الوعي: هل هو معركة بين ما تعتقده وما تتصوره؟
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
تخيل أنك تحضر عرضًا سحريًّا يختفي فيه المؤدي فجأة، بالطبع أنت تعلم أنه غالبًا يختبئ في مكان ما، ومع ذلك يظل الأمر يبدو لك كأنه اختفى. لا يمكننا التغافل عن هذا المظهر مهما كان ما يمليه العقل؛ فلماذا تكون تجربتنا الواعية بهذا العناد؟
إن حقيقة أن منظورنا للعالم يبدو متصلبًا للغاية مهما فكرنا فيه؛ يخبرنا بشيء فريد عن كيفية عمل عقولنا. قارن سيناريو الساحر هذا بالطريقة التي نتعامل بها عادة مع المعلومات. لنقل إن لديك خمسة أصدقاء يخبرونك أنها تمطر بالخارج، بينما أحد مواقع الأرصاد يخبرك بالعكس. من المحتمل أنك ستعتبر الموقع مخطئًا وتغلقه. لكن عندما يأتي الأمر للتصور الواعي، يبدو كأن هناك صوتًا يخبرنا بعكس ما نراه ونسمعه ونحسه. حتى عندما تكون التجربة الحسية خاطئة بوضوح، لا يمكننا إسكاته.
لم يحدث هذا؟ ألقت التطورات الأخيرة في مجال الذكاء الاصطناعي ضوءًا جديدًا على هذا اللغز. ففي علوم الحاسبات، نعرف أن الشبكات العصبية للتعرف على الأنماط، التي تسمى بنماذج التعلم العميق، يمكنها الاستفادة من عملية تدعى التشفير التنبؤي. بدلًا من استقبال المعلومات من أسفل لأعلى (الاستنتاج: جمع المعلومات ثم الوصول لنتيجة. المترجم) يمكن للشبكات صنع فرضية من الأعلى للأسفل (الاستنباط: الوصول لنتيجة ثم الاستدلال عن المعلومات أو الأسباب. المترجم) بخصوص العالم لمقارنتها بالمشاهدات. تعمل بهذه الطريقة؛ عندما تتعرف الشبكة العصبية على قطة على سبيل المثال، فإنها تطور أولًا نموذجًا يسمح لها بتوقع أو تخيل ما تبدو عليه القطة. ويمكنها بعد ذلك فحص أي معلومات تصلها لترى إن كانت تناسب هذا التوقع أم لا.
المشكلة أنه بينما يمكن لهذه النماذج المولِّدة أن تكون عالية الدقة ما أن تعمل إلا أنها تتطلب عادة كميات هائلة من العلومات ووقتًا كبيرًا لتتدرب عليها.
أحد الحلول هو استخدام الشبكات المولِّدة المتناظرة المشار إليها من قبل رئيس فريق أبحاث الذكاء الاصطناعي لدى فيسبوك يان لي كون بأنها «أروع فكرة في عالم التعلم العميق في العشرين سنة الأخيرة». فباستخدام الشبكات المولِّدة المتناظرة يمكننا تدريب الشبكة (المولد) لتخلق صورًا لقطط تحاكي القطط الحقيقية بأكبر قدر ممكن. ويمكننا تدريب شبكة أخرى (المُمميِز) على التفريق بين صور القطط المرسومة والحقيقية. ويمكننا حينئذ أن نضع الشبكتين أمام بعضهما بحيث يكافأ المستقبِل على معرفة الصور المزيفة بينما يكافأ المولِّد على الصور التي تخدع الآخر. عندما تجهزان للتنافس، تنمو الشبكتان معًا بـدقة فائقة، مثل مزيف للفنون يحاول التفوق على خبير بالفن. يجعل هذا التعلم أكثر كفاءة لكليهما.
مثل الخدعة الهندسية البارعة، تمثل الشبكات المولِّدة المتناظرة تناظرًا مفيدًا لفهم العقل البشري. في أدمغة الثدييات، تخدم الخلايا العصبية المسئولية عن تشفير المعلومات الخاصة بالإدراك الحسي عدة أهداف. على سبيل المثال، الخلايا العصبية التي تتحفز عندما ترى قطة هي نفسها التي تعمل عندما تتخيل أو تتذكر قطة؛ ويمكنها أيضًا أن تنشط أكثر أو أقل بشكل عشوائي. لذا متى ما كان هناك نشاط في دوائرنا العصبية، يحتاج المخ أن يكون قادرًا على تحديد سبب الإشارات، سواء كانت داخلية أم خارجية.
