داعش في الدراما الغربية: مشكلة تعريف «المسلم المعتدل»
تحدث الرئيس الأمريكي جو بايدن في عام 2012 في لقاء تلفزيوني على قناة إن بي سي عن كيفية تغيير رأيه في زواج المثليين فذكر أن رأي معظم الأمريكيين في فترة ما قد تبدل سريعًا ليؤيد هذا الزواج، وأن أهم عامل على الإطلاق في هذا التغيير هو مسلسل السيتكوم الأمريكي «ويل وجريس»[1]، إلى هذه الدرجة من الممكن أن يؤثر مسلسل -هدفه الرئيسي هو الترفيه- في تغيير الرأي العام. فما يعتبره الإعلام مقبولاً يؤثر في ما يعتبره العامة –بوعي أو بدون وعي- مقبولاً. فالأقليات التى يتم تمثيلها وإظهارها بشكل أكبر في الإعلام يتم تقبلها بشكل أكبر من قبل عامة الناس، والأقليات التي يُساء تمثيلها غالبًا ما يُساء فهمها من قبل العامة.
تهدف هذه الدراسة إلى دراسة عينة من المسلسلات التلفزيونية الأوروبية التي تتناول داعش، وتحاول تحليل وتقييم أثر هذه المسلسلات والسرديات التي تقدمها. إن أثر هذه المسلسلات متعدد الأوجه والاتجاهات، ولا تفترض هذه الدراسة أن هذا الأثر مقصود ومتعمد. ولكنها تعتمد على ما توصل إليه البحث العلمي في هذا المجال من أن المسلسلات التي قد لا يكون مقصودًا منها سوى الترفيه تُحدِثَ أثرًا غائرًا وحاسمًا في المجتمع.
إن علاقة الإعلام بالسياسة في آخر ستين سنة أو ما يزيد قليلاً يتم وصفها في الأدبيات الغربية من خلال مفهوم «الأعلمة»[2] أو «أعلمة السياسة»، وهو مفهوم يعبر عن تأثير الإعلام في السياسة. وهو لا يستخدم في السياسة فقط، بل هناك أعلمة المجتمع وأعلمة الدين وأعلمة الإرهاب.
وأعلمة السياسة مفهوم يعبر عن علاقة بين منطقين أو نظامين: منطق الإعلام بأشكاله ووسائطه ومعالجته لطريقة عرض ونقل المعلومات، ويتحكم هذا المنطق في كيفية تنظيم المعلومة وأسلوب عرضها والتركيز على خصائص وسلوكيات معينة دون الأخرى[3]. ومفهوم منطق السياسة -وإن كان أقل تحديدًا من مفهوم منطق الإعلام– يعبر بشكل عام عن عملية صنع القرار وتنفيذه بما يتضمن في ذلك توزيع السلطة وقنوات ذلك والإجابة عن سؤال السلطة الأقدم: «من؟ يحصل على ماذا؟ متى؟ وكيف؟»[4].
وأعلمة السياسة هي تنازل السياسة عن بعض مما يقتضيه منطقها لتتماشى مع منطق الإعلام. فيتخلى السياسي عن الخيار الرشيد من وجهة نظره من أجل الخيار الأمثل من وجهة نظر الإعلام. وإذ تنسحب الأعلمة على الظاهرة السياسية فإنها تتجاوز ذلك إلى ظواهر أخرى ومنها ظاهرة الإرهاب.
ويتجلى ذلك في اهتمام المنظمات الإرهابية مثل القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية بالإعلام إلى درجة التنافس على تنفيذ عمليات فقط للفت انتباه الإعلام. و كما هو ملحوظ فإن تغطية الهجمات الإرهابية تصب في مصلحة المنظمات الإرهابية من خلال توفير الدعاية التي يستغلونها لخدمة مصالحهم. فالإعلام يوفر منفذًا للمنظمات الإرهابية للوصول إلى جماهير وسائل الإعلام مقابل أن تنشر هذه الوسائل أخبارًا ومعلوماتٍ سوف تزيد من مبيعاتها. ولهذا السبب فكثيرًا ما توصف «وسائل الإعلام والمنظمات الإرهابية بأنهم أصحاب منفعة متبادلة»[5]. ويتشارك الإعلام هذه المنفعة مع كل الأطراف التي ممكن أن يستفيد منها في تحسين مبيعاته.
