هل يتفوق النظام السياسي الإسلامي على نظيره الغربي حقًا؟
في الثالث من مارس عام 1924م، الموافق للثامن والعشرين من رجب عام 1342هـ، أعلن مصطفى كمال أتاتورك إلغاء نظام الخلافة الإسلامية، وهو النظام الذي عرفته الشعوب الإسلامية على مدى ما يزيد على الثلاثة عشر قرناً، ليقع المسلمون في حيرة بالغة بين محاولة إعادة إحياء هذا النظام مرة ثانية من جهة، والتخلص مما بقي عالقاً من آثاره واللحاق بركب نموذج الديمقراطية الغربية من جهة أخرى.
هذا التنافس بين النموذجين- الإسلامي التراثي ونظيره الغربي- دفع بكثير من الباحثين والمفكرين للتعبير عن أفكارهم المؤيدة لأحد النموذجين، من خلال تبيان أوجه تفوقه وإظهار مواضع العوار والنقص في النموذج الآخر. الأستاذ محمد إلهامي، وهو باحث مصري في التاريخ والحضارة الإسلامية، وحاصل على درجة الماجستير في الاقتصاد الإسلامي، ونشرت له مجموعة من الكتب، يُعد واحداً من أهم وأبرز الكوادر السياسية المروجة لأطروحة النموذج السياسي الإسلامي الذي يتفوق على نظيره الغربي، وقد استعرض في محاضرته المعنونة بـ«كيف يتفوق النظام السياسي الإسلامي على غيره من النظم؟» أهم النقاط التي تؤكد تفوق النموذج السياسي الإسلامي، وهي النقاط التي نناقشها في هذا المقال.
عن أي نظام إسلامي نتحدث؟
بادئ ذي بدء، لم يعرِّف إلهامي مقصده من مصطلح «النظام السياسي الإسلامي»، تُرى هل عرَّف الإسلام– أو بالأحرى التاريخ الإسلامي- نظاماً، منضبطاً، محدد المعالم، معين السمات، نستطيع أن نصفه بأنه النظام السياسي الإسلامي، من دون أن تعوزنا الحاجة لتحديده ووصفه؟
الباحث في تاريخ المسلمين، سيجد أن المسلمين لم يتفقوا– عبر تاريخهم الطويل- على شكل محدد للممارسة السياسية، وهو الأمر الذي يظهر جلياً واضحاً من خلال الرجوع للكيفية التي انتُخب بها الخلفاء على مر العصور.
أبو بكر– أول خلفاء المسلمين- اُختير في حادثة السقيفة الشهيرة، وسط خلاف وتنافس حاد بين الأنصار والمهاجرين، ولم يُحسم أمر اختياره إلا بعد أن مدَّ عمر بن الخطاب يده إليه مبايعاً، وهو الأمر الذي عبر كثيرون عن كونه أمراً عشوائياً لم يُرتب له، ومنهم عمر نفسه في أواخر خلافته، الذي لما سمع بعض الصحابة يقولون سنبايع فلاناً بعد أن يموت عمر، قال قولته المشهورة: «إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك ولكن الله وقى شرها…»، وذلك بحسب ما يذكر البخاري في صحيحه.
الخليفة الثاني، عمر بن الخطاب، اختير بموجب عهد مباشر من الخليفة الأول قبل وفاته، أما الخليفة الثالث، عثمان بن عفان، فقد وقع اختياره من بين الستة من أصحاب الشورى، والذين سماهم عمر نفسه في الأيام الأخيرة من حياته، في حين بويع الخليفة الرابع، علي بن أبي طالب، من جانب ثوار الأمصار الذين قدموا من الكوفة والبصرة والفسطاط.
