دليلك الطبي للتعامل مع آلام الظهر المزمنة
ارتبط عصرنا الحالي بالمرض، ولذا، فنجد الكثير من الأمراض التي تُوصف بـ «مرض العصر»، كأمراض شرايين القلب، والاكتئاب، وارتفاع الضغط، والسكر…، إلخ. لكننا هنا سنتحدث عمَّا يمكن أن نسميه دون مبالغة «شكوى العصر» أو «وجع الإنسان المعاصر»، وهي آلام الظهر المزمنة، التي لا يكاد يوجد إنسان بالغ على ظهر هذا الكوكب إلا وقد عانى منها.
وقبل الدخول في تفاصيل هذا الموضوع، يجب أن أُقر بأنني لا أكتب هنا من موقع المُحاضِر الذي يُمطر القارئين بالنصائح، إنما أيضًا كمريض يعاني من آلام الظهر المتكررة منذ سنواتٍ طويلة، والتي تلاحقه أثناء كتابة تلك السطور، وفي أوقاتٍ عديدة من اليوم، وأيام عديدة في الأسبوع، نتيجة عوامل عديدة في نمط حياته تُسبِّب حدوث تلك الآلام بشكل مستمر. ولذا سيقتصر حديثي هنا على الأمور الصالحة للتطبيق على أرض الواقع عندي وعندكم.
متى يجب طلب المشورة الطبية المتخصصة؟
هناك بعض أعراض الخطر، والتي تجعل من الضروري استشارة الطبيب بخصوص ألم الظهر، لأنها قد تعني أن الأمر قد يكون أكبر من مجرد الألم الشائع الحدوث، وأن هناك أسبابًا مرضية وراءه، مثل الأمراض الروماتيزمية، أو التهابٍ شديد في الأعصاب، أو انتشار سرطاني خبيث في العمود الفقري، أو انزلاق غضروفي…، إلخ.
- استمرار الألم بشدة لأيامٍ متواصلة (أكثر من 3 أيام).
- ألم شديد للغاية، ولا يهدأ ولو جزئيًا بالاستلقاء والراحة.
- إذا أعقب إصابة قوية بالظهر.
- حدوث ضعف في الحركة، أو تنميل، في إحدى الساقيْن، أو كليهما.
- امتداد الألم من الظهر، بطول إحدى الساقين، لا سيما أسفل الركبة.
- إذا صاحبه ارتفاع شديد في درجة الحرارة.
- إذا صاحبه نقص غير مبرر في الوزن على مدار أسابيع أو شهور قليلة.
في مثل تلك الأحوال، لابد من المشورة الطبية المتخصصة، وتلقي العلاج الطبي المطلوب لكل حالة، ولن يمكن السيطرة الفعالة على ألم الظهر إذا لم يُعالَج السبب المرضي وراءه.
خطوات بسيطة تقلل الألم وتُؤخِّر المضاعفات
عُذرًا إن لم يكن العنوان مُغرِقًا في التفاؤل، فترويج الأوهام لا يُنتج سوى الإحباط، والشكاوى المزمنة مثل آلام الظهر، والتي تساهم في إحداثها عوامل متنوعة لدى الشخص، وفي تفاصيل ظروف حياته، ليس لها حلول سحرية ناجعة بنسبة 100%، كما أنها تحتاج إلى جهدٍ كبير قبل قطف ثمارٍ ملموسة. ولذا فالنجاح الجزئي هنا هو نجاح كبير.
1. تحسين بيئة العمل والاستخدام العادل للظهر
في معظم الحالات، يكون مكمن المشكلة هو سوء استخدام للظهر، عبر حمل بعض الأثقال بشكلٍ خاطئ ومتكرر، فتُحمِّل على مفاصل الظهر، أو الجلوس الخاطئ لساعاتٍ طويلة مع التسمر أمام الشاشات في حالة من التوتر العضلي والعصبي.
يمكن لبعض التعديلات أن تُحدِث فارقًا في صحة ظهورنا، وتقلل الإصابة بذلك الألم المؤرق:
- عند الاضطرار لحمل شيء ثقيل، يجب تجنب رفعه من على الأرض منحنيًا، لأن ذلك يجعل الثقل بأكمله على الظهر، وقد يسبب مضاعفاتٍ خطيرة مثل الانزلاق الغضروفي. إنما يجب التحميل أولًا على الفخذين بثني الركبتيْن، ورفع الثقل بشكلٍ رأسي.
