إسلام «إسلام البحيري»: هل انتهي «زمن التنوير الجميل»؟
عرف إسلام البحيري نفسه على أنه باحث ومفكر يسعى لتجديد الخطاب الديني، وتنويري يسعى للتخلص من الظلاميين المفسدين للدين الإسلامي، اصطدم بالأزهر، واتهمه معارضيه بالتطاول اللفظي والإساءة للدين وانتهت معركته الفكرية بالسجن، لكنه من بين القلائل الذين حظوا بعفو رئاسي في وطن امتلأت سجونه بسجناء الرأي، فما هي قصة البحيري؟ وهل يعد من التنويريين؟ وهل الدين هو المسئول الأوحد للـ«ظلامية» كما يتصور البعض؟
من هو إسلام البحيري؟ وكيف ذاع صيته إلى هذا الحد؟
البحيري وفكره لم يكن وليد اللحظة الحالية بل بدأ مسيرته في الكتابة عن الفكر التنويري وطرح أفكاره لتجديد الخطاب الديني منذ 2003 وذلك بالكتابة مع بعض الصحف المستقلة وبدأ يذيع صيته ويتصدر اللقاءات التلفزيونية منذ 2012 أثناء حكم الإخوان المسلمين خاصة بعد مناظراته مع بعض الرموز الدينية أمثال محمود شعبان والجفري.
ثم تأتي قناة «القاهرة والناس» لتمثل خطوة بارزة في مساره ويعرض على شاشتها برنامج تلفزيوني يقدم أفكاره عن التراث الإسلامي، وأثار البرنامج جدلًا واسعًا في أوساط الرأي العام وتصدر الأزهر الجدال وتقدم ببلاغ للنائب العام اعتراضًا على ما يبثه البرنامج من تشويه للإسلام والتطاول عليه وطالب بوقف البرنامج وبالفعل قامت القناة بوقف البرنامج في ابريل 2015 تلبية لمطلب الأزهر.
محطة البحيري الأخيرة للشهرة هو دخوله السجن بعد بلاغ قدم ضده من المحامي «محمد عبد السلام عسران» بتهمة ازدراء الأديان وحكم عليه بالسجن سنة، وذلك بعد قبول محكمة جنح مستأنف مصر القديمة بجنوب القاهرة للاستئناف المقدم منه على الحكم الصادر عليه بالسجن خمس سنوات بتهمة ازدراء الأديان وسب الصحابة والتعدي على أئمة الإسلام.
وبعد مرور ما يقرب من 11 شهر للبحيري في السجن صدر قرار عفو رئاسي عنه قبل إنهاء مدة عقوبته بعده أسابيع، وعاد البحيري من جديد لينتقم ويتوعد ويكمل مسيرته ويعلن استكمال برنامجه،فيما اعتبر قرار العفو عنه هزيمة لما وصفه بـ«الجانب الآخر أمام الجانب التنويري والمثقفين الذين يتعرضون دائما للهزائم».
ما الذي يطرحه البحيري تحديدًا؟
يروج البحيري لنفسه بأنه يسير على خطى التنويرين ويجعل من نفسه خليفة للراحل فرج فودة، فما هو طرحه الذي جعله يعتبر نفسه خليفة للتنويريين؟
طرح البحيري فكره النقدي مؤكدًا على ضرورة التفكير وإعمال العقل في الدين، فهو يتبنى مفهوما فضفاضا للتنوير مفاده “أن يفكر الإنسان دون وصاية من أحد” ،فيما عمل على طرح أفكاره الخاصة بالتراث الديني والأئمة الأربعة والأزهر والعمل على تجديد الخطاب الديني.
فبدأ بالتشكيك في آراء الأئمة وانتقد البخاري وصحيح مسلم بل واعتبر البخاري هو من هدم علم الحديث وطالب بحرق كتب البخاري ومسلم، وأوضح أن واضعي الكتب الإسلامية والتراث القديم هم بشر يخطي ويصيب.
كما انتقد ابن تيمية معتبرًا إياه رب السفاحين والقتلة وأوضح أن حروب أبو بكر على المرتدين ليست من الدين، وأكد أن من يقول أن أبوي الرسول سيدخلان النار ملعون قاصدًا مسلم الذي ورد في حديثان له أن أبوي الرسول في النار لأنهم ماتا في الشرك، معتبرًا بذلك عدم اقتصار الجنة على المسلمين فقط.