كل هذا قبل أن ينتهج الخليفة الأموي الأول، معاوية بن أبي سفيان، النهج الوراثي في الحكم، فيعهد بولاية العهد لابنه يزيد، وهو النهج الذي ستنتهجه الأغلبية الغالبة من الخلفاء والسلاطين والأمراء في التاريخ الإسلامي فيما بعد، ولن يشذ عنه إلا هؤلاء المحتكمون إلى السيف، الذين وصلوا إلى الحكم بالتغلب والقهر، وهؤلاء وإن كانوا قد ظهروا للمرة الأولى في تاريخ المسلمين في عهد عبد الملك بن مروان الذي انتزع الخلافة انتزاعاً من عبد الله بن الزبير، فإنهم سيتلاحقون تباعاً فيما بعد، في عهود كل من السلاجقة والمماليك والعثمانيين.
فعن أي نظام سياسي إسلامي نتحدث إذن؟ تُرى هل يقصد الأستاذ إلهامي ذلك النظام المبني على المشاركة المجتمعية والشورى، والذي لم يعرفه المسلمون إلا في دولة الراشدين؟ أم تُراه يقصد النظام الذي طُبق فعلياً لما يزيد على ثلاثة عشر قرناً من الزمان، وهو النظام الذي يرتكز على دعامتين استبداديتين بالمقام الأول، وهما التوريث وحكم المتغلب، على الترتيب؟
الديمقراطية والبرجر
ينتقد الأستاذ محمد إلهامي في محاضراته طريقة تعامل كثير من المثقفين المسلمين مع نموذج الديمقراطية الغربية، فيقول:
في الحقيقة، أتفق مع ما ذكره الأستاذ إلهامي في تلك النقطة. بالفعل، انبهر الحداثيون والليبراليون المسلمون بنموذج الديمقراطية الغربية للدرجة التي أعمت أبصارهم عن تبيان أخطاء وعيوب هذا النموذج.
ولكن ما الضير من ذلك؟ وهل في وسع فاقد الشيء أن ينتقد ممارسة الآخر له؟
وكيف يلمس المثقف الحداثي المسلم المبهور بالنموذج السياسي الغربي، عيوب هذا النموذج إذا كان قد اعتاد الحياة وسط معطيات نظام سياسي شمولي بامتياز، تضافرت في حياكته نزعة استبدادية ما بعد كولونيالية، مصطبغة بالصبغة القومية حيناً، وبالصبغة الوطنية أحياناً أخرى، مع أنماط التدين التراثي التي لم تتمكن بعد من الانفكاك من قيد العصور الوسطى حتى اللحظة؟
نعم، قد ينبهر المثقف الحداثي المسلم بالنموذج السياسي الغربي، ولكنه انبهار محمود بالمقام الأول، وهو انبهار له ما يفسره، ويمكن توصيفه وفهمه في سياق القواعد الحاكمة لعلوم الاجتماع والعمران البشري، ألم يذكر ابن خلدون في مقدمته أن «المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده»؟
الانبهار مفهوم إذن، وله ما يفسره ويبرره، وهو خطوة على الطريق الصحيح، بشرط أن يستتبع الانبهار وعياً ناقداً قادراً على التمييز بين المزايا والعيوب، وهو الأمر الذي لم يتح حتى الآن للمفكر/ المثقف الحداثي المسلم، بسبب توقف تجربته السياسية الذاتية عند حدود النظرية المجردة، وكونها لم تنتقل بعد للشق العملي، الذي يسمح بالممارسة والتطبيق والتفكيك.
اللجوء للتاريخ هرباً من الواقع
في إطار حديث الأستاذ إلهامي في محاضرته التيار الحداثي انتقده قائلاً:
بالفعل، قد يكون الإسقاط على الماضي والفرار إليه الحل الأمثل للهروب من بطش السلطة وقهر الحكام، وفي هذا يستوي الإسلاميون والحداثيون. كلٌّ من الفصيلين اختار– تحت وقع الضربات القاصمة التي وجهتها له السلطة- أن يلجأ إلى التاريخ والتراث، هروباً من واقع معاش لا يمكن تحديه أو الوقوف أمام ترسانته الجبارة.
