تحولات داعش من التكفير إلى «التكفير الفائق»
بعد صمت استمر قرابة عام بثت مؤسسة التراث العلمي (المنشقة عن تنظيم الدولة «داعش»)، أواخر فبراير/شباط الماضي، 3 مقالات مطولة في نقد تنظيم الدولة الإسلامية تحت عنوان سلسلة: «ولتستبين سبيل المجرمين». وفي حين علل أبو عيسى المصري، المشرف على المؤسسة والشرعي السابق بالتنظيم، عودته للحديث بأنه «ليبين للأمة الإسلامية عمومًا ولأبناء داعش خصوصًا أسباب فشله …» وصفت أسبوعية النبأ الرسمية (عدد 276) أحاديث المنشقين بـ«أفعال المنافقين الذين قعدوا عن الجهاد مخافة الموت والابتلاء وانشغلوا بالطعن في المجاهدين …».
بدا التلاسن الإعلامي بين تنظيم الدولة الإسلامية والمنشقين عنه حلقة جديدة من حلقات الصراع المنهجي وصدام الأفكار الذي عاشه تنظيم الدولة منذ بداياته المبكرة. غير أن التنظيم الذي تأرجح في مواقفه بين تيارين متناقضين سابقًا، أكد، مؤخرًا، أنه انحاز وبقوة للتيار الأكثر تشددًا داخله.
فخلال الأسابيع التالية نشرت صحيفة النبأ الأسبوعية (عدد 285) مقالًا مطولًا حول وائل حسين الطائي، أمير اللجنة المفوضة (أعلى هيئة تنفيذية وقيادية) ونائب أبي بكر البغدادي سابقًا، بعنوان: «أبو محمد الفرقان.. قائد معركة الإعلام والمرابط على ثغور العقيدة 1»، لتعلن ضمنيًّا أنها تحتفي بـ«الفرقان» وتنتهج أفكاره التي أدت لأكبر انقسام في تاريخ التنظيم، وساهمت، بشكل غير مباشر، في خلخلة البنية الداخلية لداعش وخسارته لمعاقل سيطرته في العراق وسوريا.
صراع قديم
أعادت التطورات الأخيرة تسليط الضوء على الشقاق الجهادي الذي ضرب داعش منذ النصف الثاني لعام 2014، والذي توارى لاحقًا في خضم الانتكاسات التي تعرض لها التنظيم وسقوط الخلافة المكانية (مارس/آذار 2019)، مؤكدةً أن جذور الخلاف ما زالت ضاربة في أعماق التربة الفكرية للتنظيم، وإن توارت تحت ركام الخلافة المكانية المنهارة، بشكل مؤقت.
ووفقًا للعديد من الوثائق والمراسلات والشهادات الداخلية التي نشرها أعضاء داعش ومناصروه منذ عام 2016، فإن الخلاف المنهجي اندلع بين أعضائه بسبب اختلاف الرؤى حول قضايا/مناطات التكفير، كحكم المتوقف في التكفير، والموقف من العذر بالجهل … إلخ، التي شغلت حيزًا كبيرًا من البحث والمناقشة داخل الحركة الجهادية المعولمة منذ بزوغها خلال القرن الماضي.
بيد أن تلك النقاشات لم تكن وليدة السنوات الماضية فحسب، بل حظيت بزخم أكبر داخل تنظيم داعش منذ إعلانه لدولته الأولى (دولة العراق الإسلامية)، عام 2006، وأثيرت، في هذه الأثناء، مسألة العذر بالجهل في مسائل الشرك – من وجهة النظر العقدية – وحكم العاذر بالجهل (أي الذي لا يحكم على شخص بالكفر لأنه تلبس بناقض من نواقض الإسلام دون أن يعلم)، وهو ما دفع أبا عمر البغدادي، أمير التنظيم (2006: 2010)، لإصدار تعميم بمنع الخوض في تلك السجالات العقدية لكثرة اللغط حولها كما يوضح أبو ميسرة الشامي/أحمد أبو سمرة، نائب أبي محمد الفرقان سابقًا، في مقال له بعنوان: «الحازمي بين كبيرة القعود وضلال الجامية» [الحازمي هو داعية سعودي قريب فكريًّا من داعش].
