الشعائر الإسلامية في الدراسات المعاصرة
يرى فراس السوَّاح أن «الطقس» هو ما يميز «الدين» عن الأنساق الفلسفية، حتى أنه يعتبر أن ما يحرم هذه الأنساق حتى لو كانت ذات اهتمام كبير بالمسألة الدينية من تحولها لدين هو تحديدًا افتقارها لـ «نظام طقسي». هذه الأهمية التي يوليها السواح للطقوس، حتى يتعبرها المميزة للدين كظاهرة خاصة، ترجع لما تؤديه الطقوس من وظائف، وما يربطها من علاقات بالجانبين الآخرين داخل البنية الأساسية للدين: المعتقد، والأسطورة [1]، تجعلها الأساس لاستمرارهما. فإذا كان الدين يتشكل في بنيته الأساس، من المعتقد والأسطورة، إلى جانب الطقوس، فهذه الأخيرة هي ما يضمن استمراره. فالطقس هو الذي يضمن حياة «المعتقد»، حيث «يضع الإنسان في علاقة مباشرة مع العوالم القدسية التي رسمت صورتها الذهنية فيه»[2]، وكذلك هو الذي يضمن حيوية «الأساطير» التي تمثل الجانب السردي للدين؛ حيث أن «الطقوس» تعد «تحيينًا» لعدد من «الأساطير»، خصوصًا أساطير النشأة التي تُحيَّن في طقس العيد، كما يرى إلياد [3].
وإذا كان الدين ليس مجرد معرفة تضاف إلى معارف الإنسان، أو فعل يضاف إلى أفعاله، أو شعور يضاف إلى وجداناته، أو بالمجمل: ليس الدين «حركة جزء خاص أو وظيفة معينة في الوجود الإنساني الشامل»، بل أفق عيش يعمل على إعادة تشكيل الوجود الإنساني في كليته عبر الإيمان كـ «تجربة هم أقصى» كما يقول تيليش [4]، ويعمل على جعل العالم من حول المتدين عالمًا معيشًا ذا معنى عبر إعادة تأسيسه كما يرى إلياد [5]، فإن الطقوس هي التي توفر تحقيق إعادة التأسيس الذاتية والكونية هذه عبر كونها «مجموعة الوسائل والأسباب التي تعيد إنتاج الإيمان بشكل دوري»[6]، وعبر انطوائها داخل أزمنة وأمكنة مقدسة تشكل العالم مؤسسًا.
هذه الرؤية لمركزية الطقوس في «بنية الحد الأدنى للدين» وعلاقتها بـ «الأسطورة» و«المعتقد» وأهميتها لـ «تجربة الإيمان الكلية» ولإعطاء معنى لـ «العيش في العالم» كآفاق مميزة للدين وحده، تجعل دراسة الطقوس جزءًا رئيسًا في أي محاولة لفهم دين ما، فلا يمكن أن يكون فهمنا لدين ما متماسكًا دون تكوين معرفة خصبة بطقوسه/شعائره، وعلاقتها بمعتقده/نظامه العقدي، وأساطيره/بنيته السردية، ومدى قدرة هذه الطقوس على «تجديد الإيمان» و«إعادة تأسيس العالم» كتجربتين محايثتين للتدين.
بالرغم من هذه الأهمية للطقوس، وبالرغم من المداخل والمنهجيات والتركيبات المنهجية التي بلورها علماء الأديان والأنثروبولوجي لمقاربتها، من أكثر من جهة: من جهة علاقتها بالأساطير (إلياد)، ومن جهة علاقتها بتأمين انتقال الإنسان في مراحل حياته (فان جنب)، ومن جهة تنظيم العلاقة بين العالم المقدس والعادي (كايو)، ومن جهة تجسيدها لتجربة الوعي بالقدسي-الآخر تمامًا (كايو)، فقد بقيت هذه المنهجيات للغرابة الشديدة بعيدة عن الاستثمار في مجال الإسلاميات، فلا زال النظام الشعائري الإسلامي صاحب النصيب الأقل تمامًا في الدرس لو قارناه بمحاولات درس القرآن أو السنة النبوية أو الفقه الإسلامي أو السياسة الإسلامية، سواء كان هذا داخل الكتابات الاستشراقية أو الكتابات العربية المعاصرة حداثية كانت أو تقليدية.
فهذه الكتابات لا تولي النظام الشعائري الإسلامي اهتمامًا مناسبًا، ولا تحاول فهم العلاقات التي تربطه بالنظام العقدي الإسلامي أو بنظامه السردي، ولا تحاول استخدامه كمدخل لتكوين فهم أدق للإسلام. وإذا حاولَتْ، فليس عبر هذه المنهجيات، بل عبر منهجيات رثة اجتماعية وتاريخية تُغيِّب الأبعاد الرمزية للظاهرة؛ فلا تستطيع التقاطها في كليتها وفي خصوصيتها.
