قطار من الاتهامات: هل أفسد «فيسبوك» حياتنا حقًا؟
لمدة 6 ساعات تعطلت إمبراطورية مارك زوكربيرج للتواصل الاجتماعي، انهار «فيسبوك» و«انستجرام» وتطبيق «واتساب». تسبب العطل في شلل شبه تام للعديد من مناحي الحياة التي تعتمد في جريانها على التواصل عبر تلك التطبيقات بدلًا من الطرق التقليدية كالهاتف والبريد الإلكتروني. كذلك خسرت إمبراطورية مارك قرابة 7 مليارات دولار في تلك الساعات الستة، وخسرت 535 ألف دولار عن كل ساعة كأموال إعلانات كان يجب أن تجنيها تلك التطبيقات.
كشف العطل عن حيوية تلك التطبيقات في حياتنا، لكنّه على الجانب الآخر كشف عن مدى القوة التي يملكها رجل واحد، يمكن المبالغة بالقول إنه بات يحكم العالم حاليًا، ويملك قوة لا يملكها رئيس أو إمبراطور. تلك المبالغة الكلامية يمكن سحبها على أرض الواقع بتتبع الاتهامات التي وُجهت لمارك، ولتطبيق «فيسبوك» خصوصًfالفلا، عن كيفية التلاعب بعقول المستخدمين وتوجيههم لاختيار شخص معين في الانتخابات المحلية أو الرئاسية. كذلك تشجيع خوارزميات «فيسبوك» للمحتوى الداعي للعنف بدلًا من المحتوى المضاد له.
أحدث التسريبات التي تطارد «فيسبوك» هي تسريبات فرانسيس هوجن، 37 عامًا ومديرة إنتاج سابقة في «فيسبوك». فرانسيس كشفت في شهادتها أنه يمكن اعتبار «فيسبوك» شريكًا في الترتيب ودفع الاحتقان لعملية اقتحام الكونجرس الأمريكي. وتقدمت فرانسيس بثماني شكاوى للجنة الأوراق المالية والبورصة، بأن «فيسبوك» تُخفي معلومات بخصوص نقاط ضعف الشبكة وعيوبها عن المستثمرين.
وسرّبت فرانسيس عشرات الآلاف من الوثائق التي تُظهر أن «فيسبوك» على دراية تامة بمشاكل تطبيقاتها على الحياة الاجتماعية، بما في ذلك التأثيرات السلبية لنشر المعلومات المضللة. كما أن إدارة «فيسبوك» تُدرك جيدًا الأثر السام لتطبيق «انستجرام» على الفتيات والمراهقين عمومًا.
مهمة إقناع المستخدم بالبقاء
لقد أصبح مارك وإمبراطوريته تحت ظلال سحابة من القلق الوجودي على مصير تلك الإمبراطورية، ويبدو أن أفضل أيام مارك قد وّلت وعليه أن ينشغل في السنوات المقبلة بالخروج من منطقة الورطة المحصور فيها منذ سنوات. التدهور الحادث لـ«فيسبوك» قد لا يظهر للمتابع من الخارج، وقد لا يحدث في صورة انهيار كامل أو تفكك للمنظومة بالكامل، لكن تقارير المتابعين التقنيين ومقالات المستقيلين من «فيسبوك» تكشف عن هجرة للمواهب خارج «فيسبوك»، ونمو متباطئ بصورة متناهية الصغر لكنها مؤثرة على المدى الطويل.
لهذا نجد في تسريبات فرانسيس أحاديث داخل «فيسبوك» عن قلق الشركة من خسارة القوة، كما تُظهر أبحاث «فيسبوك» أن كثيرًا من تطبيقاتها لم تعد ناجحة بمفردها، وأن الشركة باتت بحاجة لبذل جهود أكبر لتحسين صورتها وإقناع المستخدمين بالبقاء في تلك التطبيقات بدلًا من هجرها للتطبيقات الأكثر أمانًا.
خصوصاً وأن الاتهامات ليست جديدة على «فيسبوك» فقد أقيمت العديد من الدعاوى القضائية على «فيسبوك» منذ لحظة تأسيسه عام 2004 متعلقة بالملكية الفكرية وبسرقته للأكواد الرئيسية للتصميمات وبعض التفاصيل الأخرى. وبعد 12 عامًا من تأسيسه لاحقته فضيحة كبرى قام فيها «فيسبوك» بتسريب بيانات 50 مليون مستخدم لشركة روسية بهدف التلاعب بالانتخابات الأمريكية فيما عُرف بفضيحة كامبريدج أنالتيكا.
تلك الفضيحة وضعت مارك في كرسي الاتهام أمام الكونجرس الأمريكي، وأقرّ بأن شركة كامبريدج أنالتيكا قد حصلت بطريقة غير مشروعة على بيانات 87 مليون مستخدم. الرابط المشترك الذي كشفته تحقيقات الكونجرس أن تلك الملايين غالبيتها مقيمون في الولايات المتحدة الأمريكية، ولهم حق التصويت في الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي جرت بين دونالد ترامب وهيلاري كلينتون. وكانت شركة كامبريدج أنالتيكا تعمل مع حملة ترامب، لهذا أُتهم «فيسبوك» بصنع فوز ترامب على حساب هيلاري.
الإمبراطورية تتمدد
رغم أن العديد من الدعاوى القضائية قد رُفع ضد «فيسبوك» فإن أكثر الدعاوى قلقًا للعالم أجمع كانت الدعوة التي وُجهت له على إثر الاستحواذ على «إنستجرام» و«واتساب». فقد اعتُبر ذلك الاستحواذ طريقةً للهيمنة على كافة بيانات المستخدمين لشبكة الإنترنت. ومنذ تلك اللحظة ودعوات الاحتكار تطارد مارك، وتُطرح تلك النقطة في الكونجرس الأمريكي في كل مرة يتردد فيها اسم «فيسبوك».
