يشير مصطلح «نوسانتارا» إلى منطقة جزر جنوب شرق آسيا التي تضم إندونيسيا، وماليزيا، وسنغافورة، وجنوب تايلاند، والفلبين، وبروناي، وهي تسمية تاريخية ارتبطت بالمنطقة قبل أن تظهر التقسيمات السياسية الحالية، وأصبح هذا المصطلح أكثر التصاقًا بدولة إندونيسيا التي تتكون من أكثر من 17 ألف جزيرة وتضم تعدادًا سكانيًا يتجاوز الربع مليار، وتعد أكبر دولة في جنوب شرق آسيا.

ومن المعروف أن الدين الإسلامي انتشر في هذه الجزر ليس عن طريق الفتوحات بل الرحلات التجارية، واقتنع السكان المحليون بالدين ودخلوا فيه أفواجًا تأثرًا بأخلاق التجار المسلمين، وقد تركت خطوات الدعاة الأوائل آثارًا عميقة في الثقافة الإندونيسية لا تزال حاضرة حتى اليوم.

فانتشار الدين سار مع حركة التجارة والسفن فتركز في المناطق الساحلية والموانئ لا سيما في الأجزاء الغربية مثل سومطرة الأقرب إلى بلاد الإسلام، ومن هنا نشأ ما يُعرف بنموذج «الإسلام الساحلي» مقابل «الإسلام الداخلي» الذي يعبر عن المناطق البعيدة عن السواحل التي دخلها الإسلام متأخرًا ولم تترسخ فيها الممارسات الدينية بنفس درجة بلاد الساحل، وهو تقسيم تقريبي غير دقيق لكنه يعبر عن الصورة العامة للأمر.

ولما كان الحضارمة (نسبة إلى حضرموت وهي منطقة يمنية يشتهر أهلها بالتجارة والسفر) من أكثر الفئات المسلمة التي انتشرت في الجزر، فقد تأثر الإندونيسيون بهم كثيرًا ليس في الدين فقط بل في العادات فهم على سبيل المثال يحرصون على ارتداء «السارونج» وهو الإزار اليمني الذي يلفونه على النصف السفلي من الجسم، لا سيما عند أداء الصلاة، كما دخلت إلى لغة السكان الكثير من الكلمات العربية وما زالت مستعملة حتى اليوم.

وانتشر الدين تدريجيًا حتى اكتسح معظم الجزر الإندونيسية، لكن بدون الالتزام الصارم بالتعاليم الفقهية الدقيقة؛ فلم يكن التجار المسلمون متضلعين في دراسة علوم الشريعة، وحتى بعد وجود دعاة استقروا في البلاد وعاشوا بين السكان المحليين، لم يتشدد هؤلاء الدعاة في إلزام الأهالي بالأحكام الفقهية، وبالتالي انتشر نموذج من التدين يتسامح في تطبيق الأحكام الدينية، لكن كان الدعاة القادمون غالبًا من بلاد اليمن يتمذهبون بالمذهب الشافعي، ويعتنقون المنهج الأشعري في العقيدة ويتأثرون بتصوف أبي حامد الغزالي أو عبد القادر الجيلاني.

 وبرز من ضمن الدعاة الأوائل ما أطلق عليهم «الأولياء التسعة» وهم أشخاص اشتهروا بالتقوى والكرامات الخارقة للعادة، وتصدروا جهود الدعوة في جزيرة جاوة التي يقطنها الغالبية العظمى من الإندونيسيين، ولم يتصادموا مع التقاليد المحلية بل تماهوا معها حتى اعتنق الناس الإسلام طواعية.

وقد أصبحت أضرحة الأولياء التسعة وغيرهم مزارات يقصدها السكان لتأدية العبادات والطقوس المتوارثة.

خصائص إسلام نوسانتارا

يتلخص محتوى فكرة إسلام نوسانتارا في تقديم نموذج يتأقلم مع الزمان والمكان، فهو ليس منهجًا للتغيير بقدر ما هو تعبير عن واقع معين، فلا يهتم بموضوع عودة الخلافة ولا إقامة الدولة الإسلامية التي تطبق الشريعة وتقيم الحدود، ولا تشغله قضية تنقية الممارسات الدينية من البدع وإن ظل إطاره النظري منهج أهل السنة والجماعة في المجمل، لكنه يركز على الأمور القطعية كالصلاة والزكاة ويهتم بالأخلاق والمعاملات ويتسامح مع الأديان الأخرى ويتصالح مع الحضارة الغربية.

وقد أعلنت جمعية «نهضة العلماء» الإندونيسية عن تبنيها نموذج «إسلام نوسانتارا» في مؤتمرها الثالث والثلاثين، والذي عقد في أغسطس 2015، بالتزامن مع ظهور تنظيم داعش الإرهابي في سوريا والعراق وانتشاره عالميًّا.

وقد تأسست جمعية «نهضة العلماء» عام 1926 على يد الشيخ هاشم أشعري بعدما درس في بلاد الحجاز لعدة سنوات، وتعد أكبر الجماعات الإسلامية ليس في إندونيسيا فقط بل في العالم أجمع، إذ يقول أعضاؤها إن عددهم يصل إلى تسعين مليون شخص تقريبًا، وقد تولى رئيسها الراحل عبد الرحمن واحد، رئاسة الجمهورية ما بين عامي 1999 و2001.