وفي تلك الفترة اكتفى تنظيم دولة العراق الإسلامية بتحديد إطاره الفكري تحديدًا عامًّا دون حسم مسألة العذر بالجهل وتكفير العاذر، والمعروفة أيضًا بمسألة «السلسلة العاذرية/التكفير المتسلسل»، كما جاء في خطاب أميره أبي عمر البغدادي: «قل إني على بينة من ربي» (مارس/آذار 2007) الذي أعلن فيه منهجًا جهاديًّا قريبًا من منهج تنظيم القاعدة.
ولعل أهم ما جاء في كلمة البغدادي حينها اعتباره أن معيار الحكم على الديار (ديار إسلام/ديار كفر) هو غلبة الأحكام دون إسقاط تلك الأحكام على قاطني الديار، وعدم تكفير شخص (الحكم على أعيان الطائفة) إلا بعد ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه، وعدم تكفير عوام المسلمين، وكذلك الحكم بإسلام قادة ومقاتلي الفصائل الجهادية الأخرى (حتى مع اعتبارهم عصاة لتخلفهم عن بيعة التنظيم التي وصفها بواجب الوقت)، وعدم تكفير المشاركين/المنتخبين في العملية الديمقراطية (الانتخابات) من المسلمين واعتبارهم معذروين بالجهل، وأكَّد أمير دولة العراق الإسلامية هذه الاختيارات العقدية، في كلمته الأخيرة قبل مقتله: «امنعوهم لا تقتلوهم» (مارس/آذار 2010)، إلا أن تلك الخطابات والتوجيهات كانت بمثابة المسكن المؤقت للخلاف المنهجي الذي عاد ليشق التنظيم بعد تمدده إلى داخل سوريا.
شرعيون ولكن
في أبريل/نيسان 2013 أعلن أبو بكر البغدادي، خليفة أبي عمر في الإمارة، تمدد تنظيم الدولة الإسلامية إلى سوريا، ضمن كلمته الصوتية «وبشر المؤمنين». ودخل التنظيم في طور جديد جاعلًا هدفه الأساسي السيطرة على الأراضي داخل العراق وسوريا تمهيدًا لإعلان الخلافة.
ومع أن التمدد إلى سوريا فتح آفاقًا جديدة أمام التنظيم ومنحه فرصة ذهبية لتعزيز قدراته العملياتية، فإنه عانى بشكل واضح من نقص الكفاءات الإدارية والشرعية اللازمة لتسيير وحوكمة الأمور في المناطق التي خضعت لسيطرته، فضلًا على تعرضه لضغط كبير جراء الحملة التي أطلقتها فصائل سورية مسلحة للقضاء عليه.
وبدافع المصلحة التنظيمية البحتة، قَبِل التنظيم العشرات من المقاتلين الذين صُنفوا في ملفات انتسابهم له كـ «شرعيين» رغم أن العديدين منهم لم يكن لديهم أي خبرة في العلوم الدينية، علاوة على كون بعضهم من مروجي المخدرات ومدمني المواد الجنسية الإباحية، كما تكشف رسالة عالية السرية (صُنِّفت «خاصة جدًّا») وجهها أبو خباب المصري، أحد مشرفي لجنة تقييم الشرعيين بداعش، إلى أبي محمد الفرقان في يوليو/تموز 2016.