الإسلاميون والحداثيون، نقلوا معركتهم الفكرية إلى الماضي، واستبدلوا بعداوتهم القائمة لأجهزة الدولة ومخالفيهم، عداوة تراثية مع شخوص عاشت من مئات السنين، وفي سياق تلك الخصومة المُتخيلة، مُررت الرسائل والأفكار إلى القواعد والجماهير، فعلى سبيل المثال، صار ابن حنبل– إمام المحنة- حاضراً مركزياً في قضايا الإسلاميين الآنية، وعلى الجهة المقابلة، أضحى ابن رشد والمعتزلة– زعماء التنوير- رموزاً يقتدي بهم كل من يميل للفكر الحداثي الغربي.
الفارق بين الفريقين أن الإسلاميين قد اجتمعت لهم من أسباب القوة والتمكين ما هيأ لهم الفرصة– في كثير من الأحيان- للدخول في مواجهات مباشرة ضد السلطة، وهو الأمر الذي لم يتح للفصيل الحداثي المتأثر بالغرب.
بعدها، يواصل الأستاذ إلهامي طرحه، فيؤكد «أن النموذج الغربي له في البلاد الإسلامية نفوذ، ولذلك يختاره المثقف العربي إما رغبة في جوائزه أو رهبة من بأسه…».
السؤال الذي يفرض نفسه ها هنا، أليس النموذج الإسلامي يسير على المنوال نفسه؟
فنحن نتفق على أن للنموذج الفكري الغربي أجهزةً ومؤسسات تساعد في نشره وقبوله بين أوساط المثقفين وأوساط العامة، ولكن ماذا عن النموذج الإسلامي التراثي؟
ألم توقف دول معروفة بالاسم المليارات من أموالها في العقود المنصرمة لمساعدة ودعم التيار الإسلامي بكافة أطيافه؟
نظرة سريعة خاطفة لأسعار المصنفات والكتب الفكرية- الحداثية والتراثية- قادرة على توضيح الصورة؟ ففي الوقت الذي يُباع فيه الكتاب الذي يحمل الفكر الحداثي بمئات الجنيهات بما يمثل عبئاً ثقيلاً على ميزانية المثقف العربي الذي يعاني الأمرين في تدبير نفقاته اليومية والشهرية، نجد أن الكتب التراثية، ذات الأغلفة الفاخرة، والطباعة الملونة، والتي دونت عليها أسماء مؤلفيها بالخطوط المذهبة، تُباع بحفنة من الجنيهات في المكتبات التراثية التي تتوزع في شتى أنحاء الريف والحضر.
أيهما أشد نفوذاً في بلادنا إذن؟ النموذج الإسلامي بكل موافقياته للتراث والعادات والأعراف أم النموذج الغربي بما يلازمه من صراعات ونقاشات وتحديات ومواجهة مع المجتمع وبنيته الصلبة؟
ماذا عن المظالم المتعددة التي لاحقت رموز التيار التنويري في مصر، من أمثال نصر حامد أبو زيد وفرج فودة وسيد القمني وغيرهم؟ هل تُقارن بالحظوة التي تمتع بها أغلبية رموز التيار الإسلامي، بدايةً من حسن البنا وسيد قطب، مروراً بالشيخ محمد الغزالي والشيخ الشعراوي، وانتهاءً بشيوخ السلفية الذين أُتيحت لهم الفرصة كاملة للظهور في الفضائيات وإلقاء الدروس على المئات من الطلبة، بل سمحت لهم السلطة في أكثر الأوقات، بارتقاء منابر المساجد يوم الجمعة، في خطوة تشي بقوة العلاقة المنعقدة بين «أولي الأمر» من جهة و«أولي العلم» من جهة أخرى؟
السلطة: بين بطش الحجاج وتغول اللفياثان
يحاول الأستاذ محمد إلهامي أن يوضح المفارقة في تعاطي المثقفين المسلمين المتأثرين بالروح الغربية مع التراث الإسلامي، فيقول:
ويقارن إلهامي هذه المقولة بما يقع حالياً من امتثال المثقف نفسه لأمر الدولة إذا صدر قرار إداري بغلق باب من أبواب المسجد، وبمعاقبة من يخالف هذا القرار.
في الحقيقة أنا أتعجب كثيراً من المثال التوضيحي الذي ضربه الأستاذ إلهامي في معرض مقارنته بين الاختلاف في التعامل مع السلطة في التاريخ الإسلامي من جهة، والدولة الحديثة بحسب المنظور الغربي من جهة أخرى.
