الفن الإسلامي في السينما من ناصر خمير إلى سيرجي باراجانوف
ظهر الفن الإسلامي مع ظهور الإسلام، وكانت العقيدة الإسلامية مصدره الأول من الناحية الفكرية، ومصدره المتجدد هو مدارس الفلسفة الإسلامية بما فيها التصوف وعلم الكلام، وبرغم ما سبق فإنه لم يكن فنًا دينيًا صرفًا.
يمكن الحديث عن تنظيرات خاصة بالفن الإسلامي في كتابات القلقشندي وأبي حيان التوحيدي، وقد تأثر الفن الإسلامي بما سبقه من فنون في بلاد الحضارات الأقدم (مصر-فارس-سوريا) ثم بدأ في تكوين طابعه الخاص.
غاية الفن الإسلامي هي السعي إلى عالم المطلق والبحث عما استقر من معانٍ تحت الظاهر معتمدًا مبدأ التحوير المخالف لقواعد المنظور الخطي وموجهًا عنايته نحو الجوهر لا العرضي، وهو بهذا يتعارض مع الفن الغربي القائم على علوم الإغريق والرومان ومبدأ احترام الكمال التشريحي لجسم الإنسان.
في مطلع القرن العشرين أسست تيارات الفن الحديث لقطيعة مع التقاليد الصارمة للفن الغربي، وشرع الفنانون في البحث عن جماليات مغايرة تنتمي لروافد حضارية مختلفة وكان من بينها الفن الإسلامي الذي أثر بشكل بالغ على بعض الفنانين ومنهم:
1. هنري ماتيس
رائد المدرسة الوحشية الذي زار بسكرة بالجزائر وطنجة بالمغرب حيث قدم أروع أعماله.
2. بول كلي
من رواد النزعة التجريدية في الفن التشكيلي وقد تأثر بالتكعيبية والسريالية والتعبيرية، واشتهر بتنظيراته المهمة حول اللون وعمله بتدريس الفن في مدرسة الباوهاوس الشهيرة، وزار مصر وتونس وصرح أكثر من مرة بأنه تكون فنانًا هناك.
3. بابلو بيكاسو
رائد التكعيبية والسريالية وهو من أشهر الرسامين في التاريخ. تحدث بعض المؤرخين عن جذور عربية لبيكاسو بحكم ميلاده في مدينة ملقة الأندلسية وقال عنه صديقه جيليوم أبولينير “لا نستطيع نكران سلالة بيكاسو الإسلامية”.
كاميرا التصوير السينمائي اختراع غربي بالأساس، فهل يمكن الحديث عن كادر شرقي؟
كثيرًا ما تعاطى صناع السينما مع الفنون التشكيلية وقد انزلق بعضهم إلى الانبهار الزائد بالتشكيل والتنكر لروح السينما.
كان للمخرج الكبير ياسوجيرو أوزو تصريح متشائم قال فيه “حياة اليابانيين غير سينمائية”، وبرغم ذلك فقد سخر أوزو مسيرته من أجل صناعة كادر ياباني خالص انطلاقًا من ثقافته وبيئته.
يستعرض المقال نموذجين للتعاطي السينمائي مع الفن الإسلامي، فهل وفق المخرجان فيما ذهبا إليه؟
ناصر خمير
عرف المخرج التونسي ناصر خمير بتعدد مواهبه، فهو حكاء وتشكيلي فضلاً عن مشاركته بالتمثيل في أفلامه، وتنشغل أعماله بالبحث في جدلية التراث والحداثة، واستخدام الفكر الصوفي كمدخل لتشريح العقل العربي الإسلامي، وأعمال خمير مضادة للمنظور الكولونيالي السائد في الثقافة والفن برغم تجريدية الزمان والمكان فيها.
الموروث الحكائي حاضر في أعمال خمير منذ فيلمه الأول (حكاية بلد ملك ربي 1977) وتبلور حضوره بشكل أقوى في ثلاثية الصحراء.
البناء في الثلاثية يتخذ شكل الرحلة، رحلة البحث عن البراق (الهائمون1984) والبحث عن أميرة سمرقند (طوق الحمامة المفقود1199) وبحث الدرويش عن ذاته (بابا عزيز2005).
للصحراء حضور مركزي في أحداث الثلاثية، والصحراء هنا ليست مجرد مكان بالمعنى الجغرافي والطبيعي، ولكنها فضاء معرفي مشبع بالدلالات فضلاً عن حضورها المركزي في الثقافة والسرديات العربية، وأكثر ما يميز تعاطي خمير مع الصحراء هو انطلاقه من أسئلة ثقافية تدور حول المكان والمقدس مع إخلاصه لشكل جمالي نابع من منظور داخلي دون افتعال للغرائبية أو استدعاء لجماليات غربية.
من الناحية البصرية يستخدم خمير مبدأي التصحيف والتغفيل، والتصحيف هو تحوير معالم الواقع وتعديل نسبه وأبعاده وفق إرادة الفنان، والتغفيل هو الابتعاد عن تشبيه الشيء بذاته والانتقال إلى تمثيل الكلي والمطلق، ويظهر المبدآن بشكل واضح في أغلفة الكتب والمخطوطات التراثية مثل: منطق الطير للعطار وتصاوير الواسطي لمقامات الحريري.
