هل هناك “نموذج” للحُكم الإسلامي ؟
الفصل بين السلطات وحكم القانون
يناقش الكاتب في تلك النقطة حقيقية التناقض في فكرة الفصل بين السلطات بين نموذجي الدولة الحديثة والحكم الإسلامي من حيث فكرة توزيع السلطات والهدف من الفصل وما هو حقيقة القانون الحاكم بالنسبة للنموذج الإسلامي. فيبدأ الكاتب باستبدال الشعب القومي في الدولة الحديثة بمصطلح «الأمة» في النموذج الإسلامي وهي عبارة عن تجمع مادي ومجرد تحكمه مجموعة من القواعد العامة الأخلاقية(105)، وهذه الصفة هي التي تتمثل في الشريعة الإسلامية التي تحكم هذا الجمع، لذلك فإن أي نظام تحكمه الشريعة يعتبر دار إسلام غير ذلك يعتبر دار حرب حتى تنتقل إلى دار الإسلام.
اذا فالشريعة هنا هي النطاق المركزي لنموذج الحكم الإسلامي. وفي مقابل الغاية العظمى بالنسبة للدولة القومية الحديثة وهي الحفاظ على نفسها وذاتها من أجل ذاتها، فإن الغاية التي تعمل من أجلها الأمة – حيث أن الأمة ليست لديها السيادة ولا إرادة سياسية هي نفسها- هو الله وحده وهو صاحب السيادة الوحيد في هذا النموذج، وما تملكه الأمة فقط هو سلطة قرار بناء على مراد الله والتي تمثلها الشريعة على سبيل الحصر بناء على اجتهاد الفقهاء، وعملهم يتمثل في استنباط الحكم الشرعي من مصادر الشريعة «القرآن والسنة والإجماع والقياس».
والأمة صاحبة القرار وجدت قبل أن توجد السلطة التنفيذية والشريعة وجدت قبل الاثنين تاريخيا ومنطقيا، فالدولة ممثلة في السلطة التنفيذية التي تنفذ حكم الله وارادته للتعزيز من رفاهية الفرد جهده في طاعة الله وعبادته، وحقيقة ذلك ان الله هو الذي يملك كل شئ وملكية الأفراد هي ملكية مجازية فقط وعلى أحسن تقدير ملكية فرعية مشتقة من الملكية الأصلية(109).
عندما نتحدث عن القانون في النموذج الإسلامي فإننا نتحدث عن الشريعة كمجال للنظر والاستدلال والاستنباط والتأويل يقوم عليه جماعة من العلماء والفقهاء من أجل معرفة مراد الله في الأحكام الشرعية، فهي السلطة التشريعية، وبما أن الشريعة هي التي تتحكم بالمنظومة الكاملة والتي بداخلها مؤسسات علمانية، والمؤسسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بما في ذلك السلطتين التنفيذية والقضائية(111)، اذا فالسلطة التشريعية هي التي تسيطر على السلطات الأخرى، اذا فهي الوحيدة التي لها حق التشريع دون غيرها وليس هناك رجوع تشريعي من قبل القضاء كما في الدولة الحديثة.
أحيانا تقوم الشريعة بتفويض السلطة التنفيذية ببعض السطات في نطاق ضيق جدا ومحدود للغاية قد يصل لدرجة الهامشية. فالشريعة نظام قانوني/أخلاقي له بعد ميتافيزيقي يمكن ان نطلق عليه مجازا علاقة «الدولة بالآخرة». والفقهاء هم الذين اجتهدوا واستنبطوا حتى وصلوا إلى الشريعة بشكلها الحالي في كتب التراث وفي تراجم العلماء وكانت في كافة عصور الحكم الإسلامي هي الحاكمة. والفقيه هو جزء من الأمة الإسلامية، فهو بجانب اجتهاده في الشريعة هو يدافع عن المجتمع لانخراطه فيه بشكل يومي.
ولكي يوضح الكاتب مقصده فقد ركز على وظيفتين لعالم الشرع هما: الافتاء، والقضاء(113). كقاعدة عامة إن المفتي يعتبر خبيرا قانونيا خاصا مسؤولا أخلاقيا تجاه المجتمع الذي عاش فيه وليس تجاه الحاكم ومصالحه(114)، ويعد المفتي والافتاء احد مصادر القوانين من خلال الشريعة، ويتم العمل بالفتاوى في القضاء التي عملت على حل العديد من المنازعات، فكان قانون المحكمة على حد قوله تحت السلطة الكاملة للخبراء القانونيين وهم المفتون والفقهاء، ويمكن القول أن الفتوى هي سلطة حاسمة(115)، لا يجوز رفض و رد فتوى إلا من أجل وجود فتوى أخرى أقوى في حجتها من الأولى، ويتم استبدال السوابق القانونية في محاكم الدولة الحديثة بـ المصنفات الفقهية التي صاغها المفتون.