نعم، أتفق معه تماماً في السلطة الهائلة التي تحوذها الدولة الحديثة في النموذج الغربي، إلى الدرجة التي حدت بالمفكر الإنجليزي توماس هوبز في القرن السابع عشر لتصنيف كتابه الشهير «اللفياثان: الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة»، والذي شبهت فيه الدولة الحديثة باللفياثان، وهو كائن بحري خرافي له رأس تنين وجسد أفعى ورد ذكره مرات عدة في الكتاب المقدس.
المفكرون الأكثر شهرة وتأثيراً في الثقافة السياسية الحديثة والمعاصرة من أمثال توماس هوبز وديفيد هيوم وجان جاك روسو ومنتسكيو، تعرضوا كثيراً لمسألة هيمنة الدولة وتغولها على المجال العام، ولكنهم وافقوا ضمنياً على هذا التغول مقابل القضاء على جميع الحزازيات والتعصبات العرقية والمذهبية والدينية التي كانت معروفة في أوروبا في القرون الوسطى وعصر الإصلاح الديني، بمعنى أن هيمنة الدولة في النموذج الغربي مقبولة في سياق ما يترتب على تلك الهيمنة من صالح عام للأفراد المنضوين تحت لواء تلك الدولة.
لو قارنا ذلك بالمثال الذي عرضه الأستاذ إلهامي، فسنجده مخالفاً شكلاً وموضوعاً، ذلك أن الحجاج بن يوسف الثقفي– الذي عُرف بالوالي الأشد بطشاً وإراقةً للدماء في الدولة الأموية- لم يكن ليطالب المسلمين بعدم الخروج من الباب الآخر للمسجد من باب إثبات هيمنة الدولة بشكلها العام بما يتوافق مع صالح المواطنين، بل للتأكيد على هيمنة دولة بني أمية تحديداً، ومن ثم فتهديده يبدو غير مبرر ولا مستساغ، للتباين الشديد بين النموذجين (الدولة الحديثة في الفكر السياسي الغربي، ودولة بني أمية).
من هنا يبدو أن هناك خلافاً كبيراً وشاسعاً بين المثالين، فالمثال الأول عبَّر عن خضوع مطلق لهوى شخصي طغياني استبدادي، أما المثال الثاني، فقد كان قراراً تنظيمياً له ما يبرره، وهنا يجدر بنا القول، إنه لو افترضنا عدم وجود سبب يفسر القرار الثاني، فإنه سوف يتحول تلقائياً إلى قرار استبدادي هو الآخر، بمعنى أن الفارق بين النموذجين (الإسلامي التراثي والغربي الحداثي) يكمن في المقام الأول والأخير في العلة والسبب.
العقد الاجتماعي
يذكر الأستاذ محمد إلهامي أن النموذج السياسي الغربي يعجب الناس لنقاط أربع، وهو يرى أن النموذج الإسلامي يتفوق في النقاط الأربع، وفيه أيضاً ما يزيد عنها.
أولى تلك النقاط هي فكرة «العقد الاجتماعي»، والذي يعرفه إلهامي ببساطة فيقول: «الحاكم موظف وبينه وبين الشعب عقد، ومن حقهم أن يعزلوه كما عينوه».
بعدها ينتقد إلهامي فكرة العقد الاجتماعي، فيقول، إنها ظهرت في القرن السادس عشر مع توماس هوبز وجون لوك، ولم تكتمل إلا مع جان جاك روسو في القرن الثامن عشر، وأن أوروبا لم تصل لهذه الفكرة إلا بعد فترة طويلة من الطغيان والاستبداد.
يضيف إلهامي: «معنى العقد الاجتماعي موجود عند المسلمين منذ الخطبة الأولى للصديق «أيها الناس، قد وليت عليكم ولست بخيركم، إن أطعت الله فأطيعوني وإن عصيته فقوموني»، ولذلك لم يحتج المسلمون لقرون لمعرفة أن الحاكم بشر لهم الحق في اختياره ومحاسبته».
