هل حفظ القرآن قادر على شفاء الأمراض العضوية؟
تداول العديد من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعية العربية، وبعض المواقع الإخبارية، في الأيام الماضية، الحديث عن نتائج دراسة علمية، تمَّ إجراؤها في مدينة بُريدة، التابعة للقصيم بالمملكة العربية السعودية، تتحدث عن أن حفظ القرآن الكريم، يقلل كثيرًا من معدلات الإصابة بأمراض جسمانية مزمنة، كمرض ارتفاع ضغط الدم، وداء السكري، بالإضافة إلى مرض الاكتئاب، الدرة السوداء للأمراض النفسية.
أول ما يثير الاستغراب في تلك الضجة، أن تلك الدراسة نشرتْ أواخر عام 2017م في مجلة SAGE open medicine الدولية، وهي مجلة مجانية بالنسبة للقراء. لم تظفر الدراسة آنذاك بمثل تلك الضجة الحالية، والتي وصلت إلى حد إصدار جامعة القصيم السعودية بيانًا رسميًا ينفى الشائعات المتداولة عن أنَّ تلكَ الدراسة تمَّت تحت رعايتها.
وقد حظيت أخبار تلك الدراسة عمومًا برضا غالبية روَّاد مواقع التواصل المسلمين، خصوصًا وأن بعض من روجوا للخبر قد بالغوا كثيرًا في امتداح الرسالة، وأنها نُشرت في واحد من أهم المجلات العملية الأمريكية في العالم ! ويبدو أن أكثر المتابعين لم يكلفوا أنفسهم عناء بعض البحث لاستجلاء الأمر، أو ظنُّوا أن الواجب الديني يحتِّم التسليم بالخبر.
إحدى صفحات موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» والتي احتفتْ مؤخرًا بنتائج الدراسة المذكورة
شفاءٌ لما في الصدور
لا يختلف المسلمون في المعنى المجازي للشفاء المقترن بالقرآن، والمقصود به تداوي الروح بمعاني الإسلام السامية المبثوثة في ثنايا الكتاب، وتعافي النفس من الأمراض المعنوية، بالأخلاق التي يحث عليها. بالنظر في آية الإسراء المذكورة في صدر الفقرة، وهي من أكثر النصوص الإسلامية جلاءً في الحديث عن القرآن كشفاء، تكاد تجمع التفاسير على المعنى المجازي للشفاء، في تفسير ابن كثير على سبيل المثال:
ومثل ذلك المعنى ورد التفاسير المختلفة جميعًا قديمها وحديثها .. تفسير البغوي .. تفسير الجلاليْن .. في ظلال القرآن لسيد قطب .. زهرة التفاسير للشيخ محمد أبو زهرة. … الخ.
لكن كان وجه الخلاف دائمًا، خاصة في العصر الحديث، في الشفاء بالمعنى المادي، أي علاج الأمراض العضوية والجسمانية. إذ وردت بعض الأحاديث النبوية من مختلف درجات الصحة، يفهم منها أن للقرآن دورًا في الشفاء المادي المباشر، دون الاكتفاء به بالطبع، لأن الأدلة الشرعية تواترت على مشروعية التداوي واستحبابه.
لا نستهدف في تلك المساحة المحدودة أن نحسم تلك القضية الجدلية، ولكن يهمنا التركيز على نقطتيْن محوريَّتيْن …
أولًا: لا يحتاج الإسلام والقرآن لتلفيقاتٍ طبية أو علمية، لإثبات حقيقته، ولا يمكن تحت عنوان حسن النية الفضفاض، أن نتراخى مع من يقومون بمثل هذه الأعمال، فالحق لا يُنصَر بالباطل، بل إن العكس هو ما يحدث، إذ تسيءُ مثل تلك التصرفات كثيرًا إلى الدين والمتدينين.
ثانيًا: القضية بها مساحاتٍ عديدة مفتوحة للاجتهادات الدينية في استقراء النصوص الواردة في هذا، وللمباحث العلمية، ففي السنوات الأخيرة ظهرت دراسات عديدة تناقش مسألة الروحانيات عمومًا، وعلاقتها بالصحة، وبالأمراض العضوية، وتفاوتت نتائجها كثيرًا. والواجب أن يكون صدرنا رحبًا لأي نتائج في هذا الصدد نفيًا وإثباتًا.
