بدعة السلفية: هل تُوجد «يوتوبيا إسلامية»؟
تكاد تكون السلفية هي أكبر «بدعة» في تاريخ الإسلام. ولا يخلو الأمر من مفارقة صارخة. فالفكرة السلفية التي ظهرت في منتصف القرن الثامن عشر، وفي سياق تاريخي مأزوم، نظرت إلى نفسها باعتبارها بيداجوجيا اجتماعية إحيائية، تستهدف التقويم الأخلاقي/السلوكي للمجتمع، لإعادة إحياء وتثوير قواه الحضارية المنهكة. ومن هذا المنطلق، أنتجت السلفية تصورًا «بيوريتانيًّا» (طهرانيًّا) عن العقيدة التوحيدية، لا بما هي قضية ثيولوجية تتم مناقشتها على أرضية علم الكلام التقليدي، وإنما بما هي منطلق إبستمولوجي (معرفي) يعني أساسًا «وحدة الحقيقة» – أو توحيدها – بجميع أشكالها النظرية وتجلياتها الاجتماعية، وهو مطلب المثاليين في كل زمان.
السلفية والنظام المعرفي الإسلامي
هذا التعريف «التوحيدي» للتوحيد نفسه –إن جاز هذا التعبير- لا يمكن فهمه تمامًا إلا داخل السياق الاجتماعي والتاريخي الذي ظهر فيه. فالمنهجية السلفية نشأت بالأساس في مناقضة التقليد المعرفي ما-قبل-الحديث للمسلمين، فهو خصمها الأساسي الذي عرَّفت نفسها من خلال مناقضته. ذلك التقليد المعرفي الذي يقوم على دعامتين أساسيتين: نظام المذهبية الفقهية من ناحية، والتصوف الطرقي من الناحية الأخرى.
ومن منظور «طهراني» يوتوبي اعتبرت السلفية أن ذلك «التنوع» المنفلت في المذاهب والطرق، هو محض «اختلاف مرذول» في «الدين»، الذي يُفتَرَضُ فيه –من وجهة النظر السلفية– وحدة الحقيقة، وبالتالي اعتبرت السلفية أن كل ما عداها هو محض «بدعة» لا تنتمي لأصل الدين، ومن هنا تأتي المفارقة، حيث الظاهرة الناشئة حديثًا تدعي لنفسها الأسبقية على ما سبقها، والمنهجية «المبتدعة» تدعي أن كل ما عداها «بدعة».
وانطلاقًا من هذه المناقضة للتقليد المعرفي للمسلمين -الذي يُعتَبَر علم الكلام أحد أهم أدواته المعرفية- قطعت السلفية الصلة بعلم الكلام وبغيره من علوم المسلمين -باستثناء علم الحديث- وتناولت التوحيد من منطلق طهراني تبسيطي يتجاهل كل المناقشات الذكية التي دأب علماء الكلام على طرحها لمعالجة الأسئلة النظرية الناتجة عن مسائل العقيدة، كمسائل الأسماء والصفات، وطبيعة الكلام الإلهي، ومسألة القضاء والقدر، وغيرها من الموضوعات الكلامية المهمة.
كمثال نموذجي على هذه القطيعة المعرفية لا يطرح كتاب «التوحيد» لمحمد بن عبد الوهاب -والذي يوحي عنوانه بأنه أطروحة نظرية حول العقيدة- أية مناقشة كلامية أو نظرية تتعلق بالعقائد، ولا يتضمن أية إحالة إلى علم من علوم المسلمين المعروفة في هذا المجال، كعلم الكلام أو علوم اللغة مثلًا، وهي العلوم الضرورية لفهم دلالات الألفاظ على أقل تقدير، بل ينطلق ليبتدع منهجًا جديدًا، حيث يخرج المؤلف باستنتاجات وأحكام فقهية مباشرة من نص الحديث منفردًا، دون استخدام أي من العمليات العلمية المركبة التي اعتادت أدبيات الفقهاء المسلمين على استخدامها طيلة القرون التي سبقته. كما لا يتضمن الكتاب أية إحالة إلى علماء سابقين أو حتى استعراضًا لآرائهم كما هو متعارف عليه في أدبيات المسلمين، وكما هو معروف كذلك في تقاليد البحث العلمي إلى يومنا هذا، وليست علوم المسلمين استثناءً منها.