في الحقيقة، هناك فارق كبير جداً بين المقولة المرسلة والتطبيق العملي، نعم، ثبت تاريخياً أن الصديق لما تولى الحكم قد قال للصحابة: «إن أطعت الله فأطيعوني وإن عصيته فقوموني»، ولكن ما علاقة هذه الجملة بفكرة العقد الاجتماعي؟
الصديق في مقولته يرد السلطة/ الطاعة إلى الله، عز وجل، ولا يبين أن لعامة المسلمين يداً فيها، وهذه النقطة هي الركن الأساس في بنية مفهوم العقد الاجتماعي.
هذا الفارق الكبير يتضح بعد أقل من خمسة وعشرين عاماً فحسب من خطبة الصديق، ذلك أنه لما قدم الثوار من مصر والعراق لمخاطبة الخليفة الثالث وانتقاده في بعض ممارساته، ولما طالبوه باعتزال الخلافة والحكم، رد عليهم معترضاً: «أما أن أتبرأ من الإمارة فإن تصلبوني أحب إليَّ من أن أتبرأ من أمر الله، عز وجل، وخلافته…» كما قال في موضع آخر: «لا أخلع قميصًا قمصنيه الله…».
إذن، لو احتكمنا للمقولة التي ساقها الأستاذ إلهامي لإثبات أسبقية المسلمين لفكرة العقد الاجتماعي، سنصل إلى أمرين مهمين: الأول، أن المضمون الذي خلص إليه من المقولة، تعارضه كثير من المقولات التراثية الشائعة والمعروفة، والثاني، أن النظرية السياسية الإسلامية تقوم على فكرة المرجعية الإلهية لسلطة الخلافة، لا العقد الاجتماعي.
من هنا، يظهر تهافت ما ذهب إليه الأستاذ إلهامي في قوله: «ولذلك لم يحتج المسلمون لقرون لمعرفة أن الحاكم بشر لهم الحق في اختياره ومحاسبته»، بالفعل، كان المسلمون يعرفون أن الحاكم بشر، ولكنهم– عملياً- لم يحاسبوه ولم يكن لهم حق في اختياره، بل كان أمر الشورى أمراً صورياً مكملاً لمشهد تنصيب الحاكم، ولم يكن بوسع المعارضين إبداء معارضتهم إلا باللجوء للقوة والاحتكام للسيف والشوكة.
يتابع إلهامي بعدها: «إن فلاسفة الغرب لم يتمكنوا من إثبات فكرة العقد الاجتماعي، بمعنى أن المجتمع كان في فوضى إلى أن اتفق الناس على هذا العقد». ويضيف متسائلاً: «من يملك وضع بنود العقد الاجتماعي؟ هم الأقوياء المنتصرون وليس غيرهم، فهم يحولون رغباتهم إلى مواد دستورية، بعكس الحالة الإسلامية، التي وضع أسسها الله، عز وجل، نفسه، وهذا جعلها بعيدة عن الحذف والتعديل، بعكس حالة الاستثناء التي تتيح للسلطة المستبدة في النموذج الغربي أن تحذف الدساتير وتضع القوانين في معزل عن الرغبة الشعبية».
ليس هناك إشكال في إثبات الأصل التاريخي لفكرة العقد الاجتماعي، إذ يمكننا القول، إن للفكرة أصلاً مُتخيلاً، مثلها في ذلك مثل العديد من الأفكار التي فرضت نفسها على ساحات الفكر الإسلامي، ومنها الدولة والمجتمع والمذهب… إلخ، فالعبرة هنا ليست بإثبات الأصل التاريخي للفكرة، بقدر إثبات نفعها الحالي وتفوقها على الأفكار المناظرة.
أما فيما يخص الدستور وإمكانية تغييره، فهذا أمر مفهوم ومعقول إلى حد بعيد، إذ لما كان الدستور هو التأطير السياسي للمجتمع، فمن المنطقي أن يتغير الدستور بتغير شكل المجتمع، ومن المنطقي أن يتغير دستور دولة عن دولة أخرى، بحسب الاختلافات القائمة في كل مجتمع، ومن هنا فنحن نقول إن الدستور ليس هو نفسه العقد الاجتماعي، بل إن الدستور هو المنتج الإجرائي المرن الناتج عن فكرة العقد الاجتماعي.