كيف يؤثر فينا الإعلام؟
لو نزلنا بمستوى التحليل من منطق الإعلام ومنطق السياسة و منطق الإرهاب إلى منطق الفرد، فقد اهتمت دراسات علم النفس بتأثير التلفزيون على معتقدات وقيم المشاهد، فقد وجد الباحثون أن هناك على الأقل ثلاث طرق يتأثر بها المشاهد وهي التحيز الإدراكي والبلادة و المحاكاة. وفي دراستنا عن داعش في الدراما الأوروبية والتأثير المترتب على طريقة التناول فإن فهم مفهوم «التحيز الإدراكي» يمثل عنصرًا مهمًا في الإطار المفاهيمي لدراسة هذا الموضوع.
فالتحيز الإدراكي[6] هو تحيز غالبًا ما يكون غير مقصود يتسبب فيه نقص المعلومات أو إيصالها بطريقة خاطئة، وفي حالة دراستنا هنا فإننا نقصد ما يمكن أن يغيره محتوى التلفاز من إدراك الفرد للعالم الحقيقي. فقد يجعله التلفاز يعتقد أن كل المسلمين إرهابيون أو معظمهم لأنه مثلاً يقوم بإظهار معظم المسلمين إرهابيين. وتجدر الإشارة أن التحيز الإدراكي مرتبط بنماذج سلوكية متعددة منها «التمييز القائم على عدم القبول» (Taste-Based Discrimination) وهو نموذج ظهر في علم الاقتصاد في القرن الماضي معبرًا عن ظاهرة التمييز في سوق العمل ضد الأقليات العرقية لمجرد تجنب التعامل معهم بغض النظر عن الإنتاجية وبدون أسباب واضحة. ومن خلال هذين المفهومين المترابطين يمكن فهم كيف يمكن أن يؤثر مسلسل تلفزيوني أو فيلم سينمائي على اختيارات الأفراد ومدركاتهم ومن ثم سلوكياتهم تجاه الأقليات المهاجرة في أوروبا.
وإضافة إلى ما سبق، فإنه يلزم التنويه إلى دراسة مهمة ستساعدنا على توسيع عدسة الرؤية من خلال معرفة تاريخ السرديات السينمائية الغربية أو بالأحرى الأمريكية فيما يتعلق بتناول شخصية العربي عامة. وتكمن أهمية هذه الدراسة أنها معتمدة على تحليل ما يقرب من ألف فيلم تناول شخصية العربي على مدار مائة سنة فأقدم فيلم في العينة يعود إلى 1896 وأحدثها يعود إلى بدايات القرن الحالي. وقد نشر جاك شاهين هذه الدراسة في كتاب بعنوان «العرب السيئون حقًا»، نُشر لأول مرة في عام 2001. من خلال هذا التحليل حدد شاهين أربعة أنماط يتم قولبة العربي فيها وهي:
1. الشخصية السيئة التي يتم تصويرها من خلال «إرهابي» يصنع المتفجرات ويقتل.
2. الشخصية الساذجة الباحثة عن المتعة والبذخ.
3. الشخصية البدوية البعيدة عن الحضارة والعلم وغالبًا ما يصاحبها خيمة وجمل.
4. الشخصية المتكبرة العصبية والتي تكون غالبًا بلا عواطف.
لقد استخلص شاهين هذه الأنماط من دراسة ألف فيلم وجد فيها 12 تناولاً إيجابيًا للعرب و 52 تناولاً محايدًا و936 تناولاً سلبيًا.[7]
وأود التأكيد أن الدراسة لا تفترض أن عرض الإرهاب في مسلسل يمثل أمرًا ذا تأثير سلبي في المطلق على الأقليات المسلمة والنظرة للمسلمين والتعامل مع المهاجرين منهم، أو على النظرة للإسلام عامة ومعتنقيه وبالتالي ما يستتبع ذلك من مظاهر الإسلاموفوبيا عامة، بل على العكس فإنه من الثابت علميًا قدرة المحتوى الإعلامي على إحداث تحيز إدراكي عند الفرد من خلال اظهار واقع مشوه أو ناقص وبالتالي فالإعلام أيضًا يملك قوة في الاتجاه المعاكس في معالجة هذا التحيز الإدراكي من خلال إظهار الواقع بحقيقته الكاملة. بالإضافة إلى قدرته على نشر الوعي بظاهرة الإرهاب وفهم الإرهابيين وأساليب التجنيد مع ما يستلزمه ذلك من إظهار النماذج الأخرى من أتباع الدين المعتدلين لإحداث التوازن الذي يعبر عن الواقع ويمنع التحيز الإدراكي الذي يزيد من مشاكل العنصرية والتطرف المضاد ويؤدي في النهاية إلى صنع بيئة عدائية ضد المهاجرين المسلمين.