في هذا المقال سنحاول تتبع هذا الحضور الهزيل للشعائر في مقاربات هذه الكتابات للإسلام محاولين فهم الأسباب وراء غيابها، ووراء غياب استلهام المنهجيات الأكثر جدة وفعالية في درسها، وما تكشف عنه هذه الغيابات من غياب أهم؛ هو غياب الاهتمام بالإسلام-الدين كظاهرة خاصة لها بنيتها المعقدة التي تحتاج مناهج مناسبة لفهمها.
الإسلام في كتابات المستشرقين
بالنسبة للكتابات الاستشراقية، فضآلة الاهتمام بالشعائر الإسلامية ومحاولة فهمها -خصوصًا إذا ما قورن بالاهتمام الكبير المولى للقرآن والفقه والسيرة والتاريخ- والذي يهدر إمكانية تكوين رؤية دقيقة للإسلام كدين، يتعلق بالأساس بطبيعة المنهجيات الاستشراقية التي يُقارَب الإسلام عبرها. هذه الطبيعة التي تَنتُج عن تصور للإسلام، تصفه فدوى دوجلاس في دراسة لها بعنوان «المستشرق ونصه»، بـ «التصور الشامبليوني»[7]. فالمستشرقون، وفقًا لدوجلاس، لا يتعاملون مع الإسلام إلا بوصفه «نصًا»، ومرجع هذا في رأيها هو بالأساس تكوينهم الفيلولوجي واللغوي، والذي يجعلهم قليلي الحركة خارج هذه المساحة، ويحصر فهمهم للإسلام في النصوص كنصوص ميتة لم تقرأ من قبل ولم تُعَش. فالاستشراق في النهاية «ابن لعصره» الغارق في الفيلولوجي وعلم اللغات والدراسات الكلاسيكية.
ونحن، وإن كنا نوافق دوجلاس على تشخيصها، إلا أننا لا نوافقها على تعلّق ضيق أفق القراءة الاستشراقية للإسلام وحصره في «كونه نصًّا» بكون «الاستشراق ابنًا لعصره». ففي حقيقة الأمر، حتى المستشرق الذي عاصر الثورات في العلوم الإنسانية وواكب التطورات والانعطافات المنهجية في علوم الأديان، لم يقدم لنا جديدًا في دراسته للإسلام أو في توسعة مصادر بحثه فيه؛ بل سيظل ينظر للإسلام كنص، قرآن وسنة ونصوص ثوانٍ وفقه وكلام وسيرة وتاريخ، ولن يراه بمنظور علوم الأديان كدين له بنية تتشكل من العقائد والقصص والشعائر تخلق الإيمان وتعمل على استعادته وتعيد تأسيس العالم [8]؛ حيث لا يتعلق الأمر هنا بالعصر الذي يحياه المستشرق كما يظن دوجلاس، قدر ما يتعلق بموقع الاستشراق من التطور المعرفي ومدى قدرة المستشرق على الإفادة من هذا التطور. هذا الموقع الذي يصفه جعيط وعمامو، بأنه في المؤخرة تمامًا من التقدم المعرفي [9]، يجعل المستشرق دومًا حبيس مناهجه القديمة مكررًا نفس النتائج مهما كان تقدم المناهج في عصره.
هذا الحكم الذي يطلقه جعيط وعمامو على كتابات المستشرقين، يُدقّقه أركون، وفي نفس الوقت يجعل نبرته أعلى، حيث يتحدث أركون عن إصرار من المستشرقين على التعامل مع الإسلام وفقًا لمنهجيات رثة وقديمة وعدم استلهامهم كل تلك التطورات في العلوم الإنسانية واللسانيات والأنثرولوجي لفهم الإسلام فهمًا أدق. وبعد أن يدقق أركون حكم جعيط وعمامو، يقوم بتوسعته ليشمل لا فقط دراسات الاستشراق بالمعنى الدقيق للكلمة، بل عموم دراسات الأديان؛ فهو يذكر كيف أن دراسات غوشيه وليفيناس وبول ريكور وغيرهم التي تتناول بالدرس العميق اليهودية والمسيحية، تسكت تمامًا عن الإسلام؛ مما يدفعه للتساؤل: «لماذا كل هذا النبذ للإسلام؟، لماذا لا تطبق عليه المناهج التحديثية الرائدة نفسها التي طبقت على الدينين الآخرين؟، أليس الإسلام دينًا كبيرًا وتراثًا تاريخيًا طويلاً وعريضًا؟»[10].