«بدعة» متكاملة الأركان. مؤلف يبدأ من الصفر تمامًا كما لو أنه لم يسبقه أحد، أو كأنه نبي يؤسس لديانة جديدة، أو كأنه لا يعلم شيئًا عمن سبقه. بعبارات قصيرة وبسيطة تستهدف قارئًا ساذجًا، قليل المعرفة، ومتعطش لإجابات قطعية، يقول المؤلف بمنتهى البساطة: هذا هو الحديث، وهذه هي الحقيقة المستفادة منه، دون أية مناقشة أو تساؤلات.
ولمن لا يعرفون تراث المسلمين، فليس هذا دأب أهل العلم من الفقهاء والمتكلمين ولا حتى المحدِّثين الكلاسيكيين الذي ينسب السلفيون أنفسهم إليهم. فعرض طيف الآراء على تنوعها، ومعارضة الأدلة والموازنة بينها، ومقارنة كل رأي بسابقه هي عادات ذهنية أساسية في كتب العلوم الشرعية التي أسست للتقليد المعرفي المتراكم للمسلمين. وأبسط مطالعة منصفة لكتب الفقه أصولًا وفروعًا، أو كتب علم الكلام، أو حتى كتب التصوف والحديث تكشف ذلك بوضوح.
و«ابن تيمية» الذي استكملت السلفية بأطروحاته الكلامية هذا النقص في أدواتها، ليس استثناءً من كل ما سبق. فابن تيمية أيضًا –حتى إن اختلفتَ معه، واختلف هو مع غالبية معاصريه وسابقيه– يظل أوسع بكثير من الركن الضيق الذي وضعته فيه السلفية. فابن تيمية لم يتجاهل كل هذا الميراث الضخم من العلوم، واستخدم أدواته كما استخدمها جميع علماء عصره، على عكس ما فعلت السلفية التي تنسب نفسها إليه.
لاحقًا، قبلت السلفية –على مضض– قسمًا بسيطًا من علوم أهل السنة ممثلًا في الفقه الحنبلي، والكلام «التيموي» (نسبة إلى ابن تيمية) كما سبق القول، لكنها ظلت على مسافة كبيرة من الميراث الهائل لعلماء المسلمين على تنوعهم.
وبهذه المنهجية المبتسرة في معالجة المسائل الاعتقادية، تمت إعادة توجيه معنى «التوحيد» باتجاه نفي كل مكونات التدين التقليدي للمسلمين، وإلى نفي كل المكونات المعرفية لنظام التفكير الإسلامي الذي ظل يتطور في عملية تراكمية طويلة بدءًا من القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي تقريبًا وحتى مطلع القرن الثاني عشر الهجري / الثامن عشر الميلادي، وقت أن ظهرت السلفية. فقد اعتبر المنظور «الطهراني» للتوحيد السلفي كل هذه المكونات المعرفية والاجتماعية محض «شوائب» علقت «بالتوحيد النقي الخالص» الذي افترضته السلفية، وسببًا مباشرًا في «انبطاح» المجتمعات المسلمة أمام المجتمعات الغربية الصاعدة.
السلفية و«التاريخ»
وهذا التصور اليوتوبي عن الإيمان كان لا بد له أن يستدعي نقطة ارتكاز تاريخية، لتعمل كدليل مرجعي لعملية التربية الاجتماعية التي تستهدفها السلفية pedagogical reference، وهي فكرة «السلف الصالح»، بحيث أعادت السلفية إنتاج تاريخ مسلمي الصدر الأول لكي يتوافق مع التصور البيوريتاني عن التوحيد.
فكرة «السلف الصالح» لها جذورها في الموروث الديني بطبيعة الحال، لكنها تختلف تمامًا عن تلك الدلالات التي أسقطتها عليها السلفية. فعالم «السلف» في المخيال السلفي يكاد أن يكون عالمًا مثاليًّا لا يشتمل على أية تناقضات بشرية أو اجتماعية كتلك التي نعرفها عن العالم الطبيعي. نقطة من خارج التاريخ ولا تنتمي إليه. لحظةُ تَحقّقٍ لليوتوبيا المُتَخَيَّلة، والتي تطالب المسلمين اليوم وفي كل زمان أن يرتقوا إلى مثالها غير الممكن أساسًا! وكأنها تطلب من البشر ألا يكونوا بشرًا، أو كأنهم لا يمكنهم أن يكونوا «مؤمنين» بالكامل إلا إذا كانوا «بشرًا» بأقل قدر ممكن.