إن الأسئلة التي ستحاول الدراسة الإجابة عنها تتمحور حول ما إذا كان التناول متوازنًا يدعم الحرب على الإرهاب ويعمق الوعي به وبسبل مواجهته، أم أن التناول غير متوازن مما يصنع تحيزات أكبر داخل المجتمع؟
إن عينة المسلسلات التي سنتناولها في دراستنا عبارة عن ثلاثة مسلسلات من ثلاث بلدان أوروبية. المسلسل الأول هو (الدولة) وهو إنتاج بريطاني عام 2017 ، و الثاني هو (الخلافة) وهو إنتاج سويدي عام 2020، أما الثالث فهو مسلسل (الأرض المحرمة) وهو إنتاج فرنسي بلجيكي في عام 2020. ومجموع حلقات المسلسلات عشرون حلقة.
«الدولة»: مؤمنون واهمون
«الدولة» 2017 The State هو مسلسل بريطاني من إخراج بيتر كوزمنسكي تُكونهُ أربعُ حلقات. يحكي المسلسل عن قصة أربعة بريطانيين من أصول مهاجرين سافروا إلى سوريا في سبيل الانضمام إلى داعش، رجلين وامرأتين لا تربطهم أي علاقة. الطريق دائمًا يمر عبر إستانبول بالطائرة، ثم إلى الحدود إلى سوريا عن طريق المهرِبين.
لا يناقش المسلسل دوافع الأربعة. فقط يبدأ المسلسل وهم يجهزون أمتعتهم للذهاب إلى الجهاد، باستثناء حالة «أبو أنور»، البريطاني الشاب الذي جاء ليتبع خطى أخيه الذي مات شهيدًا في سبيل الله، وسيكتشف فيما بعد أنه لم يمت شهيدًا بل قتلته سلطات داعش لمحاولته الفرار والعودة.
«أم الزبير» طبيبة بريطانية من أصول أفريقية تتمع بالذكاء، ولا تعاني أزمات تدفعها للانضمام إلى داعش سوى عقيدتها ورغبتها في الجهاد إرضاءً لله. تتعرض أم الزبير لمواقف عنيفة، من بينها اشتراط أن تتزوج لتنضم إلى المجاهدين بإذن وليها، لكنها تبرر كل ذلك لنفسها بأن «هذه فترة بناء الدولة»، وأنها «فترة انتقالية».
ولكن عندما يطلب منها أبو أكرم مدير المستشفى أن تستأصل كليتي جنديين كرديين من أجل الاستفادة بهما لصالح الدولة الإسلامية، ولا تستطيع أن تلبي هذا الطلب ومن ثم تتعرض للضرب والعقوبة. و الموقف الآخر الذي قلب موقفها عندما ذهبت إلى ابنها في المدرسة ووجدته يلعب الكرة في ساحة المدرسة برأس جندي من جنود الأعداء وجسده مصلوب على حائط مجاور يتناوب الأطفال التدريب على طعن جسده المعلق بلا رأس وسبّ خبثه وكفره.
رفيق أبو أنور البريطاني وصديقه يقرر في إحدى المعارك أن يفجر نفسه في العدو ويموت. ورفيقة أم الزبير أوشنا خليل، مراهقة صغيرة تبدو مؤمنة ومقتنعة بالدولة الإسلامية تقليدية ولا تفكر كثيرًا وتفرح بزوجها الجديد المقاتل مع داعش.
نستطيع أن نستشف كيف حاول المخرج بيتر كوزمنسكي أن يجعل الداعشي المهاجر من أوروبا شخصًا تعرض للخداع قبل أي شيء آخر. وأن يصوره على أنه لا يعرف بالضبط ما هو مقدم عليه، فحتى المراهقة أوشنا المؤمنة بالدولة لا يبدو أنها مصدومة بما يحدث حولها، فقد كان همها الأساسي أن تتزوج أسدًا من أسود الإسلام، وبالتالي يصورها إنسانًا قد يحمل في طيات نفسه مشاعر طيبة. أم الزبير كذلك ترفض استئصال كليتي جنديين كرديين من أجل الاستفادة بهما لصالح الدولة، وتتعرض للضرب والعقوبة، وتفجع حين تجد ابنها يلعب الكرة في المدرسة برأس أحد جنود الأعداء. حتى أن هناك شخصية ثانوية لجندي من جنود داعش من أصول غربية يبدى اشمئزازًا من سوق الجواري.