كان شرعيو داعش ينحدرون من تيارات فكرية متباينة تتدرج من الأكثر تشددًا الذين يكفرون بالعموم إلى الأقل تشددًا الذين يرون العذر بالجهل في مسائل الشرك الأكبر، وأُلحق الشرعيون بالهيئات الشرعية لدى التنظيم: (مكتب البحوث والدراسات، ديوان الدعوة والمساجد، ديوان التعليم، المكتب الشرعي لديوان الجند، المكتب الشرعي لإدارة المعسكرات، ديوان القضاء والمظالم)، بينما بقي الإشراف العام على تلك الهيئات في قبضة أبي محمد الفرقان الذي تولى إمارة المكتب المركزي لمتابعة الدواوين الشرعية، وإمارة لجنة الرقابة المنهجية والتقييم الشرعي.
ومن الواضح أن إصرار الفرقان على الإشراف على جميع الهيئات الشرعية في التنظيم ارتبط بخشيته من ظهور تيارات فكرية بعيدة عن النهج الجهادي الذي يتبناه، وذلك بعد تجربته في السجون العراقية (2006: 2011) التي شهدت ظهور ما عُرف داخليًّا بـ«الغلاة» الذين كفروا تنظيم دولة العراق الإسلامية وكل قادته وجنوده استنادًا لمبدأ التكفير بالتسلسل، كما تذكر أسبوعية النبأ في مقالها عنه.
الحطَّاب: وقود الأزمة
إلى ذلك، لعب الاقتتال بين داعش من جهة، وبين جبهة النصرة والفصائل السورية المسلحة من جهة أخرى، مطلع 2014، دورًا في تفجير الخلاف المنهجي داخل التنظيم الأول، إذ كان تنظيم الدولة يرفض تكفير عموم الفصائل السورية التي ترفع شعارات إسلامية وإن اقتتل معها، وظهر ذلك بشكل واضح في المناظرة بين أبي محمد العدناني، أمير اللجنة العامة/المفوضة والمتحدث باسم الدولة الإسلامية سابقًا، وبين أبي يزن الشامي، نائب أمير حركة أحرار الشام وأحد مؤسسيها، والتي أُجريت قبيل إعلان الخلافة المكانية في أواخر يونيو/حزيران من العام نفسه.
في المقابل، أفتى أبو جعفر الحطَّاب التونسي وعدد من شرعيي داعش بكفر جبهة النصرة – انتمى الحطاب نفسه لها سابقًا – وتنظيم قاعدة الجهاد، وردة عموم الشعب السوري عن الإسلام، وكفر من لم يكفر الطوائف السابقة، وفي ذلك أبو بكر البغدادي وأبو محمد العدناني، في تطبيق عملي لطريقة التكفير بالتسلسل المستقاة من أفكار السعودي أحمد بن عمر الحازمي، وأدى ذلك لإثارة أزمة داخلية سُميت بـ«فتنة الغلاة» أو فتنة الحطَّاب.
وحتى ذلك الحين، لم يكن داعش يتبنى موقفًا رسميًّا رافضًا لأفكار الحازمي أو يعاقب معتنقيها إذا كانوا ملتزمين بالسمع والطاعة وعدم شق الصف، غير أن تكفير الحطاب ومجموعته لأمرائه هدد بضرب التماسك التنظيمي في مقتل، وبالتالي عمد التنظيم لاتباع مقاربة أمنية بحتة في التعامل مع من وصفهم بـ«الغلاة»، فأُلقي القبض على أغلبهم وأودعوا سجون الأمنيين/ ديوان الأمن العام، وأُعدم أبو جعفر الحطاب، لاحقًا، في مارس/آذار 2015، وبقي رفاقه رهن الاحتجاز بينما انشق عدد منهم وأطلقوا على أنفسهم «الموحدين الغرباء»، وعملوا على نشر ما وصفوه بـ«كفريات دولة البغدادي» على شبكة الإنترنت.