فنرى جليا القضاء والقضاة في الإسلام يعتمدون بشكل كبير على هذه المصنفات في إصدار الاحكام، وجدير بالذكر أن المفتي أو الفقيه يمكن أن يعمل قاضيا، أما القاضي الذي تدرب على القضاء فقط لا يستطيع أن يكون مفتيا.
ليس هناك فصل بين النظامين الاجتماعي والقانوني في النموذج الإسلامي، حيث أن الفقيه أوالمفتي يخرج من بيئة يعكس نفسيتها ومصالحها وهو مرتبط بالمجتمع واحتياجاته، ويظهر ذلك في المحاكم فلم يكن يتطلب الأمر محاميا بمبلغ وقدره ليترافع في قضية ما، فكانت المحاكم متاحة للجميع وللفقراء دون مقابل، وللاحتكاك القوي بين الفقيه والمفتي بمجتمعه فأصبح كثير من أفراد المجتمع على دراية بكثير من الفقه وأحكام الشرع واللغة القانونية فكانوا يترافعون هم عن أنفسهم، لذلك يمكن القول أن المحكمة كانت متجذرة في العالم الأخلاقي للمجتمع.
ثم عرض كيف طوّر الفقهاء الأداة القانونية والتي خرج من ما سمي بعد ذلك بـ «أصول الفقه»(122) والتي تستخدم كآلة لاستنباط الحكم الشرعي وكثير من أحكام الشرعي قائمة على الاجتهاد إلا الأحكام التي ثبتت قطعتيها ولا تحتاج لاجتهاد او قياس. والشريعة تتميز بالتعددية القانونية لاشتمالها على مسألة أخذ الأعراف الاجتماعية في محمل الجد والحسبان مما سمح بقدر كبير من المرونة، كما عكست التعددية التنوع الكبير في الاهتمامات والمصالح الاجتماعية والذي نتج عنه ذلك التمثيل الشعبي.
العلاقة بين السلطة التنفيذية والشريعة: وبما ان الشريعة هي قانون كل شئ بما في ذلك السياسة والحكم، فهناك علاقة واضحة بين الشريعة والسلطة التنفيذية التي عاشت في ذلك المناخ الأخلاقي. والقضاء في الإسلام كان مكرسا لحماية الشريعة التي تنظم العلاقات الاجتماعية والاقتصادية بين أفراد المجتمع بصورة أخلاقية(125)، كما ساعدت الشريعة في تقييد الحاكم في التعامل مع المجتمع، على الرغم من ذلك نرى أن الحاكم كان يعين القضاة ويعزلهم بيد أنه لم يكن له أي صلة بالقضاء وتخصصه من بدء التعيين وحتى العزل.
ويعود هذا التعيين لفكرة التفويض حيث أن القضاة امتداد للخلفاء في الإشراف على المجتمع وشؤونه، فكان الخليفة حاكما وفقهيا ومفتيا، ولكن بعد ان أصبح الحاكم سياسي وعسكري «حل محل السلطات الدنيوية للخلفاء»(126)، فكان لابد من ملأ فراغ السلطة الدينية وهم القضاة. ويعتبر القاضي نتيجة تلك العملية المفوض الإسمى وليس المفوض الحقيقي والرسمي للسلطة التنفيذية(127) الخاضعة لسلطة الشريعة. إن القوة الأخلاقية النموذجية للشريعة هي التي فرضت على كل من القاضي والحاكم احترام استقلال القضاء واعتباره جزءا من الثقافة(129).
نأتي الآن لعلاقة السلطتين (التشريعية والقضائية) بالتنفيذية والتي يمكن وصفها على أنها طبقة مستأجرة لتأدية وظائف معينة، وهذه السلطة التنفيذية الممثلة في الحاكم ينفذ الشريعة وأحكامها في مقابل ضرائب يفرضها على الناس، فكان نطاق عمل الحاكم منحصر بشكل مستمر على تطبيق وتنفيذ أحكام الشريعة، ولابد من التأكيد على فكرة ان الشريعة باقية ببقاء الدين أما السلطة التنفيذية (الحاكم) هي مؤقتة وزائلة مهما طال بقاؤها في الحكم.