الطريف أن هذا الإصرار من أركون على غياب الأدوات المنهجية المعاصرة الرصينة والأكثر فعالية في دراسة الإسلام عن عدة المستشرق لم يجد في الحقيقة اعتراضًا كبيرًا من المستشرقين أنفسهم؛ بل إن ما قاله رودنسون عن «انتظارية أركون»، وأننا لا نستطيع انتظار تشكيل علوم جديدة مكتملة لتكوين أحكام عن الإسلام، يعود فيؤكد ملاحظات جعيط وأركون عن قلة عدة المستشرق. فأركون لا يتحدث عن علوم جديدة في الحقيقة، بل عن علوم قائمة بالفعل وتُطَبَّق لكنها لا تشكل جزءًا من عدة المستشرق المعرفية في فهم الإسلام. والأكثر طرافة هو أن ردونسون في رسمه خطاطة لوضعية مباحث الاستشراق الراهنة، يذكر أركون نفسه، ويثمن فتحه لآفاق أرحب بإدخاله «مسأليات جديدة» مثل سيمويطيقا الخطاب الديني![11] في ميدان دراسة الفكر، والروح الدينية؛ مما يعد تأكيدًا لأحكام أركون عن الاستشراق وأزماته البنيوية المتعلقة بموقعه ومهماته وعلاقته بالتطور المعرفي.
في الحقيقة إن هذه الأزمات المتعلقة بالعدة المعرفية للمستشرقين تجعل حتى هذه القراءات القليلة التي تناول فيها بعضهم الشعائر -ولنأخذ مثلاً على هذا، مادة «الصلاة» في دائرة المعارف الإسلامية، والتي كتبها أحد أكبر المستشرقين (فنسنك)، كذلك: مادة «صوم»- لا تستطيع قراءة هذه الشعائر قراءة خصبة، ولا تكوين نظرة كلية للإسلام من خلالها؛ بل إنها تغرق في تكرار تيمات التأثر والتأثير بالبحث «عن مصادر الإسلام ومصادر تفكير محمد»، فتجتر الحديث الطويل عن تشابه بعض تفاصيل العبادتين بتفاصيل عبادات اليهود والمسيحين [12]، «دون اهتمام بوصف الظاهرة في عناصرها المتفردة ودون اعتبار التفاعل البنيوي بين المتأثِّر والمتأثَّر به». هذه الدراسات القليلة عن الشعائر باجترراها هذا لتيمات التأثر والتأثير، وبغفلتها «عن البعد الرمزي للظواهر الثقافية وعن البحث عن البنية فيها»[13]، تصبح غير قادرة على تكوين أي فهم عميق لما تدرسه.
الشعائر في الكتابات العربية
إذا تركنا الكتابات الاستشراقية ووجهنا اهتمامنا للكتابات العربية سواء كان حديثنا عنالكتابات الحداثية –ونجدها بالكتابات بعد ظهور ما يسميه الأنصاري بـ «العلمانية الإسلامية»، حيث هذه الكتابات هي التي تتناول الإسلام بالدرس المنهجي الحديث وتدعي تكوين وعي معرفي به على عكس العلمانية الصرفة السابقة لها التي لم تكن تهتم للتداخل مع الإسلام بل اقتصرت على الدعوة لمبادئ الأنوار- أو الكتابات التقليدية [14] -ونجدها بتلك الكتابات المهتمة بعلم المقاصد، حيث أن تعليل العبادات وأسرار الشعائر هو مبحث من مباحث علم مقاصد الشريعة- فسنجد أن الاهتمام بدراسة الشعائر وبتكوين فهم بتعقد الإسلام كظاهرة دينية تحتاج لفهمها النظر لها في خصوصيتها وتعقد بنيتها دون تجزئتها بإلحاق بعض عناصرها لمحض التأثر التاريخي أو اختزالها لأبعاد نفسية واجتماعية، يظل ضئيلًا كذلك.
الشعائر في الكتابات العربية الحداثية
إذن ومنذ ظهور ما يسميه جابر الأنصاري بـ «التوفيقية العلمانية»[15]، أصبح الإسلام موضع دراسة وبحث من قبل الكتاب العلمانيين، فمع ظهور هذا التكييف الفكري لم تعد الكتابات العلمانية مجرد تلخيصات وترجمات لفكر الأنوار، بل انتقلت من الاهتمام بأفكار الأنوار للاهتمام بمنهجياته، ولم تعد تقتصر على عرض أفكارها ومناهجها إلي جوار الإسلام، بل اضطلعت بمهمة تطبيق هذه المنهجيات على الإسلام ونصوصه وأنظمته، وربما يعد أفضل مثال لهذا كتابي في الشعر الجاهلي للعميد وكتاب الإسلام وأصول الحكم لعبد الرازق، في الأول طبق العميد منهجية الشك الديكارتي على صحة الشعر الجاهلي ومدى صدقية الأخبار الواردة في قصص القرآن وحظها من الصحة التاريخية، وفي الثاني طبق علي عبد الرازق المنهج الوضعي -بالمعنى الأكثر اتساعًا للكلمة وليس بالمعنى الفلسفي المحدد- في دراسة الحكم الإسلامي.