وعقب إعدامه، خضع رفاق الحطاب ممن بقوا داخل التنظيم لجلسات «مناصحة» لثنيهم عن الأفكار المتشددة التي يعتنقونها، بواسطة شرعيي مكتب البحوث والدراسات برئاسة البحريني تركي البنعلي، لكن تلك الجلسات أتت بنتائج عكسية على غير المتوقع، لا سيما وأن المحتجزين أظهروا اقتناعًا مزيفًا بأفكار مناصحيهم ليتمكنوا من الخروج من السجون.
بالتوازي مع جلسات المناصحة، أصدر أبو محمد الفرقان قرارًا بتشكيل لجنة الرقابة المنهجية، كجهة رسمية مسؤولة عن تقييم الشرعيين والحكم على أفكارهم – لم يكن أغلبهم معروفًا لدى قيادة التنظيم – وبالفعل شُكِّلت اللجنة بعضوية أبي مسلم المصري (ممثلًا عن ديوان القضاء والمظالم)، وأبي بكر القحطاني، وأبي وليد السيناوي (ممثلين عن اللجنة المفوضة لإدارة داعش)، وأبي رغد الدعجاني، وأوس الجزراوي (ممثلين عن ديوان الأمن العام)، إضافةً لأبي خباب المصري، وأبي سليمان/ميسرة الشامي (عضوين مؤسسين في اللجنة).
«الرقابة المنهجية» وبروز التيارات الداعشية
هدفت لجنة الرقابة المنهجية للتفتيش على عقائد شرعيي التنظيم، والقضاء على ما تبقى من تيار الحطاب/ الغلاة، غير أن القائمين عليها اكتشفوا، خلال الجلسات مع رموز التيار المذكور، أن جلسات المناصحة التي عقدها رجال البنعلي تضمنت تصريحًا منهم بأفكار لا تتوافق مع قناعات قيادة داعش، خصوصًا أبا محمد الفرقان المسؤول الأول عن الهيئات الشرعية، ووُصف البنعلي ورجاله بـ«التجهم والإرجاء».
أصرت قيادات اللجنة على التحقيق مع البنعلي ورموز مكتب البحوث والدراسات، ومن ثَمَّ قرر الفرقان استتابتهم – لتلبسهم بأفكار تؤدي للشرك الأكبر من منظوره – وعزلهم من مناصبهم. في المقابل، لجأ البنعلي لأبي بكر البغدادي لإلغاء قرارات الاستتابة والعزل، لكن «خليفة داعش» وافق على تلك القرارات وأمر بإنفاذها.
نتيجةً للتطورات السابقة، برزت 3 تيارات فكرية داخل تنظيم الدولة الإسلامية، هي تيار أبي جعفر الحطاب، الأكثر تشددًا والذي يمكن وصفه بـ«الحازمي» مجازًا، وتيار تركي البنعلي، الأقل تشددًا والمعروف أيضًا بـ«المناهجة»، وبينهما تيار الفرقان – وصفته وسائل إعلام عديدة بتيار الحازمي، وهي تسمية خاطئة – ودخلت التيارات الثلاث في صراع غير محموم للسيطرة على مقاليد الأمور داخل داعش.
ومن جانبه، أدرك الفرقان أن استمرار الشقاق الجهادي يمثل خطرًا على تنظيمه، فلعب دورًا توفيقيًّا بين التيارات المتصارعة، وطلب مشاركة جميع الهيئات الشرعية في صياغة بيان لحسم الجدال حول مسائل التكفير، وأشرف بنفسه على جلسات صياغة البيان التي أسفرت في نهاية المطاف عن إصدار «بيان 155 للمكتب المركزي لمتابعة الدواوين الشرعية» في 29 مايو/آيار 2016، بعد تعديله 19 مرة بسبب الاعتراضات على صياغته.
ونص بيان المكتب المركزي على اعتبار التكفير من أصول الدين الظاهرة، وتكفير المتوقف في تكفير المشركين (المنتسبين للإسلام)، أي تكفير كل من توقف في تكفير القاعدة أو الفصائل السورية، فضلًا عن حظر استعمال لفظ «تكفير العاذر» المشهور لدى أتباع أحمد بن عمر الحازمي.