ويدور جدال بين المقاتلين وهم يصطحبون السبايا في الحافلة عائدين إلى منازلهم فيقول لأحد رفقائه: إنه اغتصاب، فيرد عليه الآخر هل تريد أن تقول إن السنة اغتصاب؟ إذا أردت أن تؤمن بدينك وأن تخشى الله فعليك أن تتقبل الرق لأنه جزء أساسي من الإسلام منذ نشأته. فيرد ثالث: أن الرق لا يستمر إلى الابد فهي إن أسلمت تُعتق، فيجيبه: وكيف ستحولها للإسلام؟ بأن تضاجعها؟ وهذه من الإشارات في المسلسل التي قد تُحدث عند بعض المشاهدين تحيزًا إدراكيًا بأن يعتقد أن هذه حقيقة الإسلام.
يفاجأ أبو أنور البريطاني بحضور والده إلى الرقة بحثًا عنه، وما إن يرى ابنه حتى يطالبه بالعودة معه ويقول له بانفعال: «إنني أسجد وأشكر الله الذي أعطاني أبناء على أرض آمنة، ولم أكن أتصور أن أبنائي سيديرون ظهرهم إلى الجميل الذي منحته لهم هذه الأرض، وأفضل أن تموت في سجن بريطاني على أن تموت في معركة على هذه الأرض».
تمثل شخصية الوالد هنا المسلمين المعتدلين المندمجين في مجتمعاتهم، ويتضح من كلام الوالد أن المخرج يعرف المسلمين المعتدلين المندمجين في بريطانيا بأنهم المعترفون بالجميل الذي منحته إياهم بريطانيا. وليس هناك أي شخصية أخرى تمثل الإسلام المعتدل. وهذه الشخصية لم تظهر إلا في مشهد واحد فقط.
وكما لا يتعرض المسلسل إلى دوافع الإرهابيين المهاجرين من أوروبا بشكل واضح، فإنه لا يتعرض إلى التجنيد بشكل كبير إلا من خلال مشهد واحد لأم الزبير إبان حماسها وإيمانها بالدولة الإسلامية ورغبتها في أن تكون جزءًا فاعلاً، فتقوم بنشر فيديو دعائي على اليوتيوب للمسلمين في أوروبا تحثهم على الجهاد والعمل بدلًا من الشعارات الزائفة.
ويتعمد المخرج إظهار نبرة هذا الفيديو بنبرة هادئة وحالمة وصادقة تؤمن فعلاً بما تقول، لكنها نشاز بسبب عدم تماشيها مع وحشية ما يدور على الأرض. وفي النهاية، تكون أم الزبير التي قالت: «إننا الجيل الأول ما جئنا إلا لنبقى»، أول من فرّ في النهاية.
يصور المسلسل أن الصراع بين داعش والنظام السوري حرب السنة ضد العلويين الذين يقتلون رجال السنة ويغتصبون نساءهم وهو تبسيط مخل في هذه النقطة، وهي نظرة تصور المسألة السورية كأنها محض صراع طائفي وتصور داعش أنها الوليد الطبيعي للبيئة السنية أمام العدوان الطائفي عليها.
«الخلافة»: التطرف أزمة نفسية أو اجتماعية
«الخلافة» Caliphate 2020 هو مسلسل من إنتاج سويدي، تأليف فيلهيلم بيرمان ونيكلاس روكشتروم، وإخراج جوران كابيتانوفيتش. أحدث هذا المسلسل ضجة كبيرة في أوروبا عامة، وفي الدول الإسكندنافية خصوصًا، بعد عرضه على التلفزيون السويدي في يناير/كانون الثاني 2020، وبعد ذلك على نتفليكس في مارس من نفس العام.
في هذا المسلسل تنقسم المشاهد بين السويد والرقة، حكايات متوازية يبدو في البداية أنها لا تتعلق ببعضها ولكن الخيوط تتشابك لتتقاطع مصائر الشخصيات والأحداث في النهاية.
أظهر صانعو هذه الدراما الخلل النفسي عاملاً من عوامل التطرف، خاصة في شخصيتي إيميل وجاكوب، وهم أخوان سويديان تحولا إلى الإسلام عن طريق إبراهيم حداد الذي يعمل على تدريبهما لتنفيذ هجمات إرهابية. يعاني أحد الأخوين من مرض نفسي ونوبات هلع، بينما يسيطر عليه أخوه الآخر، وهو أيضًا مدمن ومجرم سابق، ويظهر كشخص أوروبي عادي لا تبدو عليه أي علامات للتطرف.