كيف نتعامل مع مثل تلك الضجات؟
والآن سنذهب مباشرة إلى المتن الرئيس لهذه المقالة، وهو عن التعامل الأمثل مع الأخبار التي يتم تداولها إعلاميًا أو على مواقع التواصل عن أي دراسة علمية جديدة، وكذلك نقد الرسالة صاحب الضجة الأخيرة.
1. التأكد من وجود الرسالة المذكورة فعلًا!
قبل أن تنفق طاقتك في قضية ما، تأكد من وجودها أولًا. يمكن القيام بذلك عبر البحث من خلال محرك البحث جوجل عن الرسالة، والأفضل أن يكون ذلك باستخدام العنوان باللغة الإنجليزية. إذ إن الكثير مما يروج على مواقع التواصل الاجتماعي من دراساتٍ في مثل تلك القضايا، لا أساس له من الصحة مطلقًا.
2. ليس كل ما يلمع ذهبًا
نستهدف هنا حالة الانبهار النفسي العجيب لدى عامة المتابعين تجاه أي خبر يتحدث عن دراسة علمية جديدة تقول كذا. هناك آلاف أو عشرات الآلاف من الدراسات العلمية التي تُنشر سنويًا في كافة أرجاء الدنيا، وفي كافة التخصصات. من بين تلك الدراسات هناك الكثير ممن لم يلتزم بالقواعد العلمية الصحيحة للبحث، ومنها المُفبرَك بالكامل، ومنها غير النزيه وصاحب الغرض، ومنها المتناقض مع نتائج أكثر رسوخًا لدراساتٍ سابقة .. الخ، وهناك متخصصون في تقييم الدراسات العلمية، ومدى قوتها، ومدى صلاحيتها لبناء التوصيات العلمية والطبية على نتائجها، والجمع بين الأدلة العلمية القوية المتعارضة ظاهريًا أو جوهريًا .. الخ.
ليس معنى أن بعض وسائل الإعلام قد تداولت رسالة ما، أنها قد حصلت على خاتم الجودة والمصداقية، فالكثير من المحررين الإعلاميين يفتقرون للدقة وللخبرة اللازمتيْن للنقد العلمي للأبحاث، ومنهم من له انحيازات مسبقة يريد إثباتها، ولو بالتلاعب بالألفاظ، وبتلميع ما لا يستحق.
3. أين نشرت الدراسة المذكورة؟
ليس المقصود هنا بالطبع الوسيلة الإعلامية، إنما المجلة العلمية التي نُشرَت فيها الدراسة. هل هي دورية علمية رسمية لإحدى الجامعات الكبرى أو المؤسسات العلمية المرموقة؟ وما سمعتها في الأوساط العلمية والبحثية من حيث الأمانة في انتقاء الموضوعات، وكفاءة مُراجعيها؟
هناك أيضًا ما يسمى بمعامل التأثير Impact factor، وهو من أهم عناصر المفاضلة بين الدوريات والمجلات العلمية، ويتم حسابه من قياس عدد الاقتباسات citations – أو مرات العزْو – التي استخدمها الباحثون حول العالم من الموضوعات والدراسات المنشورة بالمجلة، بالنسبة إلى العدد الكلي لتلك الموضوعات والدراسات. كلما زاد معامل التأثير، دلَّ على جودة موضوعات المجلة، ودقة انتقائها لما يُنشرَ عبرَها. تحظى المجلات القوية بمعامل تأثير 2-3 فأعلى.
والمجلة المنشور بها البحث SAGE open medicine الذي نتحدث عنه هنا، تحظى بمعامل تأثير حوالي 0.681 عام 2018م. وهو ليس رقمًا سيِّئًا، لكنه بالتأكيد لا يجعلها واحدة من أكبر المجلات العلمية الأمريكية في العالم (على سبيل المثال، تحظى مجلة الجمعية الطبية الأمريكية JAMA بمعامل تأثير 47.661).
4. من الباحثون؟
لا شك أن السمعة البحثية لطاقم العمل، من أهم عوامل الحكم على قوة الدراسة ومصداقيتها. كلما زاد عدد الاستشهادات، ومرات العزو من دراسات أحد الباحثين، زادت قيمته البحثية.
الطاقم البحثي الذي قام بالرسالة، يتبع كلية سليمان الراجحي للطب بالسعودية، والباحث الرئيس، هو الباحث Nazmus Saquib وهو حسب المذكور في صفحته على الإنترنت، باحث في المجالات التقنية، ويحضر رسالة الدكتوراه في أحد معامل معهد ماساشوسيتس للتقنية، وحظي بأكثر من 800 استشهاد من 7 دراسات سابقة له في المجالات التقنية. أما الباحث الثاني، فهو Juliann Saquib، ويعمل أستاذًا مساعدًا في قسم طب الأسرة والمجتمع بكلية الطب، جامعة القصيم السعودية، وله عشرات الأبحاث الطبية، وحوالي 760 استشهاد.