ولعل هذا هو الانطباع الذي يساور كل من يحاور سلفيًّا أو يختلط به، وخاصة إذا تطرق الحديث إلى مسألة من مسائل الحياة العامة و«الذوق» الإنساني التلقائي أو «الأخلاق» بالمعنى الواسع للكلمة. حتى مشاعر الإنسان أرادت الفكرة السلفية أن تضبطها ضمن منظومة «ولائها وبرائها»، فلا يمكن للسلفي أن «يحب» أو «يكره» إلا بما تمليه عليه المنظومة النظرية.
من هذا المنطلق التاريخي المُتَخَيَّل، أسَّسَت السلفية حديثة العهد عندئذٍ عملية «تنقية» لمفردات التدين والمعرفة الإسلاميين، في مبادرة استهدفت «إصلاح الإسلام». نعم، السلفية التي ينظر إليها اليوم باعتبارها حركة «رجعية» تقاوم حركة التاريخ نُظِر إليها في البداية باعتبارها حركة «إصلاحية تجديدية» تستهدف تقويم سلوك عامة المسلمين، و«تنقية التراث»، ومن هذا المنظور أدرج رشيد رضا وعبد المتعال الصعيدي وأمين الخولي وغيرهم أشخاصًا مثل محمد بن عبد الوهاب وولي الله الدهلوي ومحمد صديق خان ضمن قائمة «المجددين في الإسلام». وهنا تكمن المفارقة الثانية.
في عام 1896 حوكم جمال الدين القاسمي –أحد رموز التيار السلفي في ذلك الوقت، وصاحب تفسير محاسن التأويل- مع آخرين أمام قاضي دمشق، في قضية عرفت حينها بـ «حادثة المجتهدين». فقد كان السلفيون حينئدٍ يُلَاحَقُون بتهمة «الاجتهاد» –تصور!- ولكن بالمعنى السلبي للكلمة، أي بابتداع أقوال وأحكام ومناهج غير معهودة في تراث المسلمين، وهي «تهمة» يفترض أن تبدو بطولية في عين الداعين اليوم إلى التجديد، وفتح باب الاجتهاد، وذم تمسك علماء الشريعة بمنهجية القدماء وآرائهم، وهي مفارقة جديدة تنضم إلى قائمة المفارقات في تاريخ السلفية. غير أن الأمر ليس كما يتصوره دعاة الاجتهاد والتجديد، كما أن «الاجتهاد» ليس دائمًا «عملًا صائبًا»، وإن كان بالتأكيد «عملًا شجاعًا» في العادة.
لاحظ معي استمرار المفارقات، فنفس هذه المطالب –تقويم سلوك عامة المسلمين و«تنقية التراث»– هي نفسها مطالب تيار الإصلاح الليبرالي الذي أُطلق عليه لاحقًا تيار «التنوير». صحيح أن هذا الجناح من «الإصلاح» انطلق من منطلقات مختلفة تمامًا، تتركز عادة حول «الحداثة» و«التغريب» بمسميات مختلفة، لكن هذا الجناح في نهاية الأمر شارك السلفية، خصمها، التقليد المعرفي ما-قبل-الحديث للمسلمين؛ أي المذهبية الفقهية والتصوف الطرقي وأدوات علم الكلام وعلوم اللغة والبلاغة والتفسير وغيرها. باختصار؛ تراث المسلمين كله أصبح في مرمى دعاة السلفية ودعاة التحديث في آنٍ، بينما كلٌّ منهما يظن نفسه خصمًا للآخر.
السلفية والأيديولوجيا
كما أسلفت في البداية نظرت السلفية إلى نفسها باعتبارها حركة إحيائية، تستهدف إحياء –أو بالأحرى خلق- تصور محدد عن التراث، يتواءم مع «وحدة الحقيقة» التي أسست لها منذ البداية، ويصنع صورة «المجتمع المثالي» الذي يمكن توظيفه كنقطة جذب خطابية، ولحظة تاريخية تتمتع بمثالية موهومة.
