إسلام كريموف: ديكتاتور آخر يطويه الموت
في ليلةٍ بدأت صافية، ليلةُ الخامس عشر من يوليو/تموز الماضي، تجاذبت أطراف الحديث مع صديق طاجيكيّ، ينتمي إلى المعسكر المعارض للرئيس رحمانوف، وهالني ما ذكره؛ كيف أن ما حدث في مصر في الثالث من يوليو/تموز، قبل ثلاثة أعوام، ألقى بظلاله على الساحة السياسية في جمهوريات آسيا الوسطى!.الطرحُ كان مذهلًا وغير قابلٍ للتصديق، لولا أن صديقي استطرد مستدلًا بمشهد من هناك، فثمة حركة معارضة كان مخططًا لها النزول إلى الشوارع هناك في العاصمة دوشينبه، في أكتوبر/تشرين الأول لعام 2013م؛ اعتراضًا على القبضة الأمنية الصارمة التي يفرضها نظام رحمانوف، ووقائع التزوير التي ارتكبها وتحدثت عنها كل وسائل الإعلام الغربية والمحلية المعارضة، إلا أنه ولأول مرة، أعلن الجيش الطاجيكي غزو الشوارع والميادين، محذرًا من النزول إلى الشوارع في الموعد المرتقب، رافعًا سقف العنف المحتمل في مواجهة أي تظاهرات منتظرة. ربط صديقي هذه الفعلة الجنونية غير المعهودة من قبل النظام هناك، بما حدث في وسط العاصمة المصرية القاهرة في الرابع عشر من أغسطس/آب لذات العام، مشيرًا للنفع الذي حلّ بكل أنظمة القمع والديكتاتورية من جرّاء ردات الفعل الغربية الحانية التي لم تردع أصدقاءهم في مصر. النظم الديكتاتورية إذن تشد بأزر بعضها، فارضةً مجالات واسعة من التعاون الضمني المشترك.
لمعرفة المزيد:دروس في الاستبداد: طاجيكستان نحو الديكتاتورية باستفتاء شعبي
ظلت شعوب آسيا الوسطى إذن تتحمل الطغاة الذين تسلطوا عليها لسنوات طويلة، آملين أن يطوي الموت صفحة الظلم والاستبداد حين يطوي هؤلاء الطغاة، ولربما يكون ذلك قريبًا. ففي مساء الإثنين الأخير من أغسطس/آب أعلنت «لولا كريموفا» ابنة الرئيس الأوزبكي إسلام كريموف عن انتقال والدها للمشفى لتلقي العلاج، إثر تعرضه لنزيف حاد في الدماغ، وترددت الأنباء عن وفاته، فيما سارعت حكومة بلاده بالنفي. كريموف الذي طالما حكم بلاده بالحديد والنار، بقي في الحكم كوباء مزمن، ما يربو عن ربع قرنٍ من الزمن، حتى أرقده المرض وأعياه، ولم تتأكد الأنباء الواردة بشأن وفاته بعد، لكننا على أية حال سنبحر في سيرته قليلًا؛ علنا نرى فيها عبرة وتسلية.
من لم يُعزل بالانتخابات عُزل بغيرها
شغل كريموف موقعًا سياسيًا متقدمًا في الحزب الشيوعي الأوزبكي الحاكم، قبل أن يكون زعيمه الأول عام 1989م. ومع تفكك الاتحاد السوفييتي، أعلن بلاده دولة مستقلة في الحادي والثلاثين من أغسطس/آب 1991م، ودعا الجماهير لانتخابات رئاسية فاز فيها بنسبة أصوات قاربت 86%. عرفت هذه الانتخابات بأنها غير عادلة، إذ دفعت كل مؤسسات الدولة في اتجاه كريموف، ناهيك عن محاولات التزوير التي شابت العملية الانتخابية!.
يقول المسئولون عن حزب إيرك «الحرية» الديموقراطي المعارض، أن مرشحهم الحاصل على 12.8% وفق النتائج الرسمية، إنما حصل على 50% من مجموع الأصوات بحسابات مندوبيهم في لجان الاقتراع والحساب، مدّعين أيضًا زيادة العدد الإجمالي لبطاقات الانتخابات عن عدد الناخبين المدرجين في القوائم الانتخابية بنسبة 50%، هذه كانت إذن محطة كريموف الأولى والتي وصل من خلالها إلى كرسي الحكم، أو بمعنى أدق حافظ على بقائه على الكرسي.
كريموف وهندسة الديكتاتورية
عُرف كريموف، أول ما عُرف في الحياة السياسية، تحديدًا في أروقة الحزب الشيوعي، كدارس للهندسة والاقتصاد، وهو الذي وُلد في مدينة سمرقند التاريخية الشهيرة عام 1938م.