وفي تصويره للصحراء يستخدم اللقطات العامة والبعيدة بغرض الوصول إلى التسطيح الكامل للمناظر، والتسطيح مبدأ أساسي في التصوير الإسلامي ويعمل على إلغاء عمق المجال البصري والاكتفاء ببعدين للصورة، وفيما يخص العنصر البشري فإنه يعمل على تحرير العنصر من ثقله عبر التخلص من الظلال، وبناء عليه تتحرك العناصر بصورة شفافة و متخففة من أثقال الجسد وكأنها على وشك العروج للسماء.
في التأويل العرفاني يغذي الحرف المعنى الذي يصدر منه، ويغذي المعنى الحرف الذي يتجسد فيه، في فيلم(طوق الحمامة المفقود) يحدث الخطاط تلميذه عن حرف الواو.
الواو يمثل العقل عند بعض المتصوفة، وهو الحرف الوحيد المتضمن لمعنى لأن أوله متماثل مع آخره فهو دائري يكرر نفسه كالرحلة التي يتصل أولها بآخرها، وهي نفسها رحلة الدرويش في (بابا عزيز) التي ختمها بأن سلم ملابسه وعصاه لدرويش آخر حتى يكرر الرحلة.
سيرجي باراجانوف
قد يبدو غريبًا أن نتحدث عن حضور الفن الإسلامي لدى مخرج ينتمي للاتحاد السوفييتي وينحدر من خلفية مسيحية، ولكن المطلع على التاريخ السوفييتي سيلاحظ انتماء العديد من الجمهوريات ذات الأغلبية المسلمة له ومنها (أذربيجان-أوزباكستان-كازاخستان) وامتد الوجود الإسلامي إلى داخل روسيا ممثلًا في جمهوريات الحكم الذاتي (داغستان-تتارستان-الشيشان) وتعود جذور الإسلام في بعض هذه المناطق إلى عهود الدولتين الأموية والعباسية.
قدم باراجانوف نفسه باعتباره مواطنًا ينتمي إلى ثلاث دول (أرمينيا-جورجيا-أوكرانيا) وعلاوة على ذلك فقد نفذ أفلامًا في مولدوفا وأذربيجان، مما يدل على غزارة ثقافته واتساع مشروعه السينمائي الذي تعثر كثيرًا بسبب تعرضه للمنع والسجن.
في رائعته (لون الرمان 1969) يعرض باراجانوف سيرة شاعر أرميني جوال من العصور الوسطى، ولا يستخدم في ذلك طرقًا تقليدية بل يحاول النفاذ إلى عالم الشاعر الداخلي من خلال التعرض للمؤثرات التي شكلت وجدانه وقريحته بالإضافة إلى تحويل قصائده لتابلوهات بصرية لا تستقيم على خط كرونولوجي محدد.
في تصويره للمشاهد الداخلية، يستخدم باراجانوف التسطيح المستوحى من المنظور الروحي الإسلامي، والمنظور الروحي يختلف كلية عن المنظور الخطي، ويعتمد المنظور الخطي على مبدأ أساسي هو وقوف المشاهد إزاء خط يقع بمستوى بصره هو خط الأفق، ونقاط السطح الأول للأشياء -أيًا كان موقعها- ترتبط بنقطة هروب تقع على خط الأفق وذلك على شكل أشعة متجمعة، وعلى النقيض من ذلك فإن المنظور الروحي يحدد مرتسم الأشياء على مسطح وينتهي إلى رسم شريحة الأشياء وقد تكشفت فيها جميع خصائصها الشكلية، مما يعني النفاذ إلى جوهرها الجمالي بعيدًا عن الشيئية وكأنها رؤية إلهية من جميع الجوانب وصادرة عن نقاط لا حد لها.
في تصويره للمشاهد الخارجية، يستخدم المنظور اللولبي، ويوحي هذا المنظور (وفقًا للمؤرخ الفني بابادوبولو) باختراق البعد الثالث، واللولب هو علامة الانتقال من الملأ الأعلى إلى الأرض حيث الإنسان.
تقوم الممثلة الجورجية سوفيكو شياوريلي بدور الشاعر ومحبوبته في آن واحد، وهذا التكنيك في رسم الوجوه شائع في فن المنمنمات الإسلامية ويمكن تتبعه في أعمال رضا عباسي التي تعود إلى العهد الصفوي، وامتد استخدامه زمنيًا إلى عهد شاهات القاجار، إذ تعمد الفنانون الإسلاميون رسم الذكر والأنثى بنفس الملامح كتعبير عن الالتحام بالمحبوب.
لسنا هنا في معرض الترجمة عن الفارسية ولكن المتأمل لشعر نظامي الكنجوي وغيره من الأشعار المكتوبة بالفارسية سيلاحظ اعتمادها من حيث القافية على روي في كل بيت يختلف عن البيت الذي يليه. الروي يعني بنية صوتية، والصوت حالة شعورية، والشعور حمولة نفسية لها صور وألوان، كل مشهد في لون الرمان هو بيت شعر قائم بذاته، وكل لقطة هي حرف.
في مطلع السبعينيات قدم باراجانوف طلبًا للسفر إلى إيران من أجل تصوير “مجنون ليلى” ولكن قوبل طلبه بالرفض من السلطات السوفييتية، وكل ما أراده في رسالته هو شاب وشابة نصف عاريين وسجادة ممزقة!
- عفيف البهنسي: أثر الجمالية الإسلامية في الفن الحديث