وحين ننظر لكتابات هذه الفترة نجدها لا تهتم اهتمامًا يذكر بالشعائر أو بأي من جوانب بنية الدين بأبعادها الثلاثة التي ذكرناها: المعتقد -الأسطورة/القصص – الطقوس/الشعائر، حتى أن ملاحظة طه حسين عن القصص قد تعد هي الملاحظة الوحيدة التي تتعلق بأحد جوانب بنية الإسلام كدين، حيث تتعلق بالجانب السردي من هذه البنية [16]، أما باقي كتابات هذه الانعطافة -المنهجي فيها والأقرب للصحافة- فلم تكن تطبق «القراءة العلمية» -إن وجدت- إلا على الجانب التشريعي (الاجتماعي والسياسي) للإسلام [17]، نذكر في هذا السياق وبالإضافة لكتاب عبد الرازق، كتابات مثل كتابات خالد محمد خالد، خصوصًا «من هنا نبدأ»، وكتاب محمد النويهي «نحو ثورة في الفكر الديني» – التي تناولت العلاقة بين بعض تشريعات الإسلام والتشريعات الحديثة [18] أو بتعبير أدق، مدى قدرة بعض تشريعات الإسلام على الوجود في مجتمع حديث.
ويمكن إرجاع هذا التحاشي لتطبيق «المناهج العلمية» على الدين ببنيته الثلاثية، واقتصاره على جانب الإسلام التشريعي، لسبيين:
الأول: هو غلبة البعد السياسي/البراني على فكر التحديث العربي؛ مما جعل قراءة الإسلام تتعلق بالأساس بجانبه السياسي والتشريعي ومدى القدرة على تكييف هذا الجانب مع السياسة والتشريعات الحديثة المطلوب توطنيها وتبيئتها عربيًا.
والسبب الثاني: هو ما يراه بعض الكتاب المعاصرين من غلبة «منطق التجاور» على هذا التوفيق العلماني، وتلفيقيته وعدم حسمه بين التراث وبين المنهجيات الحديثة؛ مما أدى لتحصين التراث عن القراءة المنهجية الحديثة، ونفي الدين لخانة الوجدان والأصالة الممتنعة على التحليل العلمي [19].
لذا قامت هذه الكتابات التي اتهمت كتابات التوفيقية العلمانية بالتلفيق وعدم الحسم وانتهاء محاولتها للانحسام لصالح صيانة الدين من الدرس، بإحداث -ما ظنته- انعطافة جديدة حين رفعت هي شعار القراءة العلمية الموضوعية للتراث وتطبيق المناهج العلمية المعاصرة -بما فيها علم الأديان العام بانعطافاته المنهجية- على الدين نفسه [20]، وقدمت بعض الدراسات عن «بنية الدين الثلاثية» انطلاقًا من المناهج الحديثة هذه -لكنها تظل قليلة كذلك-، ونذكر هنا مثالين يتعلقان بموضوعنا هنا؛ أي الشعائر لبحث مدى قدرتهم على تكوين فهم مناسب بها.
المثال الأول هو الدراسة التي قدمها عبد المجيد الشرفي في كتابه «لبنات» عن الصوم، والمثال الثاني هو الدراسة التي قدمها عبد الجواد ياسين في «الدين والتدين» والتي يقارب فيها الدين من منظور اجتماعي يميز الثابت في الدين (القادم من خارج الاجتماع) عن المتغير فيه (الناتج عن الدخول في الاجتماع).
بالنسبة لدراسة الشرفي [21]، فهي دراسة تنحصر في البحث عن إجابة لسؤال: هل الصوم كان قائمًا بشكله الحالي من حيث -توقيته ومدته ومدى فرضيته- منذ عصر النبوة، أم أن هذا الشكل هو نتاج تنظيم لاحق مرتبط بالتطورات الحاصلة في كل المجتمعات الكتابية من تنظيم للطقوس غرضه تنميط المجتمع وضبطه وتوحيده؟.
كما يبدو تمامًا، فإن هذا السؤال الذي يشكل المحور لهذه الدراسة يحصر الشعائر في وظيفتها الضبطية، ويبحث عن حضورها من خلال هذه الوظيفة، ويتجاهل تمامًا سؤالاً آخر -قد يكون أهم- وهو: أيا كان شكل الصوم في العصر النبوي من حيث توقيته ومدته ومدى فرضيته، فما دلالته؟، وما علاقته بالإسلام؟، وكيف يساعدنا على فهم النظام العقدي للإسلام أو تكوين فهم أدق بالإسلام كظاهرة دينية؟.