تولى الأمانة العامة للحزب الشيوعي الأوزبكي، كأول أمين عام للحزب عام 1989م؛ حتى نالت أوزبكستان استقلالها بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وأعيد انتخاب الرجل في ديسمبر/كانون الأول من عام 1991م؛ ليكون أول رئيس للجمهورية الأوزبكية المستقلة، من جراء انتخابات وصفتها هيومن رايتس ووتش بـ «المشوّهة تمامًا».الرجل الذي لم يلتفت للانتقادات التي وُجهت لمحاولة انتخابه الأولى، أعاد طرح نفسه للاستفتاء الشعبي لمدّ فترة حكمه عام 1995م، ثم مرةً ثالثة في العام 2001م، بالتزامن مع تصاعد حدة مطالبات المجتمعات الدولية الغربية بإرساء قواعد الديموقراطية والتداول السلمي للسلطة. فمنظمة التعاون والأمن الأوروبية رفضت إرسال مراقبين دوليين للإشراف على العملية الانتخابية، فيما قرر المسئولون الأمريكيون، الذين كانوا قد أشرفوا بالفعل على الانتخابات، أنه لم تكن هناك منافسة عادلة حقيقية، وأن الاختيار الشعبي الحقيقي لم تعبر عنه صناديق الاقتراع!.استكمالًا لمسيرة القمع، حظر كريموف مشاركة الأحزاب المعارضة قاطبةً في انتخابات البرلمان لعام 2004م. وعندما شهدت المناطق شرقي البلاد احتجاجات شعبية عام 2005م، كانت العصا الأمنية الغليظة حاضرةً وراح ضحية قمع هذه التحركات مئات الأرواح.
أن تخطب ود أمريكا؛ لتفعل ما تشاء
الخلفية السوفييتية لكريموف، والتي كان بموجبها زعيمًا للحزب الشيوعي الأوزبكي قبيل الاستقلال، لم تمنعه من مصافحة المعسكر الأمريكي، الذي لطالما كال له الاتهامات بشأن حقوق الإنسان في بلاده، والتعاون معه في الحرب على حكومة طالبان في أفغانستان بعد أحداث سبتمبر/أيلول 2001م. هذا التوجه لم يكن أبدًا عصيًّا على التأويل، فالكثير من الأسباب تتدافع لتأوّل توجه الرجل، أولها أن التحرك الأمريكي لمواجهة طالبان كان ليروق هناك للسادة في موسكو، غير أن الحكومة الأوزبكية لطالما أرادت التخلص من حكومة طالبان الظهير الحقيقي والملاذ الآمن للأحزاب الإسلامية المتمردة في آسيا الوسطى، وعليه كان خيار تقديم المساعدة اللوجستية للقوات الأمريكية قرارًا متفهمًا من جانب الرئيس الأوزبكي.التخوف الذي كان حاضرًا من الوجود العسكري الأمريكي جنوبي القوقاز، تمثل في إمكانية بقاء هذه القوات بالقرب من الحدود الروسية لفترات أطول في ظل التوتر بين القوتين، وبالفعل وقّعت واشنطن نهاية العام 2001م اتفاقية تأسيسية مع كل من أوزبكستان وقرغيزستان، أُتيح بموجبها لجنود الولايات المتحدة الدخول للقواعد الجوية؛ لنقل القوات والعتاد إلى أفغانستان. وقدَّمت الحكومات في بيشكيك (عاصمة قرغيزستان) وطشقند (عاصمة أوزبكستان) منشآتها بالرغم من معارضة روسيا؛ لخشيتها الوجود الدائم للولايات المتحدة في المنطقة، إلا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رضخ في نهاية المطاف لوجود أميركي مؤقت في ظل معارضة شديدة من جيشه. وقدمت أيضًا دول آسيا الوسطى أنواعًا أخرى من الدعم، بما في ذلك تبادل المعلومات الاستخباراتية وفتح الأجواء لتحليق طائرات التحالف. انتهت الحرب وقدمت أوزبكستان العون لقوات التحالف كأفضل ما يكون، وبقي من حينها كريموف صديقًا للولايات المتحدة، ولم لا، وقد قوضت قوات التحالف نيابةً عنه الظهير الأكبر للجماعات الإسلامية هناك في المنطقة؟!.
من يخلف كريموف؟
لم يحدّد كريموف من يخلفه على كرسي الحكم؛ ربما لأنه لم يتوقع أن يعاجله المرض بعد ربع قرن فقط من السلطة. ظل الشعب الأوزبكي لسنوات معتقدًا أنه يحتفظ بكرسيه لابنته الكبرى، جلّنار كريموفا، التي كانت سيدة أعمال، سياسية، مالكة لتوكيلات علامات تجارية كبرى، دبلوماسية متحدثة باسم بلادها، وسفيرة معاً. كان ذلك حتى أصدر مكتب التحقيق الفيدرالي مذكرة توقيف بشأنها استجابة لشكوى رفعها زوجها السابق متهمًا إياها بخطف أبنائهما والهروب بهم سرًا خارج الولايات المتحدة. ويعزى اختيارها على رأس البعثة الدبلوماسية الأوزبكية في إسبانيا لحمايتها من التوقيف، متمتعةً بالحصانة الدبلوماسية.إلا أن نجمها قد خفت واختفى ذكرها من وسائل الإعلام المحلية الأوزبكية بعد اتهامها بتلقي رشى مالية تقدر بملايين الدولارات في قضية تراخيص لشركات الاتصال المحلية، لاحقًا ظهر للعلن عام 2014م أنها كانت خاضعةً للإقامة الجبرية من قبل والدها. باستبعادها يبقى أمر خلافة الرجل غير محدد المعالم، من المؤكد أن الأمر قيد الدراسة هناك في موسكو وواشنطن، ليدخل حيّز التنفيذ إبان الإعلان عن وفاة الرجل، وربما يكون للشعب الأوزبكي وللأقدار رأي آخر.