يستغل إبراهيم حداد ضعفهما ويعدهما بجنة الخلد التي ستحل لهما كل مشاكلهما. وهاتان الشخصيتان تُظهران أن الإرهابي ليس المهاجر العربي من الجيل الأول أو الثاني فقط، وإنما من الممكن أن يكون سويديًا أصيلاً يعاني من مرض نفسي ومشاكل اندماج في المجتمع. وذروة تجسيد عدم الاندماج تتجسد عندما يذهب جاكوب، الأخ الأكبر والمدمن السابق، إلى أمه التي كان يكرهها، قبيل تنفيذ عمليته الإرهابية بلحظات، فيذبحها.
يتشارك حسام القدوري مع جاكوب وإيميل عامل الخلل النفسي أيضًا، فهو داعشي مهاجر من السويد، يعاني من اضطرابات نفسية سببها الكوابيس التي يشاهد فيها الدماء والأطفال الذين قتلهم. زوجته بارفين تحاول الفرار والعودة إلى السويد. شخصية حسام القدوري تقية تخاف الله وتخاف من المعارك، يحاول أن يبعد عن الموت والقتال بأي وسيلة. تنتابه طيلة المسلسل كوابيس الدماء التي تمثل عقدة الذنب. ولكن الهلاوس وعقدة الذنب لم تمنعه أبدًا من التحدث طوال الوقت بعدوانية عن الغرب ولعب دور كبير في تحديد مواقع التفجيرات التي سينفذها إبراهيم حداد ومجندوه.
تمثل شخصية إبراهيم حداد الإرهابي المحترف، فهو مساعد مدرس في مدرسة يمثل أبناء المهاجرين معظم طلابها. لا تبدو عليه أي علامة من علامات التطرف. لكنه آلة تجنيد داعش في السويد، وآلة تخطيط لتنفيذ هجوم متعدد في العاصمة ستوكهولم. الإرهابي الأذكى والأكثر خطورة، يتحسس أزمات ونقاط ضعف كل من حوله ليدخل منها ويقودهم إلى أقصى ما يمكن الذهاب إليه. يستغل المراهقات المسلمات وسخط المراهقين الطبيعي على المجتمع لينميه ويعمقه من أجل تمهيد طريقهم إلى الرقة. وينجح حداد في تجنيد ثلاث فتيات مراهقات.
الأولى هي زليخا، مراهقة عمرها 15 عامًا، ساخطة على أوضاع المهاجرين. يتقرب حداد منها ممسكًا هذا الخيط ليطور هذا السخط إلى موقف متطرف تعبيرًا عن الهوية المكبوتة ضد المجتمع «الكافر» الذي لا يعطي المسلمين حقوقهم ويحكم عليهم بالبقاء في أوضاع اقتصادية مزرية أو درجة أدنى، أو يدفعهم إلى التخلي عن عقيدتهم، كما تتصور زليخا، لكي يتمكن من قبولهم. إليشا أخت زليخا تقف في صفها في معركتها مع والدها لارتداء الحجاب، وتنضم إلى خطتها للهرب إلى الرقة.
«لن يحصل أي منا في هذه المدرسة على وظيفة، فحتى لو أصبح عامل نظافة فإنه لن يصبح محاميًا إلا إذا غير اسمه إلى إريك أو كارولين» تخبر زليخا حداد معبرة عن رؤيتها لعلاقة المجتمع الأوروبي بالمهاجرين المسلمين. يسألها حداد: «أوليس هناك شرطة مسلمون؟»[8]. تقول: «بلى، ولكنهم أجبروهم على التخلى عن عقيدتهم».
أما كريمة، صديقة زليخا، فتعاني من العنف الأسري بسبب والدها السكير، فتهرب منه إلى عالم صديقتها زليخا ومدرسهما إبراهيم حداد. ليست لدى كريمة نظرة متطرفة عميقة، ولكن يستهويها أمران: الإحساس بالانتماء الذي وجدته معهما بغض النظر عن أفكارهما، والرغبة في الإحساس بالقيمة والتأثير من خلال إحداث فعل تدميري كبير، وهو شعور نبع من النشأة القاسية مع أحلام المراهقة.
تجسد الشخصيات المراهقة في هذا المسلسل كيف يمكن للمراهق أن يكون أحد عناصر المجتمع المستهدفة من أجل التجنيد للإرهاب. والنماذج المراهقة هنا لا تتماثل في ظروفها، وإنما هناك زليخا الذكية التى تحيا حياة أسرية متوازنة مع أبوين محبيْن وداعميْن، وكريمة التي تعيش مع أب سكير لا يكف عن العراك معها ، ومريم خير التي يمثل «الانتقام للإسلام» أهم أهداف حياتها كما قالت مع أنها تحيا حياة مستقرة ولكنها تعاني من مرض يمنعها من الإنجاب، وهو ما يجعل أمل الزواج وتكوين أسرة وعيش حياة طبيعية صعبًا، فتلجأ إلى هدف قد يجعل لحياتها في نظرها قيمة ما. لكن التمرد الطبيعي عند المراهق يقوم الإرهابي باستغلاله وتطويره لتحويله إلى إحساس بالسخط على المجتمع ووجوب تغييره بالعنف.
