إسماعيل الإسكندراني: الصحفي الذي أحب سيناء فسُجن معها
منذ 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 وهو محاط بأسوار السجن،ذلك السجين الذي حاول من قبل بجولات وصولات أن يفك أسر حبيبته التي خرجت من سجن المحتل قبل أربعين عامًا لتقع في سجن السلطة التي تدعي حمايتها وحماية أهلها وثرواتها، حاول الصحفي إسماعيل الإسكندراني عبر سنوات طويلة أن يزيل اللثام عن سيناء الجميلة وأن يكون صوتا إعلاميا لكل ما يحدث فيها، إلا أن متابعيه الذين يعرهون إليه عندما يجدُّ جديدٌ على أرض الفيروز، يفتقدونه اليوم، في ذكرى تحرير رسمي على الورق، وحبس احتياطي على الورق أيضا، لأن صاحبه ما زال معنا.
ما لا تعرفه عن سيناء
بدأ الإسكندراني سلسة مقالاته المتعلقة بالوضع الاجتماعي والاقتصادي في سيناء ب «السفير العربي» في مايو 2014، حيث قدم ستة مقالات تتناول شكل وطبيعة سيناء بعيدًا عن الأوضاع الأمنية، فقدمت تلك المقالات مخالفًا للصورة المحفورة لسيناء بأذهان الكثيرين، حيث الصحراء القاطمة والخاوية والرشاشات والدابابات والجثث الملقاة في كل شبر.
تناولت تلك السلسلة أهالي سيناء من بدو ووافدين وفلسطينيين، وحياتهم وأشغالهم. كما تناولت الصراع القائم حول النفوذ الاقتصادي بين العسكريين والمدنيين، وغيرها من القضايا الشائكة؛ والتي لم يهتم بالتعمق في فهمها سوى القليل من الباحثين.
يسوء الوضع بسيناء كلما لامست البيادات رمالها
يعيش بسيناء البالغة 61 ألف كيلومتر عدد لا يتجاوز المليون نسمة، ويقسم الإسكندراني سكانها إلى قبائل بدوية، وعائلات حضرية وقلاعية – بعض من الناجين من مذبحة المماليك ومن نسبوا إلى القلاع بالقرن التاسع عشر – ولاجئيين فلسطينيين وافدين من الشرق، ومصريين وافدين من وادى النيل.
كما تتنوع أنشطة سكانها بين الزراعة في الوديان والمناطق المستصلحة، والسياحة المحتكرة من قبل رجال الأعمال، والمهندسين والفنيين الوافدين للعمل في الجهاز البيروقراطي وشركات البترول. فنقل لنا الإسكندراني طبيعة سيناء الحدودية، غير المهتمة بها الدولة ولكنها تضخ بالحياة والزراعة والسياحة، إلا أن الوضع يسوء كلما لامست البيادات رمالها.
الأصدقاء في مواجهة العدو
لم تكن الصفقة التي جمعت إسرائيل بقيادة الجيش المصري لمحاربة عدوهما المشترك بشيء خفي على أهل سيناء، حسبما أشار الإسكندراني، إلا أن النخبة السياسية البعيدة جغرافيًا عن سيناء تعثرت في إدراك تلك الحقيقة. فمنذ عزل محمد مرسي سعت القيادة المصرية لكسب التأييد الأمريكي، لتستمر في ضخها للمعونات العسكرية، وكان رضا إسرائيل هو الطريق المؤدي لرضا أمريكا.
ونصت الصفقة على الضغط الإسرائيلي على أمريكا في مقابل حماية الجيش المصري لإسرائيل من هجمات الجماعات المسلحة.
فكانت هجمات الجيش الشرسة على الجماعات المسلحة بسيناء، من بعد يوليو/تموز 2013، هي بداية تحول هدف تلك الجماعات من إسرائيل إلى القوات المصرية. حيث كانت الجماعات المسلحة مكتفية بتفجير خط توصيل الغاز إلى إسرائيل والأردن، وبدأت الجماعات الإرهابية في توجيه هجماتها إلى أهالي سيناء المشكوك في تعاونهم مع الجيش المصري، والمناطق السكنية القريبة من القواعد العسكرية والشرطية المصرية، بعد أن كشّرت القوات المسلحة عن أنيابها للحفاظ على الأمن الإسرائيلي.
فتحول الوضع إلى حالة تمرد مسلح محلي ضد الدولة المصرية، مما تسبب في هلاك أهالي سيناء في ظل عدم اكتراث الدولة المصرية بهم. وبدأـ بث القنوات الإعلامية خطابًا كراهية في حق سيناء وأهلها، تحت مسمى «الحرب على الإرهاب» التي تشنها الدولة بمساعدة إسرائيل صد العدو المشتركة؛ الجماعات المسلحة.
وأدت الحرب على الإرهاب والهجمات الموسعة بداية من 7 سبتمبر/أيلول 2013 إلى سقوط العديد من المدنيين برصاص الجيش المصري والقصف بالطيران للحربي، في سابقة من نوعها لم تشهدها سيناء منذ عام 1967 – بسبب الاتفاقيات الدولية – وباتفاق مصري – إسرائيلي.
