هل العلم في مأزق؟
في أواخر أغسطس 2016 نشرت الـ foreign affairs مقالًا عن بحث جديد اكتشف وجود خطأ كارثي في جهاز رنين مغناطيسي وظيفي fMRI يُستخدم بشكل رئيسي في أبحاث علم الأعصاب، حيث ما كان يحدده الجهاز كحد أدنى للخطأ في القراءات كـ 5% ظهر أنه 70%، مما قد يدفعنا لإلقاء 40 ألف ورقة بحثية في القمامة وإعادة النظر في 15 عامًا من التطور في العلوم العصبية، لكن الأمر يدفع إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث، كيف استطعنا على مدى خمسة عشر عامًا أن نتقبل نتائج خاطئة في شبكة من المجالات المتنوعة على أنها صحيحة؟ كيف انخدعنا؟ كيف لم نكتشف الخطأ طيلة تلك المدة؟ كيف لم يلاحظ أحدهم أن النتائج غير متناسقة؟ أم هي بالفعل متناسقة؟ هل تعيد شبكة العلم ترتيب ذاتها بحيث تتوافق النظريات مع النتائج فتبدو الأمور كأنها صحيحة؟ هل أصبح العلم جملة طوطولوجية تكرر ذاتها بأشكال مختلفة وتظهر على صواب دائمًا مهما كانت قيمة المتغيرات؟
في الحقيقة، تلك أزمة كبيرة، كارثة إن صح التعبير، يمكن القول أن الحديث عن إمكان حدوثها بدأ سنة 1905 حينما نشر فيلسوف العلم والفيزيائي الفرنسي بيير دوهيم كتابه «هدف وبنية النظرية الفيزيائية» طارحًا ما يسمى «قصور التحديد» كمشكلة حقيقية في طريق تطور العلم، وهي الفكرة التي تم تطويرها بشكل أكثر حدة على يد ويلارد فان أورمان كواين، الفيلسوف الأمريكي.
حين نختبر أي شيء في العلم نحن نختبر أيضًا مجموعة من الفرضيات الإضافية بحيث يصبح من الصعب التعرف على موضع الخطأ مهما حاولنا تقصّي مصدره لأن المشكلة قد تكون في أي مكان. ربما مثلًا في فرضية إضافية، أو في جهاز القياس نفسه الذي استخدمناه في التجربة أو في ضبطه أو مناسبته من الأساس أو في فرض آخر إضافي، هذا هو ما يحدث الآن حينما نمرر 40 ألف ورقة علمية على مدى 15 سنة بدون أي ملاحظة واحدة تتحدث عن احتمالية وجود خطأ ما في جهاز القياس المستخدم. يدفعنا ذلك لإعطاء تصور يقول أن العلم يعدل ذاته، لا ليبحث عن حقائق، بل ليبدو صحيحًا متسقًا مع ذاته، هذا هو ما يدفعنا للتساؤل الهام: هل العلم في مأزق؟!
ظهرت ميكانيكا الكم في بدايات القرن العشرين لتقضي على كل ما يمكن أن يكوّن أساسًا أنطولوجيًا – وجوديًا – لكلمة «فيزياء» وقتها. على الموضوعية، بحيث لم نعد نتساءل عن حقائق علمية منفصلة بالضرورة عن ذواتنا. على العلاقات المحلية، بحيث أصبح من الممكن لجسيمات أن تتواصل بشكل يسبق الضوء. على المتصل فأصبح مكممًا. على العلاقات الحتمية السببية حينما اكتشفنا أننا لم نعد – حتى – قادرين على جمع معرفة بأبسط الجمل الفيزيائية، الموضع والسرعة. بل ربما على كل شيء يرتبط بفكرتنا عن العالم، مما دعا البعض وقتها، فولفاجانج باولي مثلًا، أن يقول أن «الفيزياء حليف أعمى، وعلى كلٍ لقد أصبحت غاية في الصعوبة عليّ، الأفضل لي الآن هو أن أعمل كممثل سينما لروايات هزلية أو أي شيء آخر». سادت حالة من الجدل في الوسط العلمي، أعيد بناء هذا العلم من جديد، لكن، هل توقف العالم هناك؟
لا، تقبّل مجتمع العلماء تلك الأفكار الثورية الجديدة المدعومة بقدر عظيم من النتائج التجريبية الدقيقة، تطورت ميكانيكا الكم لتظهر بعد ذلك في صورة أكثر ثورية وهي «نظرية المجال الكمّي Quantum Field Theory»، ثم الآن نحن نتحدث عن جاذبية كمية حلقية و كون هولوجرامي وأوتار … إلخ. اتخذ العلم مسارًا جديدًا ومن خلال ذلك المسار أضاف لنا العديد من المنجزات أحدها يمكنك الآن من قراءة تلك الكلمات.