والتفرقة بين الحاكم والشريعة هي التي نتج عنها نموذج الفصل بين السلطات وسيطرة سلطة التشريع ممثلة في الشريعة على كل من القضائية والتنفيذية و الذي خدم تطبيق الشريعة التي هي مراد الله وتمثيل واضح لارادته، وينظم ذلك كله ما نسميه بفقه «السياسة الشرعية» وخيانته هي حكما فاسدا(134) حيث يحمل بداخله الأحكام والمبادئ التي عليها ينبغي أن يكون الحكم في النموذج الإسلامي ويطبق، كما كانت تحتوي على أهم وظائف الحاكم في هذا النموذج وهي:
1. فرض احكام المحكمة الشرعية في منطقته وانفاذها.
2. تطبيق العقوبات المنصوص عليها في القرآن ” الحدود”.
3. الحفاظ على قدرة تشكيل الجيش.
4. الدفاع عن الحدود وتعزيز الأمن.
5. تقسيم الغنائم بعد الحرب.
6. جمع الزكاة وتوزيعها.
7. تعيين القضاة ومفتشي الأسواق وعمال السكة.
8. رعاية القصُر اليتامي ومن لا ولي له(137) .
وتم منح الحاكم السلطة القانونية حتى يستطيع أن يدير شئون الأمة والنظام كما زودته السياسة الشرعية بقواعد ادارية تعينه على الحكم. وكانوا من يعملون مع الحاكم وهو الموظفون الرسمية خاضعون هم فقط للقانون السلطاني، وكانت السلطة السياسية مضطرة إلى احترام معايير الحلم والرحمة والعلاقة الأخلاقية- القانونية التي تمثلها الشريعة والتي حجمت كثيرا من إرادة الحاكم وعلى الرغم من صفته المسؤول الأعلى فإنه مساءل عن كل ما يقترفه موظفوه(141)، والذي قد ينتج عنه عزله وهذه هي ثقافة المفهوم السياسي للمسؤولية الأخلاقية.
البعد الأخلاقي في مقابل نشأة القانوني والسياسي
لم يكن في التشريع الإسلامي ما يفرق بين الحقيقة والقيمة فما «ينبغي أن يكون وما هو كائن هو شئ واحد في ذاته، فلم تكن المنفعة المادية والتصور الآلي هي الحاكمة في النظرة للكون والطبيعة والذات وإنما المسئولية الأخلاقية النابعة من مبادئ الحق والعدل التي خلقت على أساسها السماوات والأرض»(165)، ذلك إلى جانب أن الوحي القرآني قائم على مبدأ العدل ذاته(166). ومن منطلق تصوير الطبيعة بمكونها النفساني والروحي فالهدف هو حفز الناس على عمل الخير(167). وذلك كله محدد بقانون الهي للثواب والعقاب في مقابل عمل الصالحات والخير أو عمل الشر والفساد في الأرض.
إن النموذج الإسلامي لا ينتج عنه السياسي الذي نتج عن نموذج الدولة القومية القائم على مفهوم التضحية، حيث كانت التضحية في النموذج الإسلامي واجبا أخلاقيا يقتضيه حالة الدفاع عن النفس، ويمكن القول أن النموذج الإسلامي لم يفرض على أي من أفراد مجتمعه التضحية من أجل بقاء سلطته السياسية، بل كان «الجهاد» والذي بدوره ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية، اما فرض العين فهو الدفاع ضد العدوان الخارجي على الأراضي التي تشهد حكما اسلاميا، وأما فرض الكفاية هو المتعلق بالفتوحات الإسلامية ودخول الإسلام في البلدان الأخرى، وكانت الشريعة بالتبعية معتنية أكثر بالمجتمع من اعتناءها بالسياسة (السياسة الشرعية التي ذكرنا أهم ملامحها التي استخدمناها في التحليل)، وعلى عكس الواقع في الدولة القومية وفي الواقع المعاش للعالم الإسلامي، فإن السياسي في النموذج الاسلامي في العصر ما قبل الحداثي لم يكن سيد الموقف(186) كما هو الآن، وهذا تحدي تواجهه الأمة الإسلامية.