وبالعودة إلى الصفقة المصرية-الإسرائيلية فكتب الإسكندراني في مقال له، بتاريخ 10 يونيو/حزيران 2014، عن تقرير للصحيفة الإسرائيلية «هآرتس» حول دور إسرائيل الحيوي في إقناع الإدارة الأمريكية باستئناف المساعادات العسكرية للجيش المصري، وأعلن المتحدث الرسمي لوزارة الدفاع الأمريكي عن دعم الجيش المصري في محاربة الإرهاب «من أجل المصلحة الأمريكية المصرية الإسرائيلية المشتركة» كما جاء في مقال الإسكندراني، ليؤكد ما تتعمد وسائل الإعلام إخفاءه عن الأعين والأذن المصرية.
كما استطاع الإسكندراني أن يفاجئ قراءه، من خلال تناوله لما أفصح عنه التقرير من زيارة وفد عسكري رفيع المستوى للقدس وتل أبيب، واستمرت الاجتماعات والجولات التعريفية بالمجتمع الإسرائيلي لسبعة أيام. وهو ما تبعه تخمين لوجود تعاون مصري-إسرائيلي في الهجمات الموجهة ضد العدو «المشترك» من الجماعات المسلحة بسيناء.
الاستغلال الاقتصادي والسياسي
لم تكن السياسات المصرية تجاه سيناء من بعد 3يوليو/تموز 2013 مختلفة عن سياسات الأنظمة السابقة، حيث الكل سعى لاستغلالها بالشكل الأنسب والأمثل، بغض النظر عن تداعيات ذلك على أهلها أو مدى أخلاقية هذا الاستغلال من عدمه.
ففي مقال آخر له من ضمن السلسلة المنشورة في السفير العربي؛ استطاع الإسكندراني أن يكشف طبيعة الاستثمارات التي كانت قائمة في سيناء حتى قيام الثورة المصرية في 25 يناير/كانون الثانى 2011، برعاية كل من حسين سالم وحسن راتب.
حيث ارتبط اسم سالم بعلاقات وصفقات مشبوهة مع العدو الإسرائيلي، أشهرها الصفقة الفاسدة لتصدير الغاز المصري إلى إسرائيل من خلال سيناء، بأسعار زهيدة وفي مقابل علاقات متوددة استطاع سالم أن يجني من خلالها ثرواته. والجدير بالذكر؛ أن آبار جنوب سيناء كانت مصدر إسرائيل للغاز على مر سنوات عدة، فاستطاعت أن تحقق لإسرائيل اكتفاءً ذاتيا من الوقود خلال سنوات معدودة من احتلالها للأراضى المصرية، حتى بلغت مرحلة التصدير.
بينما اعتمد راتب على علاقاته وقربه من قادة عسكريين متقاعدين، فقامت بينهم الكثير من المصالح المشتركة من خلال تشغيل هؤلاء القادة بشركات راتب بمقابل مادي مجزٍ في مقابل تيسير الإجراءات القانونية والإدارية لمشروعاته المشبوهه بسيناء. حيث أنشأ مصنعًا للأسمنت بوسط سيناء، لتصدير إنتاجيته لإسرائيل لبناء الجدار العازل بفلسطين، كما أن المصنع كان مخالفًا للقوانين الأوروبية المعنية بالحفاظ على البيئة.
أما فيما يخص الاستغلال السياسي، فكان من النصيب الأكبر لما بعد 3يوليو/تموز 2013؛ حيث استثمار الدولة لما يحدث من إرهاب سياسيًا، حتى تستمر شرعية النظام – القائمة بالأساس – على السعي لتحقيق الاستقرار والتصدي للخوف والتهديد الذي يطارد مصر. فمتى ينتهي الإرهاب، تتفتح الأبصار وتعلو الأصوات بالمطالبة بتحسبن سوء الأوضاع الاقتصادية والسياسية، وهو ما لا تريده السلطة.
الإنجازات المزعومة
وأرجع الأسكندرانى في مقال له بالمدن غياب أخبار سيناء عن الجمهور المصرى إلى سببين؛ سياسات التعتيم والإرهاب الإعلامى التي يتبعاها الجيش المصرى، على عكس جماعة «أنصار بيت المقدس». حيث تنشر الجماعة أغلب عملياتها موثقة بالفيديو لتتفاخر بيها وتثبت تفوقها على القوات المصرية، كما تبتعد عن أى إثارة الحديث حول الاشتباكات غير الموثقة.
بينما يكتفي الجيش المصري بنشر بيانات حول إنجازات مزعومة، لا يؤكدها غيره. فلا أدلة ثبوت أو واقع ملموس. حيث أوضح الإسكندراني في مقال آخر له بالمدن بتاريخ 5 سبتمبر/أيلول 2014، عن ازدياد نفوذ جماعة أنصار بيت المقدس بسيناء، حيث القدرة على اصطياد الجنود وذبحهم بسهولة شديدة، وإقامة نقاط تفتيش مسلحة تابعة لهم ب «جنوب الشيخ زويد» تفتعل الأزمات مع الأهالي وتهددهم بالسلاح، هذا بالإضافة إلى قدرتهم على إقامة صلاة العيد بالأسحلة في الخلاء، في غياب تام لتصدي الجيش المصري تلك التصرفات.