5. الأدلة العلمية السابقة
يذكر الباحثون في دراستنا الحالية، أن أغلب الأبحاث التي تناولت العلاقة بين الروحانيات، والأمراض العضوية، تم إجراؤها في مجتمعاتٍ مسيحية. على سبيل المثال دراسة عام 2001م وجدت تحسنًا نسبيًا لدى مرضى التسمم البكتيري العام بعد أداء بعض الصلوات.
في السنوات الأخيرة، ظهرت الكثير من الدراسات العلمية التي تستهدف المسلمين، وكلها تقريبًا دراسات من بلدان عربية أو إسلامية، قد يشوبها الانحياز التلقائي كدراسة كويتية عام 2003م، نشرت في مجلة Biosoc sci (معامل تأثير 1.2 عام 2018م). وجدت انخفاضًا في معدلات ضغط الدم لدى الشرائح الأكثر تدينًا في عينة من 200 كويتي. ودراسة باكستانية أظهرت تحسنًا في الأداء الدراسي والأكاديمي لدى حفاظ القرآن.
لكن تخلوا أكثر تلك الدراسات من أنماط الدراسات الكبرى متعددة الجنسيات، ذات القيمة الأكبر في بناء الدليل العلمي، مثل دراسات المراجعة الممنهجة systematic review والتحليل البعدي أو التلوي Meta-analysis.
6. نوع الدراسة
الدراسة الحالية هي دراسة مقطعية cross-sectional study، والتي تمتاز بقلة التكاليف، وسرعة الإنجاز، فهي عبارة عن أخذ مقطع عرضي في مجتمع ما، وعمل مقارنة وقتية بين مجموعتيْن حسب وجود ظاهرة ما، وعدم وجودها. في مقابل سهولة الإجراء، فإنها ليست من الدراسات القوية في إنتاج الدليل العلمي، وفي إثبات علاقة السببية، واتجاهها، فهي تبرز الظواهر وانتشارها، لكن ليس بإمكانها إثبات علاقة أكيدة في أي اتجاه.
إذًا ففي الدراسة السعودية الحالية، لا يمكن الجزم بأن النسب الأقل من الضغط أو السكر لدى المجموعة الأكثر حفظًا للقرآن، هو نتيجة مباشرة لحفظ القرآن، إذ قد تكون مصادفة بحتة، أو جاءت نتيجة – مثلًا – أن الأكثر حفظًا للقرآن، يشيع بينهم أنماط حياة أكثر صحية تقلل فرص الإصابة بالضغط أو السكر، أو أنها ظاهرة خاصة بهذا المكان والزمان فقط .. الخ.
اقرأ: دليلك لأنواع الدراسات العلمية الطبية
اقرأ أيضًا: مدخل إلى البحث العلمي الطبي .. الدليل العلمي
7. العينة المستهدفة، ومدى الحيادية في انتقائها
كلما كانت العينة المدروسة أكبر، ومن شرائح عمرية وجنسية واجتماعية.. الخ أكثر تنوعًا، وكان انتقاؤها بشكلٍ أكثر حيادية يضمن عدم تدخل الباحثين في أيٍّ من خطوات الاختيار، كانت الدراسة أكثر قوة وموثوقية، وكلما كان بالإمكان تعميم نتائجها على المستوى العام.
العينة المستهدفة كانت 400 مواطن سعودي ذكر، من رواد مساجد تمَّ انتقاؤها عشوائيًا في مدينة بُريْدة السعودية. وهو عدد جيد بالنسبة لدراسة وصفية محلية، لكن لكي تكتسب النتائج قوة أكبر، ويمكن تعميمها، نحتاج إلى مئات الدراسات في نفس السياق من بيئات إسلامية مختلفة، ومراجعتها، وتدقيق طرقها ونتائجها من قبل خبراء في البحث العلمي، وعمل تحليل شامل لنتائجها جميعًا، كما يحدث في دراسات المراجعة الممنهجة systematic review والتحليل البعدي أو التلوي Meta-analysis التي ذكرناها آنفًا.
الخلاصة
تحسس مسدسك عندما تسمع أحاديث الإعلام أو مواقع التواصل الاجتماعي عن الدراسات العلمية الجديدة، وخد وقتك قبل التسرع في التصديق أو التكذيب.