كما تطرق البحيري إلى التشكيك في سن زواج السيدة عائشة من الرسول معتبرًا أن السن المذكور في الكتب غير صحيح ولا يوافق المنطق والعقل والخط الزمني للبعثة النبوية، وأنها تزوجت الرسول وسنها 18 سنة وليس تسع سنوات وذلك بالاستناد لأمهات كتب التاريخ والسيرة النبوية، وبعدها بدأ في دراسة بعض الأحاديث الخاصة بالمرأة وكيف لتلك الأحاديث الخاصة بالقرطبي ومسلم والبخاري قامت بتحقير المرأة واقرنتها بالشاه والحمير والكلاب مؤكدًا على ضرورة استئصال تلك الأخطاء.
بنيت أفكار وأطروحات البحيري على فكرة رئيسية مفادها «أن أي فشل اجتماعي واقتصادي وعسكري منبعه تخلف الفكر الديني» ومن ثم لا مناص من استئصال هذا الفكر.
هل يعد طرح البحيري من التنويريين؟ للإجابة على ذلك نتطرق إلى ماهية وأطروحات التيار التنويري العربي.
على هامش التنوير
ترجع الأصول التاريخية لما يسمى بـ «التيار التنويري» في الوطن العربي إلى ما أسسه محمد علي في بناء مصر الحديثة، وما تلاه من حقبة عصر النهضة العربية على يد رفاعة الطهطاوي، وبالعودة إلى التجربة التنويرية تاريخيا يمكننا القول بأن مرجعيات التيار التنويري أخذت من كافة الأقطاب العلمانية والدينية، فنجد من الإصلاحيين الإسلاميين محمد عبده ورشيد رضا، ومن التيار العلماني طه حسين وسلامة موسى وفرح أنطون وشبلي الشميل.
وقد تعددت مضامين الفكر التنويري فكان قوامها التمدن المبني على العلم والحرية والعمران والوطنية والتربية والديمقراطية الدستورية، فيما سعى تيار التنوير إلى مقارعة ومجابهة حقبة الانحطاط.
أمن طه حسين كذلك بضرورة التعليم فسعى إلى ترشيد مستقبل الثقافة في مصر، فوضع نظاما للتعليم بجميع مراحله، فيما أفرد سلامة موسى كتاباته للتنوير بالحرية والتربية، وعمل على النقد المنهجي للفكر الديني والإيمان الغيبي في كتابه «نشوء فكرة الله» متأثرا بكتابات الكاتب الإنجليزي جرانت ألين. فيما ركز الشيخ على عبدالرازق على الفصل بين الدين والسياسة في كتابه «الإسلام وأصول الحكم» الذي أنكر فيه الخلافة الإسلامية كونها ليست من الخطط الدينية أو القضاء.
ثلاث موجات لتيار التنوير
وجد التنويريون أن الفكر الديني هو أصل الشرور في الوطن العربي ومن ثم فلا مناص من فك القيود المفروضة على العقل من الأفكار الدينية.
بدأ المد التنويري يتراجع بعد هزيمة 1967 لصالح صعود تيار الإسلام السياسي مستفيدا من تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلدان العربية التي مثلت موطن احتضان للفكرة السلفي الجهادي، ومن هنا بدأ صراع الأيديولوجيا من جديد، ومن هنا وجد التنويريون أن الفكر الديني هو أصل الشرور في الوطن العربي ومن ثم فلا مناص من فك القيود المفروضة على العقل من الأفكار الدينية، ولكن بأي آلية؟
يجيب محمد عابد الجابري صاحب المشروع النهضوي العربي على هذا السؤال بتأكيده على أن قضايا التجديد والتحديث العربي لن يتم إلا من داخل التراث نفسه وبوسائله الخاصة وإمكانياته الذاتية، وذلك من خلال توظيف الوسائل المعرفية والمنهجية لخدمة ذلك.
وقد أسهب المفكرون والمجددون في الحديث عن ضرورة التنوير والتجديد والإصلاح المجتمعي، وتعددت خطوطهم الناظمة في المراحل الأولى لنشأة التيار وسعى منظروه إلى وضع أسس معرفية للدولة المتقدمة متأثرة بالنموذج النهضة الغربي فكان قوامها التحضر والعلم والعلمانية والحرية.
أما الموجة الثانية لمنظري التيار والتي بدأت فيما بعد 1967 سعت إلى التركيز على ضرورة الفصل بين الدين والسياسة وتبني العلمانية والديمقراطية كآلية لإقامة الحكم بدلا من نظام الخلافة والشورى الإسلامية.
أما ما نواجهه من تبعات هذه الموجه والتي بدأت فيما بعد ثورات الربيع العربي تنويريون جدد لم يحملوا بعد مشروعا للنهضة والتنوير العربي، في حين انصب جهدهم على مواجهة التيار الإسلامي الصاعد، فكانوا رد فعل لهذا الصعود، ومن ثم ركزوا على الصراع الفلسفي والفقهي الماضوي بالترويج لضرورة المراجعات التفسيرية للنصوص الدينية وتغليب العقل والتأويل على التفسير الديني للنصوص وكذلك ضرورة إحداث تجديد للخطاب الديني.
