تسييس وفساد القضاء: هل يشكل وزير العدل استثناءً؟
عند تصريح وزير العدل بأنه لا يجوز لابن عامل جمع القمامة أن يعمل قاضيا، لأن القضاء له هيبته التي ستصيب ابن عامل جمع القمامة بحالة اكتئاب نفسي، ذلك التصريح الذي جاء بعد يومين من التحفظ على أموال محمد أبو تريكة تحت مزاعم بكونه داعما للإرهاب، ترافق ذلك مع إدانة تقارير دولية متعددة أحكام القضاء المصري الأخيرة ضد مؤيدي الرئيس السابق محمد مرسي، والتي تراوحت بين مئات الإعدامات والأحكام المشددة على القصر، واصفة إياها بالمسيسة. يأتي ذلك في الوقت الذي صدرت فيه تقارير صحفية من أوروبا والولايات المتحدة تشير إلى أن كبرى المنظمات القضائية الدولية تدرس شطب عضوية القضاء المصري بها، معتبرين أن الممارسات القضائية الحالية تدمر دولة القانون في مصر والمنطقة بأسرها.
ترى ما الذي جعل القضاء المصري ينتهي إلى هذه الحالة؟ يناقش هذا التقرير الخلفيات التاريخية والسياسية للقضاء المصري، إلى جانب الاستفاضة في شرح الأساليب والآليات التي أدت إلى فساده وصولا للحظة الراهنة:
خلفية تاريخية
سجل الربع الأخير من القرن التاسع عشر أول وجود للقضاء كسلطة منفصلة عن السلطة التنفيذية الممثلة في الخديوي الذي كان يفصل بنفسه ومن ينوب عنه في الوقائع والخصومات قبل ذلك التاريخ. وكان ما شجع سلطات البلاد على القيام بهذا هو وجود رغبة من أبناء محمد علي في تحجيم القضاء الشرعي، إلى جانب رغبة في إحلال السياسة الأوروبية القائمة على تعدد السلطات والفصل بينها (تنفيذية وتشرعية وقضائية) خاصة بعد سلطة تشريعية ممثلة في مجلس شورى القوانين المؤسس في 1866.
وظل القضاء في مصر يحظى بمكانة رفيعة عند مصر الخديوية والسلطانية والملكية لكنه لم يكن مستقلا بما يكفي مؤونة القاضي في الحكم والفصل بين النزاعات. لكن عام 1943 يعتبر عاما مهما بالنسبة للتاريخ القضائي؛ حيث صدر فيه أول قانون لاستقلال القضاء برعاية المستشار عبد العزيز باشا فهمي. وقد شهدت هذه الفترة احتراما وإجلالا للقضاء ورجاله حتى من قبل السلطات الأجنبية الموجودة بالبلاد.
عبد الناصر ومذابح القضاء
مع قيام ثورة يوليو 1952، قام مجلس الدولة برئاسة المستشار الجليل عبد الرزاق السنهوري باشا بإيلاء الاهتمام للحالة الثورية الجديدة في مصر، وما يترتب على ذلك من فلسفة وشرعنة الشرعية الثورية ووضعها في مرتبة متقدمة على الشرعية الدستورية.
كما قام بمنح القادة الجدد حقوق التشريع وإصدار القوانين الاستثنائية على خلاف التشريعات العامة، كان من أهم تلك الإجراءات إنشاء قضاء استثنائي خارج إطار النظام القضائي المتعارف عليه مثل محاكم الغدر والثورة والشعب. وهذه الإجراءات قد قلمت كثيرا من اختصاصات القضاء لكنها حافظت على الحدود الدنيا من أدبيات السلطة القضائية.
بالإضافة إلى ذلك فقد قام السنهوري باشا بوضع مسودة دستور يستند إلى تعدد السلطات والفصل فيما بينها، وهو ما اعتبر أول مشروع دستور ديموقراطي لمصر. وقد نبعت هذه الإجراءات من قبل السنهوري باشا لإيمانه بقادة مصر الجدد. لكنه مع حلول عام 1954، تشكك السنهوري باشا في نية قادة الثورة في تأسيس حياة ديموقراطية سليمة وإقرار مسودة الدستور التي وضعها، وكان الوحيد الذي وقف بجواره في معركة الديموقراطية تلك هو اللواء محمد نجيب.