- تخفيف ما نحمله في حقائب الظهر قدر المستطاع، ومحاولة توزيع الحمل على الكتفيْن بشكلٍ متوازٍ، واستبدالها بحقائب مزودة بعجلاتٍ للجر ما أمكن ذلك.
- عدم الجلوس بشكلٍ متواصل لأكثر من ساعة، وقطعها بالوقوف والحركة لبضع دقائق، وإذا أمكن استخدام الحاسوب وقوفًا لبعض الوقت، فهذا أفضل (انظر إلى الفيديو القصير أسفل الفقرة).
- التدرب على الجلوس بشكل صحي، وذلك بانتصاب قامة الظهر دون انحناء للخلف في الجزء العلوى من الظهر، مع الحفاظ على الانحناء الطبيعي في الفقرات القَطَنية الموازية لمنطقة البطن، وذلك باستخدام كرسي بمسندٍ مريح ومصمم بانحناء متوافق مع التشريح الطبيعي للظهر، كما في الفيديو أسفل تلك الفقرة. ويجب أيضًا أن يكون مستوى الشاشة فوق المكتب في مستوى النظر، وليس لأسفل حتى لا نضطر للانحناء الذي يؤثر سلبًا على المفاصل، ويجب إراحة الذراعين على مسنديْن جانبييْن بنفس الارتفاع.
2. تقليل الإجهاد ما أمكن
يُسبِّب الإجهاد الموضعي لمفاصل العمود الفقري، مع الوقت، تآكل الوسائد الغضروفية بين الفقرات وبعضها، والتي تمنع احتكاك تلك العظام ببعضها البعض، وإلا أًٌصبنا بخشونة المفاصل وما يصاحبها من آلام وإعاقة للحركة السلسة للمفاصل.
كذلك لابد من تقليل الإجهاد العام الناجم عن ضغوط العمل المتواصل المصحوب بنقصٍ في ساعات النوم، فهذا يسبب ما يُعرف بـ «متلازمة الإجهاد المزمن» والتي تعتبر آلام الظهر المزمنة من أشهر أعراضها.
اقرأ: متلازمة الإجهاد المزمن: كيف نتغلب على مرض العصر؟
3. إنقاص الوزن قدر المستطاع
زيادة الوزن، لاسيَّما إن تسارعت في فترة قصيرة، تمثل عبئًا على مفاصل العمود الفقري، يؤدي إلى آلام الظهر المزمنة. ولذا، فكلما اقتربنا من الوزن المثالي (معامل كتلة الجسم BMI حوالي 25، وهو ناتج قسمة الوزن بالكيلوجرام على مربع الطول بالمتر)، كلما ابتعدنا عن آلام الظهر المزمنة ومضاعفاتها.
4. الطعام: المبدأ والمنتهى
لا يقتصر دور الطعام هنا على الحفاظ على الوزن من الزيادة، إنما هناك بعض أنواع الأطعمة الضارة التي يجب تجنب الإفراط فيها، لأنها تساهم في التهاب المفاصل وآلام الظهر، مثل السمن الصناعي والسكر واللحوم المُصنعة مثل اللانشون والنقانق… إلخ.
5. النوم: مفتاح الراحة
وضعيات النوم غير المعتدلة، وغير المريحة، من أشهر أسباب آلام الظهر المتكررة. الوضع الأنسب لراحة الظهر أثناء النوم، هو النوم على أحد الجانبين، مع احتضان وسادة مريحة بين الساقين، وثني الركبتيْن لأعلى على مقربةٍ من الصدر، وهذا الوضع يُعرف بـ «الوضع الجنيني» لأنه يشبه وضعية الجنين في رحم الأم. وأفضل مرتبة للسرير من أجل الظهر هي المراتب المتوسطة بين الليونة والصلابة، فشدة الليونة تزيد انثناء الظهر والتحميل على أسفله.
