياب لتطوير علم العلل في الفكر المقاصدي – سواء الحديث أو المعاصر-، مع عدم وجود هامش رحب للكتابات العرفانية أو المنفلتة قليلا من القواعد الفقهية ومهمات الفقه بسبب الموقف الإصلاحي والنهضوي من التصوف ومناهجه و«باطنياته» و«ذوقه”»، جعل الاهتمام بالعلل في نهاية الأمر مقتصرا على بضع هوامش ضئيلة، إننا نطالع بعض الحديث عن الأسرار والعلل – بالطبع ليس في كتب المقاصديين- في كتب العبادات والفقه وفضائل المواسم وكتب الرقائق، لكنها لا تتعدى كونها وريقات قليلة تعتمد على تلخيصات وانتقاءات فقيرة من كتب العلل التراثية، بمهام تتدرج من استيفاء مباحث الفقه إلي تخفيف حدة صرامته بالرقائق، دون انتباه لقاعدة أو استنباط لمنهج، مما يجعل هذه الكتابات محاكاة مشوَّهة لتقليد رفيع.


في هذين المقالين، حاولنا عرض موجز لتاريخ تفويت الاهتمام بفهم الشعائر، وقد بدا أنه ومع تباين الأسباب والمنطلقات فإن محاولة فهم الشعائر وربطها بالمعتقد الإسلامي في محاولة لتكوين رؤية كلية بالإسلام، لم يحظ لا عند الحداثيين ولا عند التقليدين من الكتاب العرب المعاصرين بنفس الأهمية التي حظي بها في علم الأديان أو في الكتابات التراثية، لذا لم يقوموا بتطوير وتبيئة واستعادة المنهجيات المناسبة لفهمهم سواء أكانت معاصرة أو تراثية.

لذا فقد انحصرت هذه القراءة الجادة للإسلام في بعض الدوائر الأكاديمية المختصة بعلوم الأديان والأنثروبولوجي [15]، فهذه الكتابات تعد الموضع الوحيد للالتفات لأهمية دراسة الدين كظاهرة خاصة، والتي تستفيد في سبيل ذلك من المنهجيات المعاصرة، كما تستفيد من التعليلات التراثية -وإن كان ليس بصورة تقعيد أو تأصيل لهذه القواعد-.

كيف نستطيع إذن تجاوز هذا التفويت، وتوسعة رقعة الاهتمام بالشعائر الإسلامية حتى تخرج عن الاهتمام الأكاديمي الصرف؟ وكيف يمكننا الاستفادة في هذا من علم العلل باستعادته، ومن علم الأديان بتبيئته، ليكونا أساسا لمقاربة أكثر كلية للإسلام وأقدر على التقاط تعقيد بنيته الأساسية ووظائفها، وكيف تنعكس هذه المقاربات على فهمنا للإسلام وللحداثة ولصورنا عنهما، ولخطاب النهضة وإشكالاته؟ هذا ما سنحاول أن نجيب عنه في المقالات القادمة.