وقد أدت مواقف السنهوري باشا المؤيدة للديموقراطية ومن وراءه قضاة مجلس الدولة إلى قيام عبد الناصر بإعلان قانون تنظيم مجلس الدولة، عرف فيما بعد بـ”مذبحة مجلس الدولة 1955″، حيث أعيد تشكيل المجلس وحُرم السنهوري و11 قاضيا من مشايعيه من مواقعهم به وحُول بعضهم لمحاكم تأديبية.
وبدأت بعد ذلك موجة سخط عارمة من قبل عبد الناصر ضد القضاء كان من بين آثارها حرمان القضاء من وجود ممثلين حقيقيين داخل الاتحاد الاشتراكي الذي ضم كل قوى المجتمع آنذاك. بعد ذلك أنشأ عبد الناصر تنظيما طليعيا داخل المؤسسة القضائية مهمته جمع أخبار المؤسسات القضائية والتجسس على القضاة وشراء الولاءات بالذهب تارة وبالسيف تارة أخرى.
وقد مُنح أعضاء هذا التنظيم ترقيات استثنائية داخل مواقعهم ليكونوا أصحاب الأصوات العليا ويقوموا بإخضاع القضاة لسلطة الدولة بكل الوسائل الممكنة. وقد كانت هذه أولى الخطوات المسجلة لإفساد الساحة القضائية منذ نشأتها منذ قرن ونصف.
بعد نكسة 1967، زادت حالة الاحتقان الشعبي في جوانب الحياة السياسية والعامة. وقد أثر هذا المناخ في انتخابات نادي القضاة عام 1969 التي شهدت صراعا مفتوحا بين جبهة الاستقلال بقيادة المستشار ممتاز نصار والمستشار يحيي الرفاعي وقيادات التنظيم الطليعي المدعوم من الدولة ووزيرها للعدل محمد نصير.
وقد خرجت النتيجة صادمة للغاية للدولة وقيادات تنظيمها؛ حيث فازت قائمة جبهة الاستقلال بكامل المقاعد التي أجريت عليها الانتخابات مما استثار عبد الناصر شخصيا وقرر تكرار مذبحة مجلس الدولة لكن على نطاق أوسع؛ فقام بفصل 189 عضوا من أعضاء الهيئات القضائية وإصدار مجموعة من القوانين وقتها سميت بتشريعات “الإصلاح القضائي”.
وقد تم تصوير الإجراءات التعسفية ضد القضاة والقوانين الاستثنائية التي صدرت على أنها “ثورة تشريعية كبرى” لمواجهة الرجعية داخل المؤسسة القضائية، لاكتساب المزيد من الدعم الشعبي لهذه الإجراءات ولتحسين صورة النظام. وقد كان من بين الإجراءات التي أسفرت عنها تلك القوانين؛ ضم الهيئات القضائية جميعها رغم تباين اختصاصاتها تحت رئاسة رئيس الجمهورية، الذي خول لنفسه لقب رئيس مجلس القضاء الأعلى ونائبه وزير العدل. وبعد ذلك أصبحت ميزانية هذه الهيئات ونظام الترقيات والأجور والعلاوات والحوافز واشتراكات النوادي وخلافه في يد وزير العدل؛ مما كرس لسلطة الدولة على القضاة بشكل كبير.
السادات ومبدأ العصا والجزرة
بدأ السادات عهده بصياغة وإقرار دستور 1971، الذي أقر استقلال السلطات القضائية وفي مقدمتها مجلس الدولة، وأقر مبدأ سيادة القانون، وضمن الحريات العامة في سابقة هي الأولى من نوعها في النظام الدستوري المصري من نشأته.
وقد كانت عقيدة السادات في اتخاذ الكثير من القرارات ترتكز على مخالفة عبد الناصر وسياساته لضمان مكانة مستقلة لنفسه. فقد أعلى الرئيس السادات الشرعية الدستورية على الشرعية الثورية، وأيد الديموقراطية وجمع بين الدين والسياسة، وكذلك حاول إنصاف القضاء لكسب القضاة الذين اشمأز معظمهم من سياسات عبد الناصر ونظام حكمه.