التقنيات الأخلاقية لدى الذات (الغزالي نموذجا)
في مقابل تقنيات الذات المتعلقة بأفراد الدولة القومية التي ذكرناها، يقابلها على حد قول الكاتب تقنيات أخلاقية للذات – والتي أرى أنه كان من الأفضل أن تسمّى بـ «التقوى» او «تزكية النفس =التصوف»- ، حيث أن المؤلف بنى مبحثه في تلك القضية على العقائد (معرفة نظرية وتطبيق عملي) ومن خلال نموذج الإمام أبي حامد الغزالي في التصوف وتزكية النفس بين صفاتها الأربع السبعية «الغضب والحقد والقتل والشجاعة»، البهيمية «شهوتي البطن والفرج»، الشيطانية «الحيل والمكر والخداع»، الربانية «العلم والعقل والمعرفة والفهم»(236) وإخضاع الثلاث الأول للأخيرة هي ملاذ الذات وضبطها. وتطبيق ذلك من خلال الممارسات العملية للعبادات والأحكام الشرعية في المعاملات أيضا، وفي قلب ذلك كله الصلاة المتعلقة بالقلب.
فالتساؤل الرئيسي هو كيف شكلت الشريعة الذات الأخلاقية لأفرادها؟ فالنموذج الإسلامي لم يكن ينبني على أنظمة الرقابة التابعة للدولة مثل البوليس وغيرها من المؤسسات الرقابية المعروفة الآن في الدولة القومية، ولكن اعتمد النموذج الإسلامي «نموذج الغزالي للتصوف» على العبادات والمعاملات في انشاء تلك الذات الأخلاقية، المحبة للخير ولغيرها، وضبط النفس التي في النهاية تعترف بأن السيادة لله وحده، وأنها سوف تحاسب على كل فعل تقترفه سواء كان ذلك الفعل خيرا ام شرا، وأنه لابد للعبادات من انعكاسات على الذات في ادارة النفس وتدريبها على تنفيذ مراد الله والتحلّي بالأخلاق مثل فكرة الصوم بغاية الامتثال لأمر الله والشعور بالضعيف والفقير، وكذلك الزكاة التي هي اجتزاء من مال الأغنياء الذي هو ملك لله في الحقيقة لإعطاء الفقراء وهم عباد الله أيضا، وكذلك الحج والصلاة والصدقات بشكل عام، كل تلك العبادات ساهمت في تشكيل الذات المسلمة التي تعيش في دار الإسلام وتحت ظل الشريعة.
كذلك المعاملات مثل معاملة البيع القائمة على رضا الطرفين كشرط لاتمام عقد البيع وصحته، وغير ذلك من المعاملات التي تفرض على أفراد الأمة التعامل على مستوى أخلاقي. وكل ذلك يأتي ترجمة حية وتطبيق عملي للشهادتين ” لا إله إلا الله، محمد رسول الله” والتي تمثلها الشريعة التي ينتج عنها ذوات أخلاقية غير ذوات الدولة القومية الحديثة. ويمكن القول في النهاية _وهو ما يتناقض ونموذج الدولة القومية_أن نموذج الحكم الإسلامي هو ذلك الحكم الذي لا يختص بالقانون والأخلاق وتشابكهما العضوي فحسب، بل يختص أيضا وبالمثل بنظرة صوفية إلى العالم، نظرة راسخة بشدة في مجتمع تمثله طبقة من المتصوفة – الفقهاء، لا يفرق، في ممارسة العيش، بين معاني القانوني والأخلاقي والصوفي. وهو ما يستحيل ان يكون عليه في دولة قومية حداثية، فالحداثة ترفض وتنبذ كل ما هو اخلاقي.
الخلاصة
كافة العوامل السابقة المذكورة وبناء على هذا التحليل يصل بنا الكاتب إلى استحالة تحقّق ما يسمّى بـ«الدولة الإسلامية» بمعنى آخر ارتداء الحكم الإسلامي نموذج الدولة القومية بكل ما يحمله من تناقضات، أو العكس ارتداء النموذج الحداثي ببعض الملامح الإسلامية الشكلية. اذا لابد من تحديد الوجهة والهدف للخروج من هذه الاستحالة والتناقض من خلال آليات عملية وشرعية للبناء على نموذج الحكم الإسلامي الاولي، نموذج حكم إسلامي جديد متسق، متنجانس ومتكامل يستطيع مواجهة تحديات الطبيعة العسكرية للدول الامبراطورية القوية، والتغولات الثقافية الخارجية، والسوق العالمية الرأسمالية –الليبرالية(270).