نموذج الإرهابي ذي السجل الإجرامي قبل انضمامه للإرهاب يتجلى أيضًا في شخصيتين في المسلسل، إحداهما في السويد، جاكوب الذي قتل أمه، وأحمد صديق حسام القدوري الذي تقتله بارفين عندما يستغل مرض حسام ويذهب إليها في منزله ويغتصبها.
وفي هاتين الشخصيتين يبدو الإرهاب تجليًا من تجليات الإجرام، لأنه يرضي تعطش المجرم للعنف والدماء وفي نفس الوقت يعده بعد ذلك بالجنة والنعيم. وهي معادلة لا يحققها أي نوع آخر من الإجرام، وبالتالي فإن المجرمين أحد عناصر المجتمع التي يتم استهدافها للتجنيد في التنظيم الإرهابي.
يبدو التجنيد في مسلسل «الخلافة» عملية واسعة المدى ومعقدة قد تطال أنماطًا عديدة من البشر، فالذي يقوم بعملية التجنيد قد يكون شخصية نموذجية مهاجرة من جيل أول أو ثانٍ يبدو مندمجًا في المجتمع مثل إبراهيم حداد. من الممكن تجنيد المراهق من خلال توقه الشديد في هذا السن للتمرد على المألوف وتحقيق الذات. ومن الممكن تجنيد سويديين بأسماء مسيحية وسحنة سويدية نموذجية من خلال أزماتهم الشخصية والنفسية التي تقدم لهم حلاً خارجًا عن الصندوق يضع لك مكافأة كبرى هي الفردوس نفسه إذا أنهيت حياتك وفجرت نفسك في جمع كبير من البشر.
وتظل منصات الفيديو على الإنترنت حاضرة بشدة في مسلسل «الخلافة» كمسلسل «الدولة». فإبراهيم حداد يقوم بتعميق الهوة بين زليخا والمجتمع من خلال الفيديوهات. فعندما وصلت أليشا إلى الرقة، سألوها في مراكز استقبال الوافدات: هل تقرئين القرآن؟ هل تعرفين الإسلام؟ فأجابت بالنفي وعندما سئلت: كيف عرفتِ عن الإسلام؟ ردت أليشا: «أصدقائي وأختي واليوتيوب».
تمثل «بارفين» إلى حد ما نموذج المسلم المعتدل، فهي تعيش في الرقة مع زوجها لكنها منذ اللحظة الأولى تريد العودة. لا تعارض بارفين الفكر الإرهابي ولا تقبله، وهي بالتالي تمثل مسلمة غير مكترثة أكثر منها نموذجًا لمسلم معتدل فكريًا. وعندما تتعاون بارفين مع ضابطة الأمن الوطني في السويد فإنها لا تبغي من وراء ذلك إصلاح خطأ ما، ولا تشعر بأي ندم أو تأنيب ضمير لخيانتهم. هي فقط تتعامل بمبدأ المنفعة المتبادلة ليساعدها الأمن على مغادرة سوريا.
شخصية المسلم المعتدل تقدم في صورة أخرى في هذا المسلسل من خلال الضابطة التى تتواصل معها بارفين في الأمن الوطني السويدي، فهي من أصول بوسنية مسلمة. وهذه الضابطة بدورها تعاني من أزمة داخل المؤسسة التي تعمل بها وتتصارع مع ضابط آخر على الترقي الوظيفي وهو أيضًا مسلم. وهنا يعارض المسلسل فكرة أن المسلم لا بد أن يكون إرهابيًا أو متطرفًا خارجًا عن النظام، فالمسلم قد يكون عنصرًا من عناصر حفظ الأمن والنظام.
ومن الشخصيات المهمة لنموذج المسلم المعتدل والد زليخا وإليشا، المهاجر المسلم المعتدل الذي يعمل موظفًا، ويفاجأ ببوادر تطرف ابنته، ويحاول بشتى الطرق أن يثنيها عن ذلك.