وقد ظل السادات على هذه الحال الهادئة مع القضاة حتى عام 1977؛ فقد تعشم نظام السادات أن يحكم القضاء أحكاما قاسية على المتهمين في انتفاضة يناير 77 تتواكب مع وجهة النظام. لكن أحكام محكمة أمن الدولة العليا حلت كالماء البارد على رأس النظام؛ حيث جاءت حيثيات الحكم مؤكدة على مسؤولية الدولة وقراراتها الاقتصادية في اندلاع أحداث الانتفاضة.
بعدها بسنوات قلائل، أعادت محكمة أمن الدولة العليا طوارئ القضية المتهم فيها أعضاء تنظيم الجهاد بمقتل السادات نظرا لخضوع المتهمين فيها للتعذيب، وهو ما يعد لطمة قاسية على وجه الدولة.
ومنذ ذلك الحين انتهى شهر العسل بين نظام السادات والسلطة القضائية وبدأ عصر جديد في المواجهة بين النظام السياسي والسلطة القضائية. لكن المواجهة بينهما لم تكن كسابق المواجهات بين القضاء وعبد الناصر. فقد تخلى السادات عن الخشونة في التعامل مع القضاة ولجأ إلى شراء الولاءات وتقديم المنافع واسعة النطاق لجميع الهيئات القضائية أملا في إلحاقها بركب الدولة. ويمكن القول أن قد كان له ما أراد بعد موته بسنوات وفي عصر خليفته مبارك.
آليات إفساد السلطة القضائية
بعد أحداث يناير 1977، اتخذ نظاما السادات وخليفته مبارك سياسات يمكن أن يحكم عليها بأنها سياسات للإفساد القصدي للهيئات القضائية تمثلت أبعادها الأساسية في التالي:
أولا: في منتصف عام 1979، صدر قانون ملحق بقانون السلطة القضائية سمي بقانون “الأنورين” نسبة للرئيس أنور السادات ووزير العدل في ذلك الوقت المستشار أنور أبو سحلي. وقد احتوى هذا القانون على كثير من البنود التي اعتبرت إفسادا قسريا للسلطة القضائية وغمس أيدي القضاة في الكعكة الحرام التي يشرف على توزيعها النظام حتى لا يكون لدى القضاة بعد ذلك عين أو ضمير يقاوم أي شيء ضد رغبة الدولة.
وكان من بين أهم بنود هذا ما يلي:
1. تقنين التحاق ضباط الشرطة بمختلف درجاتهم ورتبهم – فيما دون رتبة المقدم – بالعمل لدى سلك النيابة العامة، وهي سابقة في تاريخ القضاء المصري منذ نشأته. وقد أدت هذه السياسة إلى انضمام قرابة 3000 ضابط شرطة ومباحث إلى سلك النيابة العامة التي تعتبر أولى مراحل السلك القضائي؛ وهذا الرقم يشكل قرابة ربع العاملين بها.
ومكمن الخطورة هنا أن أولئك المنضمين للنيابة العامة من الشرطة يقومون بأعمال النيابة – التي يتميز منتسبوها بالعقل القانوني المدني – عن طريق إعمال العقلية شبه العسكرية (التي تمتهن كرامة المواطنين) التي تربوا عليها في جهاز الشرطة، إلى جانب ميولهم للأجهزة الشرطية التي يعمل بها أصدقائهم القدامى وهو ما يخل بمنظومة العدالة.
2. تقنين نظام التفرقة الطبقية في قبول المنتسبين والعاملين بالسلك القضائي على مختلف درجاته. وهذا يعني أن العاملين بالقضاء والنيابة لابد أن يكونوا من ذوي الحسب والنسب والجاه الذي يمكنهم من الانضمام لذلك السلك الرفيع.
ومع تزايد أعداد خريجي كليات الحقوق سنويا ورغبة الكثيرين منهم في الالتحاق بسلك النيابة العامة وغيرها من الهيئات القضائية الأخرى – مثل مجلس الدولة أو النيابة الإدارية أو هيئة قضايا الدولة – فإن إغراق المؤسسة القضائية وتوريط بعض أعضائها في ممارسات غير قانونية وغير أخلاقية من نوع الوساطة والمحسوبية في تعيين أبنائهم وأقربائهم في سلك النيابة العامة ومن ثم إهدار حقوق بعض المتقدمين الأكثر جدارة وكفاءة إلى جانب لجوء بعض أعضاء الهيئات القضائية إلى دفع “رشاوى” لذوي النفوذ داخل الحكومة والحزب الحاكم والقبول بعلاقة من نوع ما مع الحكومة وبعض قياداتها، كان ذلك بمثابة تدمير كامل لهيبة منصة القضاء ونسف لأخلاقيات هذه المؤسسة العريقة.