تغييب هذه الأسئلة يكشف عن تغييب تام للبعد الرمزي للشعيرة في هذه القراءة، وتجاهل لأهمية هذا البعد في فهم وضع الشعيرة وحضورها واستمرارها، وهو تغييب يذكرنا بملاحظة رجاء سلامة عن الكتابات الاستشراقية والتي أرجعت عدم قدرتها على تكوين أي فهم بالظاهرة الدينية إلى هذا التغييب للبعد الرمزي بالذات، لكن بينما في كتابات المستشرقين يتم هذا التغييب عن طريق إرجاع الشعيرة للتاريخ السابق عليها وما يفترض فيه من تأثير، يتم هذا في دراسة الشرفي عن طريق قراءة الشعيرة بالتاريخ اللاحق وما يتطلبه من مهام ضبطية، وفي الحالتين نحن بعيدون عن أي فهم لدلالة الشعيرة في بنية الإسلام كدين.
هذا التغييب للبعد الرمزي للشعائر ومدى ارتباطها ببنية الدين يتطور بصورة أكبر في مقاربة عبد الجواد ياسين الاجتماعية شديدة الرصانة التي قدمها في كتابه «الدين والتدين» للدين، يتطور حتى يصل أقصاه في الحقيقة، حيث أن ياسين في مقاربته هذه يستبعد كون الشعائر جزءًا من نواة الدين من الأساس، ويتجاهل كل الوظائف التي تؤديها الطقوس في بنية الدين ومدى ارتباطها بجانبيه العقدي والسردي ومدى حيويتها للإيمان كتجربة كلية وللعيش في عالم له معنى، فيقصر هذه النواة على الله والأخلاق الكلية، ليضع الشعائر مع التشريعات في الجانب التاريخي الاجتماعي كـ «خيارات تشريعية وطقوسية»[22] بتعتبيره، غير مرتبطة ببنية «الدين في ذاته»!.
هذا التغييب لأهمية الشعائر في بنية الدين وحصر النظر إليها من حيث قدرتها الضبطية يجعلنا نتساءل: هل بالفعل قامت هذه الكتابات بهذه «القراءة العلمية» التي تدعيها؟، هل بالفعل أضاءت مساحات من الظاهرة التي تدرسها؛ أي الإسلام؟.
في حقيقة الأمر نحن حين ننظر للمناهج التي يستخدمها هؤلاء الكتاب فإننا نتشكك في نصيبها من العلمية المدعاة هذه، أو في قدرتها على إنتاج أي فهم بالإسلام، فهذه المناهج التي يصفونها بـ «العلمية» ويدعون قدرتها على فهم الظاهرة الدينية هي تحديدًا تلك التي فشلت في تحقيق هذا الفهم في الغرب نفسه -نقصد المقاربتين التاريخية والاجتماعية-، وهي التي وبسبب محدوديتها دفعت العقل لارتياد مناهج أكثر جدة وفعالية [23]؛ مما يعني أن هذه المناهج مثلها مثل المنهجيات الاستشراقية التي تحدثنا عنها بالأعلى تدور في إطار رؤى إبستمولوجية قديمة يصعب أن تصبح منتجة لفهوم ثرية وخصبة عن الإسلام.
إذا كان الأمر على هذا النحو فإننا مدفوعون لتكرار تساؤل أركون: لماذا كل الدنيا تجاوزت في تعاملها مع الأديان الكبرى هذه المناهج غير المنتجة، في حين أن البعض يصر على التعامل مع الإسلام بهذه المناهج وحدها؟!.
إذا كانت إجابة هذا السؤال فيما يتعلق بالكتابات الاستشراقية راجعة لموقع هذه الكتابات من التطور المعرفي ووضعية المستشرق من المعارف المعاصرة له كما قلنا بالأعلى، فإن استخدام هذه المنهجيات وحدها في الكتابات الحداثية العربية مرجعه في ظننا للدور المنوط بدراسة الدين في هذه الكتابات، وهو نفسه الدور الذي أدته هذه المناهج غربًا في عصر سيادة التصورات الساذجة بانتصار العقل (بـ «المفهوم الأنواري للكلمة»)؛ أي محاولة تقليص اللاعقلاني في الدين معتقدًا وسردًا وشعائريًا وبلورة وإعادة تركيب دين أقرب لدين طبيعي يناسب الأزمنة العقلانية [24]، فهده الدراسات ولأنها بالأساس لا تبغي تكوين معرفة بالإسلام بل تقتصر على محاولة تحديثه وعقلنته، فإنها لا تعمل على الاستفادة من المنهجيات المتاحة لفهمه بل تحيي عظام منهجيات بائدة، أو تتحدث عن المنهجيات المعاصرة دون تطبيق فعلي لها، فحسب من أجل إلباس هدف «التحديث/كتطويع للإسلام لعدد من المتعاليات الحداثية غير المفكر فيها» لبوسًا علميًا ينفي عنها تهمة التلفيق.