يظهر مسلسل «الخلافة» الحجاب على أنه رمزٌ من رموز التطرف، فزليخا تخالف رغبة والدها في أن لا ترتديه وتصر هي على ارتدائه، و يصر هو على تخليها عنه لأنه رمز التطرف، في حين كان من الممكن أن يكتفي صانعو المسلسل بصراعها مع والدها بسبب دفاعها عن هجوم شارلي إبدو مثلاً أو تكفيرها لأبويها. ومما ساهم في جعل إظهار الحجاب رمزًا للتطرف هو عدم وجود أي شخصية مسلمة معتدلة أخرى محجبة. وهذا يساعد على خلق تحيز إدراكي عند المشاهد وتحيزًا وتحسسًا ضد الحجاب الذي من الممكن أن ترتديه أي مسلمة معتدلة. وهو جزء من ميل المسلسل لتعريف المسلم المعتدل والمندمج في مجتمعه بأنه المسلم غير المتدين.
يعبر «الخلافة» مع ذلك عن مفارقة بين مجموعتين، مجموعة تحاول الذهاب بكل ما تملك من قوة من أجل الحياة في فردوس الخلافة، ومجموعة أخرى تحاول الهرب بكل ما تملك من قوة من جحيم دولة الخلافة. مجموعة خبرت الواقع وعرفته ومجموعة ما زالت تتعلق بالوهم. يظهر الإسلام أكثر توازنًا في هذه الدراما.
في حين أن مسلسل «الخلافة» يبدو أقل تطرقًا لفكر داعش وأيديولوجيتهم فإنه يتعمق أكثر في مناقشة تجنيد المتطرفين، والتطرف داخل الأقليات المسلمة للمهاجرين في أوروبا. لكن عدم تنميط الإرهابي وعدم وجود تشابه كبير بين الشخصيات أوحى بأن كل شخص مسلم قد يصبح إرهابيًا إن عانى من أزمة ما، بالذات أنه لم يجسد المعادل المتدين المعتدل، المرأة المحجبة المعتدلة المندمجة في المجتمع أو على الأقل تسعى إليه، ولا المسلم المتدين الذي ينبذ التطرف ويعارضه.
«الأرض المحرمة»: الأوروبي المأزوم
«الأرض المحرمة» (No Man’s Land 2020) مسلسل من إنتاج فرنسي بلجيكي. مؤلف المسلسل هو عاميت كوهين، الأمريكي الإسرائيلي. يغوص المسلسل في أعماق الحرب الأهلية السورية من خلال عيون الشاب الفرنسي أنطوان الذي يبحث عن أخته التي يُفترض أنها في حادث إرهابي في القاهرة، ولكنه يلمح في نشرة الأخبار فتاة تقاتل مع قوات الأكراد تشبه أخته تمامًا فيقرر السفر للبحث عنها. ينتهي الأمر بانضمام أنطوان إلى وحدة من المقاتلات الكرديات ومجموعة متناثرة من المقاتلين من النشطاء الدوليين الذين سافروا لمساعدتهم في القتال.
نكتشف مع الوقت أن الأخت بالفعل لم تمت، وأن التفجير الإرهابي في القاهرة جاء بتخطيط من الموساد لإقناع المخابرات الإيرانية أنها ماتت، لأنها متورطة في مقتل أحد العلماء الإيرانيين إبان عملها في إيران في بعثة علمية. وفي لحظة صحوة ضمير، تقرر الذهاب لقتال داعش مع الأكراد للتخلص من استغلال الموساد لها من خلال عميل الموساد ستيوارت.
عندما يصل البطل الفرنسي إلى سوريا وهو لا يجيد التحدث بلغة أهلها، تنقذه ساريا التي نشأت في فرنسا وهي من أصول كردية وتحارب الآن في صفوف المقاتلين الأكراد، هي المسلمة الكردية تعيش على نمط الحياة الأوروبية ولا ينشغل المسلسل كثيرًا بإظهار شخصية مسلمة معتدلة.
وتتوازى مع هذه الحكاية حكاية أخرى تدور أحداثها في داخل داعش لثلاثة بريطانيين، اثنان منهم من أصول عربية. نكتشف أيضًا أن أحدهم، ناصر الشمري، عميل لستيوارت الذي يتواجد هو نفسه في سوريا، ويوهم ناصر بأنه من المخابرات البريطانية.
حيث إن الداعشي ناصر الشمري ما هو إلا جاسوس لصالح الموساد، فالإرهابيان الفعليان هنا هما زميلاه إياد البلتاجي وبول ويلكنز، وهما شخصيتان تعانيان من التهميش منذ سن المراهقة، يعيشان في مجمع سكني واحد للطبقة العاملة مما أحدث بينهم شيئًا من التقارب، وخصوصًا مع وجود أب عنيف وسكير لبول ويلكنز، فيشعر بالانتماء أكثر لصديقيه اللذين نجحا في تحويل صديقهما للإسلام منذ سن المراهقة.