لا يختلف الأمر كثيرًا عن الصورة المثالية التي أسبغها ماركس على فترة الشيوعية الأولى: لحظة تاريخية مثالية تقدم وعدًا بمخرج من المأزق التاريخي الحالي عن طريق العودة إليها. وفي منطق الأيديولوجيا –أي أيديولوجيا- العودة دائمًا إلى وضع قديم تبدو أكثر إقناعًا للجمهور من المغامرة بخلق وضع جديد. يكفي فقط أن تقتنع أن ذلك الوضع الذي تطالبك به الأيديولوجيا ليس وضعًا جديدًا أو بدعًا من القول، بل هو «الأصل في الأمور»، وهو الحقيقة التي ابتدأ بها الزمان، ومِن ثَم فهو «ما يجب أن تكون عليه الأمور دائمًا»، بينما ما نحن فيه الآن هو الاستثناء. بهذه الطريقة، يمكن أن تتحول مشاعرك بسهولة ناحية الوضع الذي تعتقد الآن بأنه «الوضع الأصلي»، وأن تنخلع من ولائك للوضع القائم باعتباره استثناءً مؤقتًا، يجب تجاوزه، حتى نصل إلى اليوتوبيا الموعودة.
لهذا السبب تحديدًا نجحت النسخة السلفية من الإصلاح أكثر مما نجحت نسخته الليبرالية. فالنسخة السلفية تتقن قواعد لعبة الخطاب الأيديولوجي، وتوفر للمستمع متكئًا مريحًا لتصور «الوضع الأصلي»، بينما تغامر النسخة الليبرالية من الإصلاح بالدفع باتجاه تصورات –لا تخلو من مثالية هي الأخرى– لكنها تراهن على «التحول التغريبي» كحل حاسم لمشاكل المجتمع المأزوم، ومِن ثَم تقع في تناقضات كبرى لا يمكن التوفيق فيها أبدًا على وجه مرضٍ، بين ثقافة الغرب، بكل ما تحمله من تاريخ يتم تجاهله عادة، وثقافة الإسلام، التي يتم تجاهل تاريخها أيضًا في محاولة توفيق –أو تلفيق- متواصلة ومفرطة في التفاؤل.
السلفية و«التراث»
هذا المنزع «الإحيائي» للفكرة السلفية يفسر لك طغيان الحضور السلفي على نشاط تحقيق التراث في مطلع القرن العشرين، حيث سيطرت دور النشر السلفية على هذا المجال لعقود طويلة، وربما ما تزال، بحيث تحكمت في «فلترة» ما ينشر من التراث الديني المخطوط (والذي لا يمكن للجمهور الاطلاع عليه في صورته الأصلية إلا بعد تحقيقه ونشره)، بحيث إن عدة أجيال من المسلمين لا يعرفون من أعمال التفسير مثلًا سوى «تفسير ابن كثير» أو «تفسير الجلالين» نظرًا لموافقتهما لمعايير السلفيين «الحديثوية» واهتمام دور النشر السلفية بنشرهما مرارًا وتكرارًا.
عدة أجيال من المسلمين لم تعرف تراث المسلمين إلا من خلال منظار السلفية الضيق، وتحت تأثير ادعاء السلفية أنها تمثل تراث المسلمين، وهي كذبة كبرى، وادعاء يبطله أول اطلاع منصف على بحر المعارف والعلوم الذي أنتجه المسلمون في عصور ما-قبل-الحداثة. وهذه الأجيال المتأخرة من المسلمين هي التي صارت –بتأثير من المنهجية المبتدعة للسلفية- تستبيح مناقشة المسائل الدينية في الجلسات العائلية، والاحتجاج خلال هذه المناقشات –بطريقة تبلغ الغاية في التبسيط والاختزال– بنص هذا الحديث أو ذاك. متى كانت المسائل الفقهية تحسم بهذه الطريقة السهلة؟ وربما تجد أحد المتحمسين البسطاء يزايد على رأي فقيه متبحر بدعوى مخالفته للحديث، إلى آخر هذه المظاهر التي روج لها الخطاب السلفي خلال قرن ونصف.