وعلى هذا يتغير الدستور بحسب التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ويعدله المنتصرون الذين تفرزهم الانتخابات العادلة المضبوطة بالقواعد الحازمة، وتبقى حالة الاستثناء التي يتحدث عنها الأستاذ إلهامي كحالة استثناء، لا يُبنى عليها، ولا يُتخذ منها حجة على النظام الغربي بقدر ما تُحسب له، وبقدر ما تعبر عن كفاءة المنظومة الغربية واستمراريتها.
هذا الأمر يبدو واضحاً في حديث الأستاذ إلهامي نفسه، فهو يقول: «من كل ما سبق فإن العقد الاجتماعي أقرب لأن يكون وهماً خيالياً، وأن هذا الكلام لن يصل إلى عموم الناس إلا عندما يحدث عملياً»، ثم ضرب نموذجاً بالرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وكيف أنه من الممكن أن يبقى في منصبه الرئاسي في حالة إذا استطاع اجتذاب الجيش واحتفظ بالسلطة.
ونرد عليه في تلك النقطة، بأن كل ما أُثير عن تهافت النموذج الغربي وخيالية فكرة العقد الاجتماعي لم يتم إثباتها بشكل عملي حتى اللحظة، ورغم كل تلك المناوشات التي وقعت في الأيام الأخيرة حول الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن فكرة العقد الاجتماعي والإرادة الحرة للناخبين قد بقيت ناجحة ومتفوقة.
أما أكثر النقاط خطورة في حديث الأستاذ إلهامي عن العقد الاجتماعي، فتتبدى في قوله: «من الممكن أن يتم تعطيل العمل بالدستور، ولكن لا يمكن تعطيل العمل بالقرآن والسنة، بل إن كل حاكم يحاول أن يجد لقراراته تأويلاً شرعياً»، هنا–وبحسب الأستاذ إلهامي- تبدو الشريعة الإسلامية (القرآن الكريم والسنة النبوية)، أداة طيعة في يد الحاكم، فبإمكانه أن يجد لقراراته تأويلاً شرعياً، وهكذا تستحوذ السلطة على الأداة التي تشرعن حكمها وتثبت أقدامها في الحكم، دون مراعاة لأبسط قواعد الإرادة الشعبية. هذا التصور يعكس الأزمة الحقيقة التي يقع فيها المفكرون الإسلاميون عند تصورهم للنموذج السياسي الواجب اتباعه، إذ إنهم ينشغلون بالمظهر العام لهذا النموذج، ويصرفون جهودهم لصبغه بالصبغة الإسلامية، في الوقت الذي يتغافلون فيه تماماً عن مناقشة المضمون والقيمة.
الفصل بين السلطات
يذكر الأستاذ إلهامي أن مبدأ الفصل بين السلطات هو ثاني أهم النقاط التي تروج للنموذج السياسي الغربي، ولكنه ينتقد تلك النقطة في حديثه، فيقول:
ومن هنا فإنه يرى أن مبدأ الفصل بين السلطات لن يؤدي إلا إلى طريق من طريقين، الأول، وهو اجتماع السلطات جميعاً في يد واحدة، والثاني، وهو ضعف الدولة. وفي الحقيقة، لا يوجد اعتراض كبير على ما ذكره الأستاذ إلهامي في تلك النقطة، ولكن الاعتراض يكمن فيما ذهب إليه من أنه «عملياً لن يتحقق فصل حقيقي بين السلطات في النموذج الغربي».
كما قلنا من قبل الإشكالية الأكبر تكمن في ربط السلطة بالاختيار الشعبي، ومن هنا لا يمكن أن نعيب على حزب ما، قوته وانتشاره بين الأوساط العامة، إذ إن التمثيل السياسي في الحالة الغربية يأتي متوافقاً ومسايراً لاقتناع الأغلبية بسياسات وتوجهات هذا الحزب، ومن ثم فلا توجد مشكلة.