في أحد المشاهد، يقول إياد البلتاجي إنه لا بد لنا أن نصنع شيئًا من أجل الإسلام، فيقترح بول تفجير موكب ملكة بريطانيا! وعندما يسأله ناصر: وماذا فعلت لك ملكة بريطانيا؟ فيجيب بول بأنه لا يدري، ولكنه سيكون حدثًا جللًا فحسب. والمقصود هنا أن الإرهابي قد يكون إرهابيًا لمجرد البحث عن قيمة أو معنى أو أمر جلل كما قال حتى لو كان هذا الأمر الجلل عبثيًا وبلا أي منطق.
ومع ذلك فإن ناصر الشمري كان جنديًا في الجيش البريطاني وساعده ذلك على الترقي سريعًا في صفوف داعش نظرًا لخبرته وذكائه وهو السبب الذي اختارته من أجله الموساد.
الخاتمة
نستطيع أن نستشف من خلال ما سبق أن المسلسلات الثلاثة لم تقولب الإرهابي الداعشي في قالب واحد. تعددت الشخصيات ودوافعها، بداية من الدوافع التي قد تبدو نبيلة عند أم زبير في مسلسل «الدولة» إلى الجاسوسية عند ناصر الشمري في مسلسل «الأرض المحرمة»، مرورًا بنمط الإرهابي المراهق الذي يتم استغلال نضارة سنه وتوقه للتمرد. فالمراهقون في مسلسل «الخلافة» يبدون أكثر كضحايا. ومن الجدير بالذكر أن المراهقين الأوروبيين المتطرفين الذين تم تجسيدهم في المسلسلات كلهم «إناث». ومن الواضح في هذه النقطة التأثر الكبير بقضية الثلاثي بينثال جرين: أميرة عباسو، شيماء بيجوم، وكاديزا سلطانة، اللواتي غادرن منازلهن في فبراير/شباط 2015 متجهات إلى أراضي داعش.
إن شخصية الإرهابي الأوروبي المتحول من المسيحية إلى الإسلام ثم إلى التطرف، قد تم تجسيدها في مسلسل «الخلافة» ومسلسل «الأرض المحرمة» في تنميط واضح، حيث إنه دائمًا شخص يعاني من أزمة أسرية ويميل إلى العنف، وغالبًا أيضًا ما يكون ذا سجل إجرامي، تدفعه حياته كأوروبي فقير يعيش في أحياء المهاجرين إلى أن يندمج معهم بدل أن يندمج مع المجتمع الأكبر، ويتبنى أفكار التطرف لأنها تتوافق مع شخصيته التي تميل إلى العنف والإجرام.
وأخيرًا، فقد نجحت المسلسلات في إيصال فكرة دقيقة للمتلقي الأوروبي في بعض النقاط، وأهمها عملية التجنيد في مسلسل «الخلافة» وتعقيدها، وكذلك خطورة التمييز ضد المهاجرين المسلمين باعتباره من أهم بواعث التطرف.
وقد احتوت المسلسلات قصورًا واضحًا في إظهار صورة المسلم المعتدل. فالمسلم المعتدل كان دائمًا هو المسلم الذي لا يختلف عن الأوروبي، المتطابق معه في أسلوب حياته ومظهره، فلم يظهر نموذج المسلم المعتدل والمختلف في ذات الوقت، وهذا قد يصنع تحيزًا إدراكيًا يجعل من كل محجبة متطرفة، أو كل مسلم يصلي متطرفًا.
- مسلسل أمريكي يحكي قصة المحامي المثلي ويل الذي يعيش مع صديقته جريس في شقة في نيويورك وصديقيهما المقربين جاك الفخور بمثليته و كارين.
- Mediatization & Mediation
- Altheide, David L., and Robert P. Snow. 1979. Media Logic. Beverly Hills, CA: Sage.
- Jesper Strömbäck.2008. Four Phases of Mediatization: An Analysis of the Mediatization of Politics. The International Journal of Press/Politics. Sage.
- Hoffman, A. M., Jengelley, D. H. A., Duncan, N., Buehler, M., & Rees, M. L. (2010). How does the business of news influence terrorism coverage? Evidence from The Washington Post and USA Today. Terrorism and Political Violence, 22(4), 559–580.
- Perception Bias.
- Jhally, Sut, Jeremy Earp, Andrew Killoy, Mary Patierno, Simon Shaheen, and Jack G. Shaheen. 2006. Reel bad Arabs: how Hollywood vilifies a people. OKS Print. Northampton, MA: Media Education Foundation.
- قبلت أكاديمية الشرطة أول مسلمة محجبة دونا الجمال عام 2011.