هل السعادة قرار أم للجينات رأي آخر؟
اتفقت صفحات التاريخ على أنّ الملكة فيكتوريا كانت أقوى امرأة حكمت العرش البريطاني، حتى إنّ الفترة التي جلست فيها على العرش كانت تسمى بالعصر الفيكتوري، تخليدًا لما اتسمت به فترة حكمها من ازدهار وقوة، فقد تقدمت العلوم وقامت ثورة صناعية لم يأتِ لها مثيل من قبل، إضافة إلى حنكتها السياسية في إدارة البلاد، حتى إنها وُصفت بأقوى حكام أوروبا على الإطلاق وقتها.
كانت الملكة فيكتوريا تعيسة أغلب الأوقات ولا تضحك نهائيًا. وقد كان عبوسها هذا يجعلها غير مقبولة للناس في بعض الأحيان. لذلك، قررت الحاشية أن تبعث السرور على قلب الملكة لعلها تضحك قليلًا أو حتى تبتسم، وبالفعل أتوا لها بمُضحِك، وحاول بشتى الطرق أن يُضحكها، فيضحك الحاضرون جميعًا إلا هي! وتنتهي الجلسة بعبارة: «ولكن شيئًا لم يعجبني»، حتى في إحدى المرات جلس مُضحِك الملكة يبكي بسبب خيبته.
الجينات… ما بين السعادة والتعاسة
لون العيون، فتلة الشعر، البشرة، الطول… إلخ، عادةً ما نُبرر كل هذه الصفات الظاهرية بالجينات التي نتوارثها من آبائنا وأجدادنا، أي أننا لا نملك قرارًا بشأنها، ولا نستطيع التحكم فيها. بالطبع لا يمكننا غض الطرف عن التطورات والمستحضرات التي أتاحت تعديل بعض هذه الصفات ظاهريًا فقط، لكن مع ذلك أستطيع القول: يبقى للجينات الكلمة الأخيرة. في حالة ما لم يتم التلاعب بها باستخدام إحدى أدوات التحرير الجيني.
لكن عندما نتحدث عن الصفات الباطنية، مثل السعادة أو الشقاء أو المشاعر المختلفة، سنندهش كثيرًا، فمن الصعب أن يستوعب المرء فكرة تحكم الجينات في مثل هذه الصفات، نظرًا للاعتقاد السائد الذي يدعم فكرة أنّ السعادة أو الشقاء اختيار الإنسان من خلال أفكاره وسلوكه.
أجرى «مايك بارتلز»، الأستاذ في مجال الوراثة، دراسات على الحمض النووي للأطفال التوائم للكشف عن دور الجينات في تحديد سعادة أو شقاء الفرد. وقد استخدم مايك التوائم تحديدًا كعامل ثابت، حيث أنّ التوائم المتطابقة متشابهة في مادتها الجينية، لذا نستطيع تخمين أنّ أي اختلاف في السعادة يطرأ فيما بعد يكون بسبب التأثيرات البيئية، وبذلك نجد أنّ التوائم أداة قوية لفهم مدى ارتباط الجينات بالسعادة أو الشقاء.
البيئة تحكم
يمكننا القول أنّ الجينات تلعب دورًا مهمًا في مسألة السعادة أو الشقاء، لكن في نفس الوقت، لا نستطيع تجاهل عن دور البيئة، لنعطي مثالًا يوضح الفكرة.
في إحدى الليالي أنجبت سيدة في العقد الثالث من عمرها طفلين توأم متطابقين، أعطتهم أسماء فادي وهادي. شاء القدر أن ينفصل الأب عن الأم ويَتفقا على أن يأخذ كل واحد منهما طفلًا من التوأم ليربيه، فنشأ الطفلان في بيئتين مختلفتين. وعندما التقيا في سن أكبر كان أحدهما سعيد وراضٍ عن حياته والآخر تعيس.
حسنًا، لقد كان الطفلان متطابقين، مما يعني تشابه الجينات الخاصة بهم، لكن البيئة مختلفة، هنا نقف أمام تفسيرين:
- إمّا أن تكون الجينات بريئة من تعاسة الطفل الثاني، والبيئة هي التي تسببت في تعاسته.
- أو أنّ الطفل الأول -الأكثر سعادة- عاش في بيئة أفضل بالرغم من جينات التعاسة.
في كلتا الحالتين نلاحظ تأثير البيئة على درجة سعادة أو شقاء الأطفال، بالرغم من تشابه الجينات لهما. مما يدعم أهمية البيئة كعامل أساسي. من ذلك نخلص إلى أنّ جزءًا من الاختلاف في سعادة وتعاسة الأفراد يرجع إلى الجينات. فقد يرث الفرد الجينات التي تضمن له السعادة والرفاهية جينيًا، لكن ما زالت السعادة غير مضمونة واقعيًا. في حين أنّ هناك من يرثون الجينات التي تُعرِّض صاحبها للاكتئاب، لكن هذا ليس أمرًا حتميًا.
عندما وُضع نموذج لتوضيح نسب تأثير الجينات والبيئة، وُجد أنّ 40% من الناس السعداء، ترجع سعادتهم إلى الجينات الموروثة، بينما النسبة المتبقية 60% ترجع إلى التأثيرات البيئية.