وتنتشر الجمعية في الأرياف بشكل كبير ويتبنى الكثير من منتسبيها النهج الصوفي، حيث تضم أكثر من 40 طريقة صوفية، تحت إشراف مجلس تابع للجمعية.

ورغم اشتهار المصطلح والترويج له باعتباره عنوانًا لنموذج معتدل للإسلام، فإن المصطلح سبب نزاعًا كبيرًا بين أعضاء المجلس المركزي لنهضة العلماء أنفسهم الذين اختلفت وجهات نظرهم إزاء ما يعنيه المصطلح على وجه التحديد، كما لقيت الفكرة معارضة من أحزاب وحركات دينية أخرى.

ويقول المعارضون إن المصطلح فضفاض يؤدي إلى شرعنة الممارسات التي تتعارض مع تعاليم وقيم الإسلام تمامًا ويتخذ موقفًا سلبيًا من العرب ويؤدي إلى تقسيم الأمة وتفريق المجتمع، بينما يقول المؤيدون إنه لا يتضمن إخلالاً بثوابت الدين ولا يعادي العرب بل يتصدى للممارسات المتشددة أو ما يُطلق عليه في إندونيسيا «إسلام الشرق الأوسط» أو «إسلام العرب»، وحين عرض رئيس جمعية نهضة العلماء هذا المفهوم على الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر رد قائلاً:

الله لو علم أن إندونيسيا أهلٌ لرسالته الخاتمة لما نزلت على محمد العربي (عليه الصلاة والسلام).. قلوبكم لن تكون مؤمنة إلا إذا أحبت هذا العربي.. الله اختار العرب ليقوموا بهذه المهمة وقد قاموا بها خير قيام.. لولا مجيء هؤلاء العرب ربما كنتم حتى الآن مذهبًا من مذاهب جنوب شرق آسيا أو من المذاهب التي تتعارض مع الحق.

دولة متعددة الأديان

تعد إندونيسيا أكبر دولة مسلمة في العالم، لكنها تعترف رسميًا بستة أديان وهي الإسلام، والبروتستانتية، والكاثوليكية، والهندوسية، والبوذية، والكنفوشيوسية، وقد تأسست الدولة منذ استقلالها عام 1945 على أساس أنها متعددة الأديان وليس باعتبارها دولة إسلامية.

وقد أعلن الرئيس الإندونيسي، سوكارنو، غداة الاستقلال، مبادئ «بانشاسيلا» لتكون عقيدة الدولة التي تجمع كل طوائف الشعب، وتتضمن خمسة مبادئ وهي: الإيمان بالإله، ووحدة إندونيسيا، والإنسانية العادلة والمتحضرة، والديمقراطية التي تقودها الحكمة، والعدالة الاجتماعية.

وقد لاقت «البانشاسيلا» معارضة شديدة في البداية من بعض الجماعات الإسلامية بعدما رأوا فيها إضعافًا للهوية الإسلامية، وكانت هناك محاولات لتأسيس دولة الشريعة على غرار محاولة سيكارماجي ماريدان كارتوسوويرجو الذي أعلن قيام ما عرف بـ«دولة إندونيسيا الإسلامية»، لكن كل المحاولات في هذا الصدد باءت بالفشل وظلت مبادئ البانشاسيلا الأساس الذي تقوم عليه الدولة مع تعاقب الرؤساء حتى بعد ثورة 1998 التي أطاحت بالرئيس سوهارتو وأطلقت الحريات السياسية.

وتشجع الحكومة إرسال البعثات التعليمية للأزهر من أجل دعم النسخة الأقل تشددًا من التدين، كما تحرص على عدم ترك الساحة للجماعات الإسلامية المحافظة، فترعى الجماعات الأقل تشددًا مثل الرابطة العلوية وجمعية أهل الطريقة المعتبرة النهضية والذي يرأس زعيمها الحبيب محمد لطفي بن يحيى، جميع الطرق الصوفية في البلاد، ويحظى بعضوية المجلس الاستشاري لرئيس جمهورية منذ 13 ديسمبر/كانون الأول 2019، وفي المقابل تم حل عدد من جماعات الإسلام السياسي مثل حزب التحرير عام 2017، وجبهة المدافعين عن الإسلام في نهاية 2020.

وتتبنى الدولة مفهوم إسلام نوسانتارا على أعلى مستوى؛ فقد تحدث عنه الرئيس جوكو ويدودو مرارًا باعتباره نموذجًا يحتذى للعالم الإسلامي وأن «الإسلام الإندونيسي ليس هو الإسلام الغاضب» بل المتسامح.

ويسعى الإندونيسيون من خلال تبنيهم لهذا المفهوم إلى الترويج لنموذجهم الثقافي الذي يُمثل واجهة حضارية مستقلة لمسلمي الأرخبيل أمام العالم، إذ يرون أن الغرب ينظر إلى الشرق الأوسط باعتباره الممثل الوحيد للإسلام، ويتجاهل التجمع الإسلامي الأكبر في جزر جنوب شرق آسيا.