لذا فإنها لا تقدم ولا تستطيع تقديم أي فهم للإسلام كدين، ولا تستطيع إضاءة أي مساحة من مساحاته العقدية والسردية والشعائرية.
عود على ما سبق
إذا كانت الكتابات الاستشراقية والعربية الحداثية وهي الأقرب للاستفادة من المنهجيات المعاصرة لم تستطع تكوين فهم مناسب بالشعائر كجزء من بنية الدين بسبب ما ذكرنا من طبيعة التكوين المعرفي -عند المستشرق- أو من نظرة جاهزة للدين وموضعه وعلاقته بالحداثة وما يرتبط بها من طبيعة المنهجيات المستخدمة في مقاربته -الكتابات الحداثية العربية-، فهل استطاعت الكتابات التقليدية الأقرب للاستفادة من علوم التقليد الإسلامي ومنها «علل الشريعة» تكوين فهم ما بهذه الشعائر، أم ظل هذا الحضور للشعائر وفهمها على ضآلته في مجمل الدراسات العربية المعاصرة؟.
وإن كان الأمر على هذا النحو فما الأسباب؟، وكيف نفسر هذا في ظل هذا التطور الحادث في علم المقاصد الذي يضم كأحد مباحثه تعليل العبادات؟.
هذه الأسئلة هي محور النقاش في المقال القادم؛ ليتكامل المقالان في محاولة تشخيص وضع الشعائر ووضع دراسة الإسلام في الفكر العربي المعاصر؛ تمهيدًا لمحاولة فتح الباب لتوسعة الدرس التفهمي للإسلام، هذا الدرس الذي لا يحقق كما سنوضح في المقالات القادمة هدفًا معرفيًا خالصًا مفارقًا لإشكالات النهوض، بل حتمًا له آثاره على إعادة التفكير في «الإسلام» و «الحداثة» كمفاهيم تشكل أبعاد كل المشاريع النهضوية؛ مما يجعل تقديم قراءات جديدة لها أمرًا راهنًا باستمرار.
[1] يفرق السواح بين مكونات أساسية في الدين لا يمكن التعرف على الظاهرة الدينية في تبديها المجتمعي دونها وهي «المعتقد والطقس والأسطورة» والمكونات الثانوية «الأخلاق والشرائع»، ولا يعني هذا قلة أهميتها أو قلة صلتها بالدين، بل يتعلق هذا فحسب بدورها في عملية تكوين الدين وأولويتها في التعرف على الظاهرة الدينية. [2] فراس السواح، دين الإنسان، ص53. [3] مرسيا إلياد، المقدس والمندس، ص65. [4] بول تيليش، بواعث الإيمان، ص10 [5] ميرسيا إلياد، المقدس والمدنس، ص26. [6] السواح، المرجع السابق، ص55. [7] منشورة مع دراسات أخرى في كتاب «من التراث إلى ما بعد الحداثة»، ترجمة جابر عصفور، ص27. [8] نظن أن هذه الترسيمة لدراسة الإسلام كدراسة للقرآن والسنة إلخ، والتي تبلورت استشراقيًا نتيجة المقاربة الفيلولوجية وظلت مستمرة عربيا ربما دون فحص، تحتاج لأن يتم تجاوزها وإحلال محلها ترسيمة أكثر اتساقا مع التطورات المنهجية في علوم الأديان، ومدى قدرتها على دراسة الدين في حيويته (نظامه العقدي مسرودًا بالقصص ومعاشًا بالشعائر) لا في أرشيفه (النصوص). [9] تتحدث عمامو في كتابها «السيرة النبوية، مناهج، نصوص وشروح» عن تأخر المستشرقين المهتمين بكتابة تاريخ النبي عن استيعاب الثورة المعرفية في كتابة التاريخ التي أرستها مدرسة الحوليات، ففي ظل هذه الثورة نفسها ظل المستشرقون خاضعين للمنهج الوضعي في كتابة التاريخ، انظر ص66 وص 67 من كتابها. وكذلك يتحدث جعيط عن كون المستشرق «هامشي في جسم التقليد الفكري الغربي»؛ مما يفسر بعده عن تطور المنهجيات العلمية. [أوروبا والإسلام، ص40] [10] محمد أركون: تحرير الوعي الإسلامي، ص63. [11] جاذبية الإسلام، مكسيم رونسون، ترجمة:إيليس مرقص، ص86. [12] راجع مادة «صلاة» ص6584، ومادة «صوم» ص6661، من موجز دائرة المعارف الإسلامية. [13] الموت وطقوسه، رجاء سلامة، ص38و39، وتعتبر رجاء هذه السمات من مظاهر النقص في الكتابة الاستشراقية عموما.