هل يستطيع المرء معارضة جيناته؟
سُئل دكتور «مايك» هذا السؤال وكانت إجابته بنعم، لكن إلى حدٍ ما. مثلًا، إذا قيّمنا حياة أحدهم على مقياس من صفر إلى 10 استنادًا إلى الخلفية الوراثية، وأعطته جيناتهِ المسئولة عن السعادة رقم 4. في هذه الحالة يمكنه رفعها إلى 5 أو 6 على المقياس. لكن في نفس الوقت لا يستطيع رفعها إلى 8 أو أعلى. وأضاف دكتور مايك: «ليس من السهل القفز على الميزان»، أي أنّ هناك حدٍ أقصى في تغيير الواقع.
نُشرت دراسة في مجلة «علم الأعصاب» عام 2012، تُفيد بأنّ الأشخاص الذين يمتلكون عددًا أكبر من الأليلات الطويلة للجين 5-HTTLPR (وهو الجين المسئول عن تشفير ناقل السيروتونين، والسيروتونين هو هرمون يُفرز في الجسم ويتحكم في مزاج الإنسان، لذا يُسمى بـ هرمون السعادة) يعيشون في حالة رضا وسعادة أكثر من غيرهم. على الرغم من ذلك، لا يمكن وصف هذه الجين بأنه جين السعادة، إذ أنّ هناك عوامل وأنشطة أخرى تساعد الإنسان في الحصول على السعادة.
كيف تعمل السعادة؟
غالبًا ما يرتبط مفهوم السعادة عند الناس ببعض المواد الكيميائية التي يفرزها الجسم البشري خلال المواقف الإيجابية، وهذه المواد هي: الإندورفين والدوبامين والسيروتونين والأوكسيتوسين. تزداد هذه المواد مع سلوكيات محددة تخلق مسارات عصبية أخرى، وبالتالي تزداد المشاعر الإيجابية. هذا بدوره يدعم فكرة أنّ الإنسان يستطيع الهروب من المصير المحتوم الذي تكتبه عليه جيناته من خلال تحسين بعض السلوكيات، والنظر إلى الأمور بشكلٍ أكثر إيجابية، مما يحفز الجسم على إنتاج مسببات السعادة تلك. وبالتالي يتحسن مزاجه.
ويمكن القول أن هناك بعض العوامل التي تُحفِّز السعادة، منها:
- التواصل مع الآخرين: ثَبُتَ أنّ الخروج من دائرة الانطوائية والتعامل الإيجابي مع الآخرين سواء في العمل أو الدراسة، يُعزز الإيجابية التي يشعر بها المرء، مما ينعكس بعد ذلك على درجة سعادته.
- ممارسة الرياضة: عند ممارسة الرياضة يُفرز عامل التغذية العصبية المستمد من الدماغ BDNF، وهو ناقل عصبي، يسمح بنقل المواد الكيميائية المرتبطة بالعواطف الإيجابية، كما تُفرَز بعض المواد مثل: الإندورفين والدوبامين والنورابينفرين والسيروتونين. وهي مهمة في تحسين مزاج الإنسان.
- الاستمرار في التعلم: يساعد التعلم في تنشيط المهارات الذهنية، هذا بدوره يساعد الدماغ على البقاء في حالة جيدة دائمًا. وبالتالي يكون التأثير إيجابيًا على المرء.
- العطاء: هناك بعض المواد الكيميائية مثل: الأوكسيتوسين والدوبامين، التي يزداد إفرازها أثناء القيام بعمل تطوعي، حيث أنّ سلوكيات العطاء تجعل الإنسان أكثر إيجابية.
كبار السن أكثر سعادة
ربما يفاجئك هذا الأمر، لكن جرب أن تسأل واحدًا من كبار السن عن معنى السعادة، وهل يشعر بها حقًا، واستمع إليه. ستنبهر من كم الرضا والسعادة والتفاؤل عند هؤلاء، لكن لا تتعجب، لقد مضوا أعمارهم بأكملها حتى يستوعبوا معنى السعادة، وكأن أعمارهم عملة نقدية ثمينة دُفعت مُقابل الحصول عليها، من خلال أن تتعرَّف على ذاتك وتقبلها وتستمتع باللحظات السعيدة ولا تؤجلها.
القول سهل، لكن الفعل هو الموقف الحاسم. والفعل هذا يلزم عمرًا طويلًا. وهذا ما أدركه كبار السن، فعرفوا طريق السعادة وعاشوا فيه ما استطاعوا.
لنضع تفسيرًا منطقيًا حول حالة الملكة فيكتوريا، أشهر ملوك بريطانيا في القرن التاسع عشر. في سن مبكرة، عندما كانت أميرة تُوفي والدها، وكانت والدتها تخاف عليها من أقل شيء، فلم تكن تخرج من القصر إلا في ظروف محددة، مما سبَّب لها تعاسة كبيرة.
في هذه الحالة، لا يمكننا القول بأنّ جينات السعادة كانت غائبة عنها، فكما تعرف يا صديقي، لقد عاشت في القرن التاسع عشر، وكان علم الوراثة ما زال يحبو مُدعمًا ببعض النظريات التي وضعها العالم النمساوي ومؤسس علم الوراثة «غريغور يوهان مندل»، فلا نستطيع الكشف عن جينات الملكة التي ماتت منذ ما يزيد عن قرنٍ.
ربما يُخبرنا التاريخ العائلي لها من خلال تتبع سلوكيات الأسرة الحاكمة قبلها، لكن أيضًا لا يمكننا غض الطرف عن دور البيئة المحيطة، حيث أنّ الظروف التي عاشتها فيكتوريا منذ أن كانت أميرة قاسية وتعيسة، وهنا لا عجب من قولها: «لكن شيئًا لم يعجبني».