في منتصف القرن العشرين ظهرت ثورة علوم التعقد التي بنت أساساتها على دراسة المنظومات المعقدة وظهور النظرية العامّة للأنظمة على يد لودفيج فون بيرتالانفي والسيبرنتيقا التي قامت على دراسة العلاقات بين العناصر في الأنظمة. تعتمد علوم التعقد على النظر للعالم كعلاقات غير خطّية، غير اختزالية، حيث أن النظام لا يساوي فقط مجموع خصائص عناصره، ولكن هناك ما يمكن أن ندعوه خصائص منبثقة للنظام، خصائص مُضافة إليه لها علاقة ببنية النظام ذاته، وليس بوحداته، وذات تأثيرٍ على عناصره. كانت تلك الفكرة هي ثورة على طبيعة العلم التي تختزل أي منظومة في مجموع مكوناتها فقط بدون أي خصائص مضافة، كأن تكون الساعة هي مجموع أعمال تروسها، لكن هل الحياة هي مجموع أعمال خلايا الجسم؟ كان قصور الفكر الاختزالي ومحدوديته في مواجهة وضع تصورات مقبولة عن النظم المعلوماتية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية .. هل توقف العلم هنا؟ هل تمسك مجتمع العلماء بمنهج ظلت الفيزياء تعتنقه منذ أيام نيوتن؟
في الحقيقة، لا، اتخذت علوم التعقد مكانًا واسع الأثر، واعتمدت عليها علوم الحاسب بشكل قوي، تطور الأمر ليخلق أنماطًا غاية في الاختلاف عن نمط العلوم السائد، ظهر الفكر النُظمي، ومن قلب الفيزياء والكيمياء ظهر التنظيم الذاتي الذي أصبح أداة غاية في القوة يمكن أن تستخدمها العلوم المختلفة لتبرير تطورها، حدث تحول كامل لفهم الطبيعة، من وجهة نظر اختزالية لوجهة نظر كلية، من وجهة نظر حتمية لعالم غير حتمي مسكون بالفوضى، من كينونة إلى صيرورة بحد تعبير إيليا بريجوجين الكيميائي الفيزيائي الحاصل على نوبل 1977. تتطور علوم الذكاء الصناعي حاليًا مبنيةً على أفكار كتلك.
في الثلث الأخير من القرن العشرين ظهرت في فلسفة العلم عدة اتجاهات نقدية اهتمت بكشف الأيديولوجيات والتناقضات القابعة خلف ما يقوله العلم، أعيد النظر فيما تعنيه كلمات كانت مطلقة يومًا ما كالعقلانية والحقيقة والصدق، وأظهرت تلك الاتجاهات مشكلات رئيسية في المنهج العلمي وتوجهاته واستلهامه للروح الغربية حصرًا والذكورية توجهًا في طيّاته العميقة، ظهر توماس كون ليحول العلم لنماذج إرشادية، وبول فييرابند ليتحدث عن أنسنة العلم، وظهرت المنهجيات النسوية لتعطي قدرًا من الحميمية للمنهج العلمي.
هل العلم أخلاقي؟ الآن يتسبب ذلك السؤال في مشكلة، قبل ذلك كان يمكن لنا القول أن العلم منفصل عن القيم، حتى أن خضوع التوجه العلمي لأخلاقيات العصر لم يكن أزمة تتحدث عن تأثير في بنية العملية العلمية نفسها، لكن بعد ظهور إشكالات أساسية فيما نفعله حينما نحاول أن «نختار» بين فرضيات أو نظريات علمية متنافسة ومدى عقلانية كل نوع من الاختيار، أصبحت أخلاق العصر جزءًا من بنية العلم!