اقرأ: الأرق يقتلنا: هل يمكن تنظيم النوم؟
6. الرياضة المعتدلة
قد يتصوَّر البعض أنّ آلام الظهر المزمنة تستدعي الراحة المطلقة، وعدم محاولة القيام بأي مجهودٍ رياضي بدني، وهذا تصور خاطئ تمامًا. بالفعل يوصَى بالراحة المؤقتة في حالة التفاقم الحاد للألم، لكن على المدى الطويل، فالحفاظ على قدرٍ من الرياضة المعتدلة، ولو مجرد المشي لنصف ساعة يوميًا، أو الجري الخفيف بشكلٍ يومي، يحسن اللياقة البدنية بوجهٍ عام، ويساهم في علاج متلازمة الإجهاد المزمن، التي يكون ألم الظهر المزمن من أهم أعراضها.
ومن أفضل الرياضات التي تساهم إيجابًا في تحسين آلام الظهر المزمنة، وتساعد على الاسترخاء العضلي والبدني، السباحة، وكذلك التمارين المعروفة شعبية بالسويدي، لاسيما التمارين التي تقوي عضلات الظهر والبطن، لأن قوة تلك العضلات تدعم العمود الفقري وتخفف عنه الأعباء.
7. العلاج الطبيعي
تحتاج بعض حالات آلام الظهر المزمنة إلى استشارة طبيب العلاج الطبيعي، والذي يصف للمريض تمارين طبية مناسبة لخصوصية كل حالة، وغالبًا ما تتنوع تلك التمارين بين المساج، وتمارين الإطالة، وتمارين متخصصة لتقوية عضلات الظهر دون التحميل على عظام ومفاصل العمود الفقري، وكذلك تمارين لإعادة التموضع السليم لفقرات الظهر، ولا ننصح بتقليد مثل تلك التمارين المتخصصة من خلال مشاهدة مقاطع فيديو لها، إلا بعد استشارة طبيب العلاج الطبيعي أولًا.
8. التعامل الجيد مع التفاقم الحاد للأعراض
يمر مسار ألم الظهر المزمن بفتراتٍ طويلة من استقرار الأعراض على درجة يمكن التعايش معها من الألم، يتخللها فترات من التدهور الحاد، تتفاقم فيها الأعراض، والتعامل الجيد مع تلك الفترات، يقلص فترة حدوثها، ويقلل احتمالات وقوع المضاعفات.
أهم خطوة هي الراحة لبضعة أيام، ريثما يهدأ الالتهاب الحاد في مفاصل الظهر، وقد يُستعانُ بجرعاتٍ محددة لبضعة أيام من المسكنات المضادة للالتهاب مثل الإيبوبروفين والديكلوفين، وذلك لتخفيف الالتهاب الموضعي، وما يُصاحبه من ارتشاح للسوائل وضغطها على المفاصل والأعصاب. لكن يجب الحذر من اللجوء اليومي المستمر للمسكنات، لأن ذلك قد يسبب أضرارًا كبيرة مع مرور الوقت للكليتيْن والمعدة والقلب.
اقرأ: المسكنات تؤلم… وتقتل أيضًا.
9. علاجات موضعية
يمكن للمراهم الطبية التي تحتوي على المسكنات الموضعية أن تُقلِّل إحساس الألم، وتُساهم في تخفيف التقلص العضلي في عضلات الظهر السفلية والذي يصاحب ألم الظهر، ويمكن اللجوء للأدوية الباسطة للعضلات بالفم من حين لآخر. كذلك يمكن للتبادل بين الكمادات الباردة والساخنة أسفل الظهر، أن تساهم في تخفيف ألم الظهر.
10. تخفيف الضغط النفسي
تؤثر الحالة النفسية سلبًا وإيجابًا على الحالة الجسمانية. ولذلك فمن الصعوبة بمكان التغلب على آلام الظهر المزمنة لمن يعانون من اضطرابات القلق أو الاكتئاب، أو حتى درجات زائدة من الضغوط العصبية والنفسية المعتادة.
ولذا ننصح باللجوء للطبيب النفسي في الحالة الشديدة، ويجب تعويد النفس على الحصول على قسطٍ ملائم من الراحة النفسية بكسر دوامات العمل الطاحنة، وذلك بقضاء أوقاتٍ أكثر مع العائلة والأصدقاء والأنشطة المحببة للنفس كالسفر والقراءة والرياضة… إلخ.