وفي سياق منفصل يُبرر البعض عدم إفصاح الجيش المصري عن ضحاياه بسبب الخوف على الروح المعنوية لجنوده، والحفاظ على شكله أمام الرأي العام دون وضعه في موقف عجز أو فشل. إلا أن تلك السياسات تضلل الرأي العام، كما تخبي حقيقة ما يحدث في سيناء، مما يعني عدم محاسبة المخطئ إن أخطأ. بالإضافة إلى فشل أي محاولات جادة لإصلاح القصور بالقوات المسلحة والاختراق التي تتعرض له من قبل الإرهابيين.
التهجير كحل أمثل
لم تنأ وسائل الإعلام بنفسها عن الصراع القائم بين الجيش المصري وجماعات الإرهابية -بالرغم من التعتيم الذي يمنعها من نقل الحدث بشفافية وموضوعية-، إلا ان تقديمها للحلول كان حاضرًا. فنادت وسائل الإعلام بالتهجير القسرى للأهالي بشمال شرق سيناء، هذا بالإضافة إلى موقف الإعلام الداعم لفرض حظر التجوال وحالة الطوارئ بسيناء، وهو الأمر الذي كبد الأهالي الكثير من المشقة والخسائر كما يوضح الإسكندراني.
وفي مقال له بتاريخ 1 ديسمبر 2013، كتب إسماعيل الإسكندراني عن المعاناة التي يعيشها أهالي سيناء حيث الحواجز الأمنية والدروب غير الممهدة وخسارة الملايين من الجنيهات بسبب تجريف مزارع الزيتون والموالح والفاكهة.
وبالرغم من تجريم الدستور للتهجير إلا أن دائمًا ما يتم طرح هذا الحل لتلك الأزمة، حيث بدأ الجيش المصري في عملياته التهجيرية بأغسطس/آب 2013 بتجريف أراض زراعية ونسف بعض البيوت لدواع أمنية. هذا بالإضافة إلى حالة الطوارئ وحظر التجوال المفروض من حين لآخر، والقصف الجوي والبري والبري الذي دمر مدارس ومساجد ومنازل وروع الآمنين، دون تقديم أي من التعويضات للأهالي. فأصبح أهالي سيناء محاصرين من كل الأطراف؛ الجماعات الإرهابية والجيش المصري.
الحاضر الغائب
وسط حالة من التعتيم الإعلامي والغياب الحقوقي والظلم المجتمعي، حاول الإسكندراني أن يربط العاصمة بسيناء الحدودية، لينقل ما لا تعلنه ولا تعرف عنه السلطة المصرية؛ الحاضر الغائب بسيناء.
فيعيش أهالي سيناء واقعًا أليمًا من انتهاكات وجرائم وعقوبات جماعية، في ظل تعتيم إعلامي وحقوقي. وبالرغم من ما نقله الإسكندراني لنا من خلال كتاباته إلا أن الواقع أشد قسوة. ولم يكتف الجيش المصري بما تتعرض له سيناء من ظلم على أيادي الجماعات الإرهابية، فيمارس هو الآخر ظلمًا لن يغفره له مرور الزمن.
وأوضح الإسكندراني في مقالاته خطورة عدم اهتمام الجيش المصري بعوامل ضعفه على مر السنين الماضية، وأهمية تطوير قدراته التدريبية وكفاءته وجهوزيته. حيث على النقيض تتطور العمليات الإرهابية كمًا وكيفيًا. بينما غضت الدولة نظرها عن تلك، وقررت محاكمة الباحث والصحفي الإستقصائي المتخصص في شؤون سيناء، إسماعيل الإسكندراني، بتهمة الانضمام إلى جماعة الإخوان المسلمين ونشر أخبار كاذبة. فمثلما تعاقب سيناء على قدر لم تختاره، يعاقب الإسكندراني على اختياره بأن يكون جزءًا من هذا القدر. ومثلما تقع سيناء اليوم أسيرة التهميش والتهجير والتجهيل الإعلامي والحصار الأمني ورصاص الجيش وصولات الجماعات المتطرفة – يقع إسماعيل الإسكندراني اليوم أيضا أسير سقف الحرية الساقط وحقوق الإنسان الضائعة والعدالة الغائبة والسلطة المكممة لكل الأفواه.
هوامش
للاطلاع على المزيد من تحليلات وكتابات إسماعيل الإسكندراني يرجى مراجعة مدونته الخاصة «أحب سيناء»
- سلسلة مقالات إسماعيل الإسكندراني بالسفير العربى
- سيناء.. جذور أزمة بلا حل
- نيران الانتخابات الرئاسية
- السيسى كنز إستراتيجى جديد لإسرائيل
- سيناء تجدد حرب البيانات
- حرب غزة
- أنصار بيت المقدس بسيناء
- التصعيد في سيناء
- سيناء.. استخلاص الدروس المستفادة من الفشل المتكرر
- مصر.. استثمار العنف في سيناء
- قضية إسماعيل الإسكندراني.