[14] ثنائي تقليدي/حداثي هنا لا يحمل أي نوع من أنواع الحمولات التقيمية، فالمعنى المحدد لما نقصد بالحداثي هو من يستخدم منهجيات لم تعرف إلا بعد الحداثة الغربية، ونقصد بالتقليدي من يعمل على تطوير بعض علوم ومنهجيات التقليد الإسلامي.
[15] استخدم هذا التوصيف جابر الأنصاري في كتابه الهام «صراع الأضداد في الفكر العربي»، وهو من أهم الكتب التي تتناول تطور الفكر العربي بصورة دقيقة وحثيثة وتلتقط تعرجاته وتشاباكته بصورة غاية في الإفادة لبعدها عن التصنيفات الجاهزة والفضفاضة. وتوصيف «العلمانية الإسلامية» يتلاقى مع وصف علي مبروك لنفس هذا الخطاب في كتابه «الثورات العربية، خطاب التأسيس» بـ «خطاب التأسيس الثاني للنهضة» الداخل في عنوان أوسع هو «من الجيش إلى الجامعة» في إشارة لمحاولة هذا الخطاب تجاوز التعامل السياسي/البراني مع الحداثة والانتقال لمقاربة الجواني/المعرفي فيها، فالعلمانية الإسلامية كانت محاولة لتجاوز فرض العلمنة على المجتمع من أعلى والانتقال من هذا الفرض إلى تفهم الإسلام الذي يشكل الواقع-الواقع لا الواقعة كما يعبر مبروك- بالمنهجيات العلمية الحديثة لمواءمته مع الحداثة، ويرى مبروك أن هذا الخطاب لم يستطع تجاوز الاشتغال بالأصل كآلية معرفية محايثة لخطاب النهضة، وهي الآلية التي ينتج منها انبناء الخطاب على بنيات التجاور بين المتناقضات، لذا فقد انتهى الأمر لاستعارة أفكار ومناهج غربية تصاحب المناهج والأفكار التراثية داخل نفس الخطاب، وهو ما لفت إليه النظر نصر أبو زيد في قراءته خطاب طه حسين حين اعتبره خطاب يجاور بين منهجية الجمحي ومرجليوث. [راجع «ثورات العرب»، الفصل الثاني، و«النص، السلطة، الحقيقة»، ص32][16] ينظر لكتاب خلف “الفن القصصي في القرآن” كتطوير لملاحظة طه حسين عن القصص، لكن الاثنين الملاحظة والكتاب يقرآن القصص من حيث علاقته بالواقع، وبفصم هذه العلاقة يتم التركيز على الجانب الفني في القصص كمحور لإعجازها، لذا فظننا أنهما لا يقدمان جديدًا في فهم القصص الديني كبنية سردية للدين، وبعيدًا عن ملاحظة العميد حيث لم تكن بالأساس موضع توسعة، فإن خلف الله وبرغم كونه يسهب في البحث عن الأساليب للقصة القرآنية، إلا أنه لم يبحث علاقتها بالمعتقد، وبرغم كونه يتحدث عن وجود القصص القرآني في السياق القصصي الجاهلي إلا أنه لم يبحث الفارق بين منطق السرد الجاهلي ومنطق السرد الإسلامي، وربما لهذا السبب وقع خلف الله في خطأ الإسقاط حين صمم في بعض المواضع على قراءة البنية القصصية القرآنية انطلاقًا من مفاهيم القصة الحديثة، ونظن أن قضية الفارق بين منطق السرد «الأسطوري» ومنطق السرد «القصصي» الإسلامي يحتاج لقراءة واسعة لفهمه. وكنا قد تناولنا فكرة خلف الله مسبقًا في إطار آخر هو علاقة القصص بنفسية النبي، وربما لاحقًا نحاول قراءة هذا الفارق بين منطق السرد الإسلامي ومنطق السرد الجاهلي وعلاقة هذا بالنظام الإسلامي العقدي.[17] هناك بعض اللمحات بالطبع تناولت المعتقد الإسلامي، لكن هذا التناول ظل في إطار التوفيق بين بعض المعتقدات وبين المنهج العلمي أو بعض النظريات العلمية، وليس في إطار فهم النظام العقدي الإسلامي، خصوصًا مع عدم تحديد مستويات البحث غالبًا والتنقل بين القراءة التأملية للقرآن وبين توليفة من عقائد الفرق الكلامية.