اشتعلت تلك الاتهامات مرة أخرى حين استحوذ «فيسبوك» على المحرك البحث الخاص بالصور وردود الأفعال التابعة لمنصة جيفي. وبلغت صفقة الاستحواذ قرابة 400 مليون دولار.
بعد اتهامات الاستحواذ ظهرت اتهامات التجسس على المستخدمين. خصوصاً المستخدمين العرب والفلسطينيين، والشخصيات الفلسطينية البارزة تحديدًا، لصالح الحكومة الإسرائيلية. التجسس جاء في صورة تسريب محتوى تطبيق المراسلة «ماسنجر» الخاص بهم. تلك التسرييات جاءت ضمن اتفاقية معلنة بين «فيسبوك» والكيان الإسرائيلي لمواجهة المضامين التحريضية، وفق وصف الاتفاقية، ضد إسرائيل من شباب المقاومة الفلسطينية، وفق وصف الاتفاقية أيضًا.
ولاحقًا أصبحت تهمة التجسس أعم وأشمل، فبات «فيسبوك» متهمًا بالتجسس على كافة العملاء. كما اتهم بنشر التمييز العنصري، وترسيخ التحيّز السياسي، ونشر إعلانات وهمية. لهذا شهد العالم تحركات دولية قادتها أستراليا من أجل تفكيك الإمبراطورية الاجتماعية. وفتحت لجنة التجارة الفيدرالية الأمريكية تحقيقًا مستمرًا حول «فيسبوك» ونشاطاته وصفقاته. لكن تلك التحركات لم تغير شيئًا في أرض الواقع حتى الآن.
كما واجه «فيسبوك» دعوى قضائية اضطر على إثرها لدفع 650 مليون دولار لـ1.6 مليون مستخدم في ولاية إلينوى الأمريكية، بسبب اتهامات بجمع «فيسبوك» لبيانات بيومترية، التعرف على الوجوه، بشكل غير قانوني، حيث تحظر قوانين الولاية ذلك. استمرت القضية في المحكمة لـ6 سنوات، لكن في النهاية حكمت المحكمة ضد «فيسبوك».
الشيء متاح ونقيضه متوفر
لقد أثر «فيسبوك» في حياتنا بصورة لا يمكن إنكارها، والحديث عن هجر «فيسبوك» أو مقاطعته يُعد أمرًا خياليًا، ليس لأنه إدمان نتعاطاه، بل لأنه صار نافذةً سهلة الفتح على العالم. قد يعيبه أن هذا العالم ليس عالمًا حقيقيًا، ولا حتى كل العالم الافتراضي، بل العالم الافتراضي الذي تختار أنت بناءه، فترى فيه أشخاصًا يفكرون في نفس أفكارك فيبدو الأمر وكأنك محبوس في غرفة فارغة تردد صدى شعورك وأفكارك أنت فحسب، لكن ربما من غير المنطقي في تلك الحالة أن تُلقى اللائمة بالكامل على خوارزميات «فيسبوك».
فـ«فيسبوك» يُقدم الأمر ونقيضه. اجتمعت فتاة بوالدها بعد فراق دام 44 عامًا بعد بحث مضن استغرق سنوات على أرض الواقع لكنه فشل، بينما نجح بحث لمدة يومين على «فيسبوك» بجمعهما. لكن بالطبع أن يصبح بريدك مفتوحًا لأي شخص يرسل رسالة كراهية أمر مزعج.
جامعة تكساس الأمريكية نشرت دراسة عام 2009 تقول إن من بين 2600 طالب تناولتهم التجربة فإن الذين استخدموا «فيسبوك» كانوا أكثر رضًا عن حياتهم بشكل أكبر. ونقلت دراسة أخرى أن النظر للحساب الشخصي لمدة 5 دقائق يُعطي ثقةً بالنفس. لكن دراسة أخرى أجرتها جامعة ميشجين أظهرت أن صور الخطوبة والزواج والرحلات الفاخرة تؤدي إلى شعور الآخرين بأن حياتهم بائسة وتعيسة. اختلفت الدراستان، لكن كليهما واقع، وكلاهما يتفقان في حقيقة أن «فيسبوك» يؤثر في مشاعرنا.
ربما مراجعة المصطلح قد تساعد في الحل، فمنذ ظهور تلك المواقع وتسميتها «الواقع الافتراضي»، أصبحت معزولة عن الواقع الحقيقي المُعاش. لكن الواقع الافتراضي يوشك أن يسحب البساط كاملًا من تحت أقدام الواقع الحقيقي، لدرجة أن يصبح هو الواقع الحقيقي.
لكن الاعتراف بأن «فيسبوك» وما يشابهه ليسوا واقعًا افتراضيًا إنما نافذة مصغرة من الواقع الحقيقي، قد يحل هذا الشعور بالرفض تجاه تلك المواقع، والتعامل معها بمنطق المضطر أو منطق المدمنين. كما قد تساعد معاملة «فيسبوك» باعتباره جزءًا من الواقع الحقيقي بتقليل جرعات التجمّل والكذب فيه، وتقليل الفجوة الهائلة بين الصورة التي يصنعها الإنسان لنفسه فيه وبين حياته الحقيقية. ما يساعد بالتبعية على تقليل شعور الآخر بالتعاسة، أو بأن حياته ليست مثيرةً كحياة الآخرين.