[1] دراسة رشواني غير مطبوعة، لكنها متاحة على الشبكة بعنوان «الاتجاه المقاصدي في تفسير ابن عاشور»[2] في هذا الإطار توجد رسالة مفيدة بعنوان «الفكر المقاصدي عند رشيد رضا»، كتبتها ناهبة برهاني [3] «مقاصد الشرع ومحاولات تجديد المنظومة الأصولية»، سيد ولد أباه، دراسة منشورة ضمن كتاب «الدين والسياسة والأخلاق» ص89 [4] نذكر في هذا الإطار محاولات مصطفى الغلاييني الربط بين مقاصد الشريعة وبين المدنية، انظر «أسسس التقدم عند مفكري الإسلام»، فهمي جدعان، ص409 [5] ثمة خلاف بين الباحثين حول الأسباب الداعية والأهداف المتوخاة من نشاة علم المقاصد، ربما أبرزها رأيان، رأي يعتبر أن نشأة علم المقاصد، كان تطورا طبيعيا في المنظومة الفقهية، مرتبطا بالتطورات الحصلة فيه كعلم، بحيث تكون المقاصد هي تطور الفقه في اتجاه ارسائه على أسس يقينة، وتجاوز ظنية بعض الأدلة خصوصا القياس، والرأي الثاني هو الذي يفسر هذا التطور انطلاقا من علاقات المعرفة والسلطة، بحيث يكون علم المقاصد محاولة تمت في عصر الانحطاط من أجل التهيؤ لخلو الزمان من السلطة العلمية والخوف من سقوط الشريعة في يد التلاعب التأويلي غير المنضبط بها، وهي قراءة عبد المجيد الصغير في كتابه «المعرفة والسلطة في الإسلام».[6] تعني الزحزحة عند أركون،القيام بتحويل المفاهيم الاسلامية القديمة من الحقل اللاهوتي الى حقل الألسنيات الحديثة وكذلك حقل علم الاجتماع وعلم النفس وعلم التاريخ ، فيتم تحويل مفهوم «الآية» مثلا لمفهوم «الوحدة النصية المتمايزة»، والإسلام ل«الحدث الإسلامي»، وهدف هذه العملية عند أركون هو التخلص من مجمل الحمولات اللاهوتية في هذه المفاهيم وزرعها في سياق العلوم والمعارف الحديثة لكشف كثير اللامفكر فيه واستنطاق كثير من المسكوتات. لو اعتبرنا أن عملية الزحزحة هذه تمت لعدد من مفاهيم داخل حقل معرفي ما، فلا شك سينتج عن الحقل المفاهيمي الجديد خلخلة للصلات بالأهداف والسياقات والمناهج القائمة في هذا الحقل المعرفي، لتصبح أكثر اقترابا من الحقل المعرفي الجديد، كذلك لو كان الاتنقال لا من حقل معرفي لآخر، بل من ابستيم معرفي لآخر، وظننا أن هذا ما حدث في حدث في إعادة تشكيل علم المقاصد، حيث المفاهيم الجديدة اهترئت صلاتها بسياقات علم المقاصد التراثية وأصبحت أكثر اقترابا من سياقات وأهداف ومناهج خطاب الإصلاح كابستيم خاص، هذا برغم أن الزحزحة هنا لم تتم عبر إبدال المفاهيم بغيرها، بل بإعادة شحنها بمعان جديدة.[7] الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية، أحمد الريسوني، ص24 [8] السيد ولد أباه، سيق ذكره، ص132، 133 [9] سيد ولد أباه، سبق ذكره، ص150، في دراسة بعنوان «الأخلاق والقيم والدين، الفقه الإسلامي من منظور فلسفة الأخلاق».[10] طه عبد الرحمن، العمل الديني وتجديد العقل، ص192. من أجل التاكيد على الصلة بين المقاصد والمذهب المالكي، ففي كتابه “«نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي» عقد الريسوني في الباب الخاص بـ«المقاصد قبل الشاطبي» فصلا خاصا لبيان موقع «المقاصد في المذهب المالكي».[11] طه عبد الرحمن، المرجع السابق، ص91 [12] يرى العلواني ان في القرآن خمس مقاصد عليا حاكمة، تتعلق بابعاد الفعل الإنساني، فيتعلق بعلاقة الإنسان بالله «التوحيد»، وبعلاقته بذاته «التزكية»، وعلاقته بالكون «العمران»، وعلاقته بالمسلمين «الأمة»، وبغير المسلمين «الدعوة».[13] يرى جمال الدين عطية أن تفعيل المقاصد يحتاج توزيعها على مجالات وجود الإنسان الثلاثة، الفرد، الأسرة، الأمة، المجتمع الإنساني، «تفعيل المقاصد الشرعية» مبحث تحت عنوان «من المقاصد الخمسة إلي المجالات الأربعة».[14] أحمد الريسوني، سبق ذكره، ص97 [15] ، نشير مثلا لدراسة رجاء سلامة «الموت وطقوسه»، وهي دراسة تحاول بلورة رؤية لكل الشعائر المتعلقة بالموت في الإسلام من منظور علاقتها بمفاهيم الإسلام عن الحياة والموت، ودراسة فتحي بن سلامة عن الحجاب في كتابه «الإسلام والتحليل النفسي» والذي حاول قرائته من خلال تصوره لطبيعة الوحي المحمدي، ودراسة فريد الزاهي عن التصوير قي كتابه «الجسد والصورة والمقدس في الإسلام»، والذي تناول فيه تحريم التصوير من جهة كون مشكل الصورة هو النواة الأساس لعلاقة المقدس بالجسد.