ما زال الجدل قائمًا حول ما يعنيه المنهج العلمي في الأساس وكيف يتقدم وهل – أصلًا – يتقدم؟ أم أن لكل خطوة تقدمية ثمن ندفعه بحيث يجب أن نتساءل ان كنّا نتقدم أم لا؟ يمر العالم كله بأزمات مشابهة سياسيًا وفلسفيًا واجتماعيًا، يحاول البعض إرجاع الأمور لضبط المصنع بحيث نبدأ من صفر جديد، في تلك النقطة دعنا من جديد نسأل: هل العلم في مأزق؟
طبعًا، كان العلم دائمًا في مأزق، كانت هناك مشكلات عظيمة في كل وقت تهدد بالوقوع من أعلى هضبة العلم، في كل قضية ومع كل ابتكار جديد يضع العلم نفسه على المحك، لكنه يستمر. استكشفنا عوالم المريخ وبلوتو، واقتربنا من عوالم الجسيمات دون الذرية بشكل مذهل لم يكن ليصدقه ديراك أو أينشتين، كل يوم يزداد عدد الكواكب التي نستكشفها خارج المجموعة الشمسية، تأكدنا من وجود الهيجز بوزون، تنزل مركباتنا بدقة رهيبة على مذنبات تدور في المحيط الشمسي بعد رحلات تدوم لسنوات، تحكّمنا في جسيمات بحجم النانو وقمنا ببعثها رسلًا لاستكشاف أجسامنا وعلاج أمراضنا، أصبحنا أطول عمرًا وربما أكثر سعادة، الآن نحن نشاهد الجزيئات تتفاعل والخلايا تكون بروتينها عبر ميكروسكوبات من طرازات مختلفة.
تداخل العلم مع مناهج بحث أخرى، فتأثر كانط بنيوتن حتى أن هانز ريشنباخ يقول أن العلماء يفهمون كانط أكثر من الفلاسفة، وتأثر هايدجر بأينشتين، وتأثر هوبز بجاليليو، وضع العلم نفسه كأداة لوضع فهم مختلف للكون، معبرًا عن الإنسان كموجود عاقل ذكي، قادر على سبر أغوار المجهول عبر كراسة بيضاء وقلم رصاص، من المبهر حقًا أن نتصور مدى قوة العلم في باحث شاب جالس على مكتبه في أحد الليالي الشتوية ليصيغ بدقة ما يمكن أن يحدث حينما يصطدم ثقبان أسودان يبتعدان عنّا مليار سنة ضوئية فيطلقان تموجات جذبوية يصل سعتها إلى مليار مرة أصغر من حجم الذرة!
حسنًا، المنهج العلمي – بتعبير د. يمنى الخولي – «قوة عظمى امتلكها الإنسان وهي أهم منتج مؤثر في واقعه»، ما زلت في تلك النقطة أجد تحسسًا شديدًا عند البعض من – ليس فقط الحديث عن ذلك – مجرد وضع إمكانية تعميم المنهج العلمي كوسيلة لتحصيل المعرفة في الاعتبار كنموذج جيد يمكن تطبيقه على مجالات متنوعة، رغم أن ذلك كان واضحًا – مثلًا – في فلسفات ماركس ومن بعده دوركايم الاجتماعية، كذلك عني هانز ريشنباخ بإنشاء فلسفة تنطلق من المنهج العلمي، لكن البعض يصر على أن العلم عدو مسيطر، لكن، كيف يسيطر العلم بينما ما زالت قضية ببساطة «هل ندرس التصميم الذكي في حصص العلوم؟» تجوب المحاكم شرقًا وغريبًا في أوروبا والولايات المتحدة منذ الخمسينات؟ أليس لهذا «الفاشي المسيطر السلطوي» قدرة على إنهاء القضية فورًا؟!
العلم هو ابن الإنسان، قمة إبداعه، كيان معرفي متطور لا يقف عند نظرية ولا عند مبدأ ولا عند سياق معرفي، لم يُبن العلم على حقائق ومسلمات بل على نقد مستمر، أعطى ذلك للعلم القدرة على تطوير تنبؤات ووضع تفسيرات أكثر دقة مع الزمن، ومكنه دائمًا من تحدي حِسِّنا المشترك وتصوراتنا المسبقة عن العالم، بشكل يدعوني شخصيًا لأن أتمنى امتلاك عمر طويل للتعرف على المزيد من المفاجآت، لأن أقتبس جملة السيد إيجو من فيلم Ratatouilli متحدثًا لفأره الطباخ :«هيا، فاجئني».