يمكننا أن نسمي هذا التدريب مراقبة الإدراك الحسي الواقعي. جون لوك، الفيلسوف الإنجليزي من القرن السابع عشر، اعتقد أن لدينا عضوًا داخليَّا من نوع ما يؤدي وظيفة المراقبة الحسية الذاتية. لكن نقاد لوك تساءلوا لماذا قد تتجشم الطبيعة الأم عناء خلق عضو كامل منفصل زيادة على نظام مجهز بالفعل لاكتشاف العالم بواسطة الحواس. فمثلًا يجب أن تكون قادرًا على شم شيء قبل أن تقرر إذا ما كان استقبالك له حقيقيًّا أم مزيفًا؛ فلماذا لا تضيف خاصية التأكد في نظام الاستكشاف نفسه؟
برغم حجتهم الذكية، فإنه في ضوء ما نعرفه الآن عن الشبكات المولِّدة المتناظرة تبدو فكرة لوك منطقية جدًّا. لأن نظام إدراكنا الحسي يستعين بمصادر عصبية يعاد استخدام بعض منها مرة أخرى. لذا فإن تخيل قطة ينشئ تمامًا نفس النمط العصبي عند رؤية واحدة. لكن هذا التداخل يشوش الرؤية أكثر بخصوص معنى الإشارات. لذلك، ليعمل مخطط إعادة الاستخدام جيدًا نحتاج إلى مُميِّـــز ليفرق بين رؤيتنا لشيء ومجرد تفكيرنا فيه. تحتاج تلك الشبكات المولِّدة المتناظرة -التي تشبه عضو الإحساس الداخلي- أن تكون موجودة لتعمل كخصم متناظر لتحفز نمو آلية تشفير تنبؤي محكمة.
لو كان هذا التفسير صحيحًا فمن المنطقي القول إن التجربة الواعية مشابهة لنوع من الاستنتاج المنطقي. ذلك أنه لو قررت الإشارة الإدراكية الحسية من المولِّد أن هناك قطة وقرر المُميِّــز أن هذه الإشارة تعكس حقيقة حالة العالم الآن، فسنرى قطة. بالمثل ينطبق الأمر على المشاعر الأولية: فقد نشعر بألم حاد حتى مع معرفتنا الكاملة ألا شيء يوخزنا، ويمكن للمرضى وصف ألم بأطراف تم بترها بالفعل. وما دام المُميِّــز يحصل على الإجابات الصحيحة معظم الوقت فنحن نميل لأن نثق به. لا عجب أنه عندما يوجد تعارض بين انطباعات منطقية وقناعات عقلانية، يكون من المنطقي تصديق ما نختبره بوعينا.
هذا العناد المتعلق بحسنا الإدراكي ليس خاصية للبشر وحدهم، فبعض الرئيسيات تمتلكه أيضًا، كما يتضح لنا في قدرتهم على الاندهاش والاستمتاع بالحيل السحرية. ذلك أنه يبدو لنا أنهم يفهمون وجود تناقض بين ما يرونه وما يعرفون أنه حقيقي. بتوظيف ما فهمناه عن أدمغتهم، تحديدًا أن خلايا الإدراك الحسي العصبية لديهم قابلة لإعادة الاستخدام أيضًا لتعمل من أعلى لأسفل، تقترح نظرية الشبكات المولِّدة المتناظرة أن تلك الحيوانات غير البشرية لديها خبرات واعية لا تختلف عنا.
يبدو مستقبل الذكاء الصناعي أكثر تحديًا. لو صممنا آليًّا يتمتع ببنية شبكات مولدة متناظرة معقدة فهل سيكون واعيًا؟
حسب فروض نظريتنا، سيكون على الأغلب قادرًا على التشفير التنبؤي، واختبار نفس الآلية للإدراك الحسي بينما توظف التوقع أو التخيل من أعلى إلى أسفل. ربما مثل بعض الشبكات المولِّدة الحالية سيتمكن من أن «يحلم»، وقد يكون حتى قادرًا على فهم العروض السحرية، بينما لن يستطيع تفسير شعوره بالألم مثلنا غالبًا.
التنظير عن الوعي معروف بصعوبته، ونحن لا نعرف بعد مما يتكون حقيقة، لذا لن نكون في موقع يسمح لنا بتقرير إذا ما كان الآلي واعيًا أم لا، ولذلك ثانية لا يمكننا فعل هذا بأي درجة من اليقين مع الحيوانات الأخرى أيضًا. على الأقل بتجسيد بعض التخمينات عن آلية الوعي، يمكننا البدء في اختبارها مقارنة بالحدس – والأكثر أهمية بالتجارب، ما نعلمه حقًّا أن وجود نموذج للعقل يتضمن آلية داخلية للشك- أي: نظام يلتقط الهفوات يبحث باستمرار عن الإدراكات الحسية المزيفة والمقلدة- هو واحد من أكثر الأفكار الواعدة التي خرجنا بها حتى الآن.