[18] في ظننا أن علينا التنبه لكون الحدود بين التشريع والشعيرة ليست واضحة في ذاتها، بل هذه الحدود نفسها موضوع للبحث، فليست النظرة الأولى هي التي تخبرنا هل الختان مثلا أو الرجم أو الحجاب تشريع أم شعيرة، وظننا أن غلبة رغبة التحديث عند الكتاب العلمانيين –خاصة في مرحلة التوفيقية العلمانية- وانطلاقهم من مسلمات خاصة تجاه شكل المجتمع تجعلهم يصنفون الفرق بين التشريع والشعيرة على أساس ما يرغب في التخلص منه، فلأن التخلص أسهل في التشريعات منه في الشرائع، تم اعتبار الحجاب مثلاً في كثير من الكتابات كتنظيم اجتماعي للعفة وتم إهدار بعده الشعائري.[19] نصر حامد أبو زيد، المرجع السابق، ص42.[20] نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني، ص200. الإسلام بين الرسالة والتاريخ، عبد المجيد الشرفي، ص12و13.[21] هذه الدراسة المنشورة في لبنات، ص165، مؤرخة بعام 1989. ورغم أن كتاب «الإسلام بين الرسالة والتاريخ» صدر عام 2001، وتحدث فيه الشرفي طويلاً عن منهجيات علوم الأديان المعاصرة واستقلال علم الأديان العام عن غيره من العلوم في الباب الأول (ص12و13)، إلا أن الشرفي في هذا الكتاب يستعيد نفس نتائج دراسته السالفة عن الصوم في الباب المسمى «الرسالة في التاريخ» في الفصل الثاني «مأسسة الدين» حين يفصل بين مرونة الطقس قي عصر الرسالة وضبطيته في تاريخ ما بعد الرسالة، ولا يقدم لنا أي رؤية عن معنى الطقس أو دلالته كما تقضي علوم الأديان التي أسهب في الحديث عنها في الباب الأول!.[22] الغريب أن ياسين يؤخر ظهور الشعائر للفترة المدنية، التي تعبر في رأيه عن دخول الدين في الاجتماع، ويعتبر الفترة المكية تعبيرًا مثاليًا عن «الدين في ذاته»، المقتصر على العقيدة والأخلاق الكلية، انظر ص38، وهذا إطلاق شديد الغرابة من كل النواحي، لأن وجود الشعائر في مكة أمر لا يعرف كبير خلاف خصوصًا مع ذكر الصلاة والإنفاق والنحر في سور مكية مبكرة جدًا وفقًا لكل التورخات التقليدية والاستشراقية؛ مما يعني ضرورة بحث علاقتها بـ «الدين في ذاته» كما يسميه.وربما يرجع هذا التجاهل لذكر الشعائر في مكة لكون ياسين لا ينظر للطقس إلا في بعده المؤسس والمطبق على نطاق واسع حتى يستطيع تفسيره في إطار ضبط اجتماعي، فالطقس لا يستحق الاسم ربما عند ياسين إلا إذا طبق كأدة اجتماعية، وهذا يعود فؤكد تغييب الأبعاد الرمزية للشعائر في هذه الدراسة، فليس الطقس في المجتمع محض أدة لتنظيمه أو تأطيره أو خلق سردية رمزية نافعة له بل له علاقة ببنية الدين، ولا هو أصلاً مرتبط حتمًا بالمجتمع بل الطقس قائم ولو كان الدين فرديًا وهذا لاتصاله الوثيق بالإيمان وبلقاء المقدس.[23] لو اقتصرنا فحسب على مقاربة الوحي مثلاً، فسنجد أن المقاربات التاريخية والتحديثية الصرفة التي كان بلورها مثل بولتمان في اللاهوت المسيحي، قد خضعت لنقود كبيرة من قبل تيليش وبارث وغيرهما؛ حيث اعتبروا هذه المقاربات غير قادرة على فهم الدين ولا تهيئة التجربة الدينية في الشرط المعاصر بسبب فقر نظرتها لـ «الرمز» والدلالات التي يحملها الفعل الديني، التي تفرغه من جوهره تمامًا كلقاء مع الآخر، حين تقرؤه انطلاقًا من اتساقه مع «العقل الحديث» الرافض للطقوس وللقصص الديني باعتبارهما عصابات وخيالات طفولة بشري.[24] نشأة علم اجتماع الأديان ارتبطت بمحاولات العصرنة، وما دفعت إليه هذه المحاولات من السؤال عن مصير الدين ووظيفته ومحاولة تطوير بديل له يناسب العصور الحديثة. [انظر، جان بول وليم: الأديان في علم الاجتماع، ص9]