سبَّب البيان أزمة جديدة داخل داعش، وأبدى عدد من شرعييه رفضًا لصيغته، فيما عزز أبو بكر القحطاني (عضو اللجنة المفوضة وشيخ أبي بكر البغدادي في الفقه الإسلامي) رأي رافضي البيان، معلنًا أن أمراء التنظيم بالعراق وفيهم البغدادي، لا يوافقون عليه. وعلى إثر ذلك، عُقد اجتماع ثلاثي في الموصل العراقية ضم خليفة داعش والفرقان والقحطاني، وانتهى بالاتفاق على ضبط صياغة البيان، ومِن ثَم صدر بيان جديد يحمل رقم 175، نص على تكفير كل الفصائل التي تُحارب التنظيم.
بمرور الوقت عملت لجنة الرقابة المنهجية على استبعاد تركي البنعلي وأنصاره من المناصب القيادية في الهيئات الشرعية، بمباركة من عبد الناصر قرداش/حجي عبد الناصر العراقي، أمير اللجنة المفوضة، في 2017.
انقلاب على القيادة القديمة
في مايو/آيار 2017 أصدرت اللجنة المفوضة تعميمًا بعنوان: «ليهلك من هلك عن بينة» اعتبر أن التكفير من أصول الدين الظاهرة التي يجب معرفتها قبل معرفة الصلاة وسائر الفروض المعلومة، وظهر أن داعش صار يتبنى موقفًا أكثر تشددًا في مسائل التكفير وأحكام الديار، وبرز ذلك في المقالات التي نُشرت في صحيفة النبأ (عدد 85) تحت عنوان: «رموز أم أوثان» التي تضمنت تصريحًا بتكفير عدد من قادة الحركات الإسلامية كحسن البنا (مؤسس الإخوان)، وأبي مصعب السوري (منظر القاعدة الاستراتيجي)، وعطية الله الليبي (الرجل الثالث في القاعدة سابقًا)، وتلميحًا بتكفير البغدادي نفسه لثنائه على الليبي ووصفه بـ«العالم المجاهد» في أولى كلماته الصوتية («ويأبى الله إلا أن يتم نوره» التي بثتها مؤسسة الفرقان الإعلامية عام 2011).
أثار تعميم اللجنة المفوضة أكبر أزمة داخلية في داعش منذ نشأته، ونشر العديد من قادته البارزين، كأبي بكر القحطاني وتركي البنعلي وأبي عبد الرحمن الزرقاوي/عادل الكبيسي، ردودًا مطولة عليه، معتبرين أنه يؤصل لانحراف منهجي من شأنه القضاء على التنظيم. وعلى الجهة الأخرى، استخدمت اللجنة المفوضة المقاربة الأمنية في التعامل مع المخالفين، فاعتقلت العديد من الشرعيين واستدعت القحطاني والبنعلي للتحقيق، وقُتل كلاهما بعد فترة وجيزة من التحقيق معهما، وراجت اتهامات لقادة اللجنة بأنهم تخلصوا منهما عبر زرع شرائح تتبع ضُبطت بحوزة جواسيس التحالف الدولي («العزم الصلب»).
ونتيجة احتدام الخلاف، اضطر أبو بكر البغدادي للتدخل بشكل مباشر، فعقد مناظرة جماعية بين مؤيدي البيان/تيار الفرقان، ورافضيه/تيار البنعلي، وحضر من الطرف الأول حجي عبد الناصر العراقي، وأبو زيد العراقي، وأبو حفص الودعاني، ومن الطرف الثاني أبو محمد المصري، وأبو مسلم المصري، وأبو يعقوب المقدسي.