كما أن تورط بعض رجال القضاء في ممارسة المحسوبية والتمييز بين المتقدمين في مسابقات التعيين على أساس القرابة أو المصالح إنما يعد تلويثا مباشرا لهؤلاء بما يسمح في المستقبل بابتزازهم من قبل قيادات الدولة في توجيه الاتهامات أو إصدار الأحكام ضد خصومهم بما يخدم المصالح السياسية للنخبة الحاكمة.
ثانيا: بقاء السلطة القضائية بكاملها تحت سيف السلطة التنفيذية، في ظل بقاء وزارة العدل التي تتحكم في ميزانيات القضاء وتتدخل عادة في نزاعات الهيئات القضائية حول قضايا الاختصاص والأهلية، بل وربما تكون هي صانعة تلك النزاعات والخلافات، إلى جانب التلويح بإلحاق قطاع التفتيش القضائي (الذي يعتبر قطاعا هاما في السلطة القضائية) بوزارة العدل.
ثالثا: إعارة وندب القضاة كمستشارين إلى الوزارات والهيئات والمصالح الحكومية، وهو ما جعل منهم مجرد خبراء تحت طلب السلطة التنفيذية، خاصة الوزراء، مع إغداق مكافآت شهرية كبيرة على القضاة المنتدبين، مما يجعل من الصعب عليهم اتخاذ قرار ترك هذه الوظائف الثانوية التي تحولت رويدا رويدا إلى ركيزة لضمان مستوى معيشة القاضي.
لكن الأهم تحت هذا الباب هو سياسات الإعارة الخارجية إلى دول الخليج خصيصا والتي تطلب قضاة لشغل مواقع قيادية في السلك القضائي هناك، ويغدق عليهم الكثير من أجل تلك المهام التي يجمع فيها عادة بين الموقع الرفيع والحافز المالي. وعلى الرغم من أنه يشترط في مثل هذه المناصب وجود خبرات بالتشريعات الخاصة بالدول التي يعار إليها القضاة إلا أن معيار”الولاء” للنظام كان مقدما على كل المعايير، في حين يجيء ذلك محل رضا من الطرف الآخر المعار إليه الذي يطرح مثل هذه المواقع ترضيةً لأصحاب النفوذ داخل النظام المصري وتقريبا لوجهات النظر مع الطرف المصري.
رابعا: التهرب من إصدار قانون بتعديلات السلطة القضائية التي أعدها القضاة منذ مؤتمر العدالة الأول في عام 1986، بما يحفظ للقضاء المصري استقلاله ويصون كرامته. هذا التهرب الحكومي الذي استمر أكثر من ربع قرن من الحكومات المتعاقبة هو موقف سياسي تمليه الرغبة في الاستحواذ على أوراق التأثير المباشر وغير المباشر على أعضاء السلطة القضائية المصرية.
ومع كل تلك الجهود والمحاولات والسياسات الحكومية التي اُتُبِعت من أجل احتواء السلطة القضائية والسيطرة على أعضائها منذ أواخر عصر أنور السادات وحتى الآن؛ فإن الميراث العريق لهذه الهيئة المرموقة وطبيعة التركيبة القانونية لعقلها المهني قد تأثر للأسف جراء مجمل هذه السياسات الحكومية. وعلى الرغم من تحقيق تيار القضاة المنادين بالاستقلال مكاسب للساحة العامة كان من أهمها وقف حالة الطوارئ أواخر أيام السادات، وتدشين مؤتمر العدالة، وإلزام الدولة بالإشراف القضائي الكامل على الانتخابات منذ انتخابات عام 2000 وحتى فترة قريبة، إلا أن الدولة تمكنت السيطرة على القلب الحيوي للهيئة القضائية مما مكنها في فترات كثيرة من استصدار أحكام ظهرت عليها البصمات الفجة للسلطة الحاكمة خصوصا تلك الأحكام التي صدرت منذ الثورة وحتى اليوم.