الأستاذ إلهامي حاول أن يبين امتيازات النظام السياسي الإسلامي من خلال تأكيده وقوع الفصل بين العناصر الثلاث المؤسسة للسلطة، وهي على الترتيب: الخليفة الذي يمثل السلطة التنفيذية، والفقيه الذي يمثل السلطة التشريعية، والقاضي الذي يمثل السلطة القضائية.
ويؤكد إلهامي أن الفقيه والقاضي كانا يتمتعان بقدر كبير من الحرية والاستقلال، وهو الأمر الذي تعوزه الدقة التاريخية، فكيف يمكن القول باستقلال القضاء عن مؤسسة الخلافة في حين أن الأغلبية الغالبة من المصادر التاريخية الإسلامية تؤكد أن الخليفة هو الذي كان يعين القضاة؟
الخلافة (السلطة التنفيذية) لم تكتفِ بدورها في اختيار القضاة فحسب، بل إنها في أغلب المراحل التاريخية أسهمت في نشر بعض المذاهب الفقهية على حساب البعض الآخر، بما يعني أن المذاهب الفقهية لم تلقَ حظها من القبول والانتشار إلا تحت مظلة السلطة، وبالتالي كان من غير المنطقي أن يتعارض رجال الدين ورجال السلطة.
نعم، يحدثنا التاريخ الإسلامي عن وقوع بعض المناوشات بين السلطة التنفيذية وبعض من كبار الفقهاء المعاصرين لها، فعلى سبيل المثال، ضُرب الإمام أبو حنيفة النعمان في العصر الأموي والعصر العباسي لعدم قبوله بالتعيين في منصب القاضي، وضُرب الإمام مالك بن أنس الأصبحي بسبب فتوى زواج المكره التي قال بها دعماً لثورة محمد النفس الزكية في 145هـ، وكذلك قُدم الشافعي للمحاكمة أمام هارون الرشيد بتهمة موالاة العلويين، فيما تعرض أحمد بن حنبل للاضطهاد بسبب رفضه قول العباسيين في خلق القرآن.
بالفعل، جميع تلك الأحداث صحيحة، وهي تشي بوقوع الخلاف الظاهر بين الأمراء والعلماء، ولكن التدقيق في مآلات تلك الأحداث والوقائع، من شأنه أن يساعد في توضيح صورة العلاقات الممتدة بين الجانبين، فالحنفية– مذهب أبو حنيفة- لم يذع إلا على يد العباسيين، عندما عُين أبو يوسف– تلميذ أبي حنيفة- في منصب القضاء، والمالكية انتشرت في المغرب الكبير على يد دولة الأغالبة، والشافعية اقترنت بالدولة السلجوقية وورثتها من الزنكيين في بلاد الشام والأيوبيين في مصر، أما الحنابلة، فقد اقتصر تواجدهم في شبه الجزيرة العربية، وفي منطقة نجد تحديداً، حيث حظوا بالدعم والمساندة من الدولة السعودية.
معنى هذا أن الفصل بين السلطات الثلاث في الحالة الإسلامية، هو فصل زائف، ويروج له الإسلاميون معتمدين على الاستشهاد ببعض الوقائع والأحداث البراقة التي لم تأخذ حكم العادة السارية المستقرة في بلاد الإسلام، نعم، حدثتنا المصادر التاريخية عن اعتزال القاضي وخلعه نفسه من منصبه أحياناً عندما يكره أمراً ما قام به الخليفة أو السلطان، كما حدثتنا المصادر نفسها عن رفض بعض الفقهاء تصرفات السلاطين وإنكارهم عليهم، ولكن مع كل ذلك تبقى تلك الحالات بمثابة الأمور الشاذة التي تؤكد القاعدة، وتبقى القاعدة التي جرى تأكيدها في مختلف كتب الفقه والآداب السلطانية والآداب الشرعية، أن الخليفة/ السلطان له على الرعية حق السمع والطاعة والنصرة، وأنه غير ملزم بالأخذ بنصائح الفقهاء.