لا نقلل من شأن ما يدعو إليه هذا التيار لكن هل هذا كاف لتحقيق التنوير؟ وما الذي يحلينا إلى مجتمع ظلامي؟.
هل الدين هو المسئول الأوحد عن «الظلامية» التي نعيشها؟
هل «الفكر الديني الرجعي» هو المسئول الأوحد للظلامية كما يسوق الكثيرون؟ أم أن هناك مسوغات أخرى للظلامية يمكن ترجمتها في الاستبداد السياسي وغياب الحريات والعدالة الاجتماعية وسيادة القانون والدستور، وغياب الديمقراطية التشاركية كأساس للقضاء على العنصرية والطائفية والتطرف.
ألم تكن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية من ضعف مستويات التعليم وتراجع مؤشراته وجودته، وتزايد سوق البطالة في المجتمعات العربية، وزيادة الفجوة الطبقية بين الأغنياء والفقراء واتساع قاعدة من هم يقعون تحت خط الفقر هي المسئولة بالدفع إلى الإرهاب والتطرف والظلامية، إن مسببات ومسوغات الظلامية لا تقع على كاهل النصوص الدينية فقط، ولكن تقع المسئولية الأكبر على عاتق البيئة التي يتم فيها تفسير تلك النصوص.
قراءة سيكيولوجية التطرف الإسلامي المعاصر ربما تفيد التنويريون الجدد في بناء رؤية منهجية للمجتمع الظلامي، ومن ثم بناء رؤية تنويرية سليمة تقوم على معالجة مسببات المجتمع الظلامي ككل وليس الاكتفاء بعلاج اقصائي استئصالي لجزء من تلك المسببات.
دلالات العفو عن البحيري
أثار العفو الصادر عن البحيري جدلًا كبيرًا فيما اعتبره البعض أن العفو عنه سيشجع العديد للتطاول على الإسلام بينما اعتبره البعض الأخر انتصار لحرية الرأي والتعبير، واعتبر البحيري خروجه انتصار لإكمال مسيرته وأنه قرار أيدلوجي من جانب الرئاسة.
حديث البحيري عن أيديولوحية النظام السياسي في مصر الداعم للحريات لمجرد العفو الرئاسي يذكرنا بما قاله المنصف المرزوقي عن علاقة التنويريين بالأنظمة المستبدة :
سارع البحيري بعد خروجه إلى شكر السيسي كونه مناصرا للمثقفين والتنويرين على خلاف من سبقه من رئاسات مصر، ولكن لم نشهد موقفا للبحيري ضد سياسات القمع والتنكيل بحرية التعبير والتظاهر والحريات الأكاديمية والتي عانت من قمع النظام تحت مبررات الأمن والاستقرار، ولم يصدر موقفا تجاه العديد من القضايا الشائكة مثل الحريات الاجتماعية والاقتصادية والدينية المنقوصة في الوطن المنكوب أو الضائع كما يسميه رئيسها، وهو ما يشكل جزءا لا يتجزأ من المشروع التنويري الذي يجب أن يكون.
أخطاء البحيري : هل انتهي «زمن التنوير الحقيقي»؟
افتقر البحيري لأصول النقد العلمي فلم يجد سوي أساليب التطاول والتهكم والسخرية والاستفزاز للفت الأنظار إليه، مما قلل من وضع طرحه الفكري وعمل على تدشين منافسة بينه وبين التيارات الفكرية المختلفة مما قد يؤدي لظهور التطرف.
والجدير بالذكر أن مفهوم تجديد الخطاب هو في غاية الأهمية لمعالجة مشاكل الإرهاب والتطرف وقد تطرق لها العديد من أمثال محمد عبده وطه حسين وابن رشد وغيرهم ولكن ليس بحرق كتب التراث بل بتصحيحها وعرض نقدي لها، كي لا تنشأ المنافسات بين التيارات الفكرية ويولد التطرف ويكون التنوير سبب في تغذيته.
- مراد وهبة، إشكالية التنوير في الوطن العربي، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية،6 نوفمبر 2016
- منصف المرزوقي، بشأن خصومة التنويريين والظلاميين، الجزيرة
- هشام النجار، إسلام البحيري مصري حاول تقديم رؤية عصرية فاصطدم بالمؤسسة الدينية، العرب
- عمرو عزت، التلفيق الديني الجديد والأمل في «مشيخة التنوير»، المبادرة المصرية للحقوق الشخصية
- إبراهيم مشارة، طه حسين ورسالة التنوير العربي، ثقافات
- عمار على حسن، من «تجديد الخطاب الديني» إلى التنوير، الحياة،
- جلال أمين، عن التنوير قديما وحديثا، الأهرام،