أسفرت المناظرة عن رجحان كفة تيار البنعلي الذين نجحوا في إقناع البغدادي بمسألة العذر بالجهل كما ظهر في كلمته الصوتية «وكفى بربك هاديًا ونصيرًا» (سبتمبر/أيلول 2017)، فأصدر بدوره قرارات بعزل أعضاء اللجنة المفوضة وأنصارهم في لجنة الرقابة المنهجية وديوان الإعلام المركزي وتولية أعضاء التيار الآخر مكانهم، وتكليف حجي عبد الله قرداش العراقي بإمارة اللجنة المفوضة الجديدة.
كان قرار خليفة داعش بمثابة انقلاب على القيادة القديمة التي صارت تحت مقصلة الأمنيين بدلًا من تيار البنعلي، واستُبعد رموزها من مناصبهم وخصوصًا في صحيفة «النبأ» التي توقفت لأسبوعين عن الصدور، وهرب بعضهم كأبي زيد العراقي وأبي حمزة الكردي إلى تركيا، كما ألغت القيادة الجديدة التعميم السابق وأصدرت تعميمًا جديدًا بدلًا منه، وأتبعته بسلسلة علمية من 7 حلقات – أقرها البغدادي وقرداش – لبيان الموقف الرسمي من قضايا الإيمان والكفر.
تحت وطأة الهزائم
تُبين رسالة وجهها أبو حفص الودعاني (محسوب على تيار الفرقان)، بعد سجنه، للبغدادي، أن انحياز خليفة داعش ونائبه عبد الله قرداش لتيار البنعلي، ارتبط برغبتهم في إجراء تغيير قيادي واسع بعد الهزائم التي تلقاها التنظيم، خصوصًا أن البغدادي كان يرى أنه لم يعد هناك شيء لدى التنظيم ليخسره.
وفي ظل استمرار الهزائم وتراجع داعش عسكريًّا أصدر نائب الخليفة الداعشي قرارًا بإغلاق جميع الهيئات الشرعية بحجة انحياز التنظيم وعدم وجود أهمية لها، وقرر تجنيد الشرعيين في ساحات القتال، بجانب إطلاق سراح معتقلي تيار الفرقان ودفعهم إلى ساحات القتال بعد حصار التنظيم في جيب هجين–الباغوز (محافظة دير الزور السورية).
في وقت لاحق حاول حجي عبد الله قرداش احتواء التيارات المتنافرة فأنشأ هيئة شرعية موحدة تحت اسم «المجلس العلمي»، لكن تلك الهيئة لم تستمر طويلًا إذ أُلغيت نهائيًّا تحت وطأة الهزائم العسكرية التي تكبدها التنظيم حينئذٍ، وأعلن قرداش أن الوقت غير مناسب للخوض في النقاشات المنهجية بقوله: «آني ما يهمني كل هذي المسائل العقدية، آني أهم شيء عندي الدولة»، وفقًا لما ذكره أبو عبد الرحمن الزرقاوي في مقال سابق له بعنوان: «سقوط الخرافة».
خفت الحديث عن الخلاف المنهجي تحت ضجيج القاذفات التي أجهزت على ما تبقى من الخلافة المكانية في قرية الباغوز فوقاني السورية مطلع 2019. وبعد نحو شهر، خرج أبو بكر البغدادي في إصدار مرئي («في ضيافة أمير المؤمنين»، أبريل/نيسان 2019)، ليعلن دخول التنظيم في مرحلة حرب الاستنزاف.
بيد أن البغدادي أشاد في ثنايا حديثه بمجموعة من رموز تيار الفرقان، أبرزهم أبو الوليد السيناوي (والي ولاية البركة الداعشية وأحد أعضاء اللجنة المفوضة سابقًا)، وأبو هاجر عبد الصمد العراقي (أحد أمراء التنظيم في دير الزور سابقًا)، مبينًا أنه انحاز – أخيرًا – لتيار القيادة القديم داخل داعش، ليتجدد بذلك الخلاف وتتوالى شهادات المنشقين عن كواليس الخلاف والشقاق الجهادي الأخطر في تاريخ الحركة الجهادية المعولمة.