سيادة القانون
يرى إلهامي أن مبدأ سيادة القانون هو النقطة الثالثة التي تروج للنموذج السياسي الغربي، ولكنه سرعان ما ينتقدها فيقول:
نتفق مع ما ذكره الأستاذ إلهامي في أن سيادة القانون في الفكر الغربي من شأنها أن تتسبب في بعض حالات الاضطهاد أو إقصاء الآخر، ولكن الأمر المهم ها هنا، أن الحداثة الغربية قد أثبتت قدرتها في معالجة ما يطرأ عليها من عوارض الضعف والتردي، على سبيل المثال، عالجت قوانين إلغاء العبودية وما نتج على إثرها من اندلاع الحرب الأهلية الأمريكية 1861- 1865م، كثير من الممارسات العرقية المشينة التي مورست على نطاق واسع في العالم الجديد، وفي السياق نفسه، تمكن الغربيون من التخلص من الآثار السلبية الناجمة عن حكم الحزب النازي الألماني في النصف الأول من القرن العشرين.
النموذج الغربي لم يدعُ أنه النموذج الأكمل أو الأفضل على الإطلاق، بل على العكس تماماً، فلطالما صرح رموزه ومفكروه بما يعتري نموذجهم من نقاط ضعف، وبما ينبغي فعله لتحسين هذا النموذج.
على الجهة المقابلة، نجد أن النموذج الإسلامي، الذي يدعي أنصاره بتفوقه الكامل، وقد وقف- عملياً- عاجزاً عن تعديل الأمر الواقع ليتوافق مع قيم المنظومة الإسلامية الأصيلة الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية.
على سبيل المثال، لم تمنع القيم الإسلامية الخلفاء/ السلاطين من انتهاج نهج غير إسلامي في كثير من اللحظات التاريخية، ومن ذلك الموقف تجاه الآخر العرقي غير العربي، فعلى الرغم من تأكيد النص المقدس على تساوي المسلمين جميعاً في الأحكام والشرف، من خلال بعض الآيات القرآنية ومنها الآية الثالثة عشرة من سورة الحجرات «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ»، وما ورد في مدونة الحديث النبوي «لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأبيضَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أبيضَ إلَّا بالتَّقوَى، النَّاسُ من آدم، وآدمُ من ترابٍ»، فقد تحدثت مدونات التاريخ الإسلامي عن اضطهاد العناصر غير العربية، وفرض الجزية على من أسلم منهم، وإبعادهم عن مراكز القوى والمناصب المهمة في الدولة.
معنى ذلك أن القيم الإسلامية الداعية للمساواة لم تفرض نفسها على الواقع الإسلامي، فلم تفرض قيم المساواة والحرية نفسها، ولم تتمكن من تحويل المجتمع المسلم– اجتماعياً وفكرياً- نحو رفض العبودية والرق، وبقي العالم الإسلامي يقر الرق حتى اضطر إلى إلغائه أخيراً في القرن العشرين بعد أن أُجبر على ذلك من جراء اتصاله القوي بالعالم الغربي.
التداول السلمي للسلطة
أما النقطة الرابعة التي يستعرضها الأستاذ إلهامي في محاضرته، فهي مبدأ التداول السلمي للسلطة، وعلى الرغم من اعترافه بما يميز هذا المبدأ، فإنه يستدرك ليوضح بعض ما فيه من عيوب، فيقول:
إذا تغافلنا عما يحيط بكلام الأستاذ إلهامي من نزوع للتفسير التآمري– وهو ملمح أصيل من ملامح الخطاب الإسلاموي المعاصر- فمن الممكن أن نفهم المسألة بطريقة إيجابية نوعاً ما، فبقاء من سماهم الأستاذ إلهامي رجال الدولة العميقة، كان من شأنه الحفاظ على استقرار الدولة والإبقاء على قوتها، وبالتالي يستفيد النظام السياسي الغربي من الدماء المتجددة التي تضخ فيه من خلال عمليات التداول السلمي للسلطة من جهة، في الوقت الذي يراكم فيه خبرات الكوادر من جهة أخرى.