تعامل الذوق الديني الفطري في صدر الإسلام بحساسية شديدة مع كل مفردة لغوية تهبط بمقام الله أو ترفع من شأن الزعيم، وهو أمر كرّسه القرآن وهم يتربون على مائدته اللغوية والمعنوية، وقد حرصت آياته على تحقيق المسألة حتى في الفصل بين الله تعالى وأنبيائه الكرام، وخاصة في تأليه اليهود لعزير، وتأليه النصارى لعيسى، وهو ما شدّد عليه خاتم الأنبياء محمد (صلى الله عليه وسلم): «لاَ تُطْرُونِي، كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ، وَرَسُولُهُ».

وهو نهج وقف عنده المهاجرون والأنصار، عند اختيار أبي بكر الصديق خليفة، فاعتبروه مجرد خليفة لرسول الله، خلفه في شأن الأمة، وعندما دعت الحاجة لتطوير المسمى بعد وفاة أبي بكر، اصطلحوا على تسميته أميراً للمؤمنين، والإمرة مجرد شأن في إدارة الرعية.

وما أن دار الزمان دورته وصارت الخلافة ملكاً عضوضاً، حتى وقف الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان ليعتبر (السلطان ظل الله في الأرض)[1] وهو يخطب محرضاً على حرب الزبيريين، في وقت شاع في الشام حديث منسوب لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، بهذا الختم السلطاني: «السلطانُ ظِلُّ الله في الأرض، فمَن أكرَمَه أكرمَه اللهُ، ومَن أهانَه أهانه اللهُ»[2]. وكله في سياق تشجيع عقيدة (الجبر) التي ظهرت بالشام نتيجة اليأس من الإصلاح!

وخلاصة عقيدة الجبر، أن الظلم والأثرة والفساد وغير ذلك من الأمور كلها كانت قدراً لا مفر منه، وأن الإنسان قد قدر الله عليه كل شيء على سبيل الإجبار وأن الإنسان مسلوب الإرادة، وأنه لا فائدة في نية التغيير أو الثورة على الحاكم لأن الله قد اختارهم للخلافة، فهم ظل الله في الأرض وهم خلفاؤه على خلقه وأن من نازعهم فسيكبه الله في النار! وهذه العقيدة أريد بها تيئيس الناس من تغيير الحاكم أو محاولة ذلك مستدلين بفشل كل الثورات المتتالية ضد الإستبداد[3].

لتجد هذه التسمية تطبيقها الراسخ، والشيخ يحيى بن أكثم التميمي، يزيّنها للخليفة المأمون[4]، فصار خلفاء بني العباس يعتقدون بالفعل أنهم ظل الله في الأرض، وشيئاً فشيئاً عقد لهذه التسمية فصولاً اتصلت بمبدأ الربوبية في جانب منها في فتاوي ابن تيمية حتى قال فيها:

وَأَمَّا الْحَدِيثُ النَّبَوِيُّ «السُّلْطَانُ ظِلُّ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، يَأْوِي إلَيْهِ كُلُّ ضَعِيفٍ وَمَلْهُوفٍ» وَهَذَا صَحِيحٌ، فَإِنَّ الظِّلَّ مُفْتَقِرٌ إلَى آوٍ… فَالسُّلْطَانُ عَبْدُ اللَّهِ، مَخْلُوقٌ، مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ… إذْ هُوَ ظِلُّ اللَّهِ؛ لَكِنَّ الظِّلَّ تَارَةً يَكُونُ كَامِلًا مَانِعًا مِنْ جَمِيعِ الْأَذَى، وَتَارَةً لَا يَمْنَعُ إلَّا بَعْضَ الْأَذَى، وَأَمَّا إذَا عُدِمَ الظِّلُّ فَسَدَ الْأَمْرُ، كَعَدَمِ سِرِّ الرُّبُوبِيَّةِ الَّتِي بِهَا قِيَامُ الْأُمَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ[5].

ولمّا راجع الشيخ الألباني الأحاديث النبوية في عصرنا الراهن، نجده صحّح رواية من روايات السلطان ظل الله في الأرض، وضعّف أخرى، طبعاً بحسب الإنصياع الجامد للسند، دون النظر للمتن، فصحح رواية: (السلطانُ ظِلُّ الله في الأرض، فمَن أكرَمَه أكرمَه اللهُ، ومَن أهانَه أهانه الله). ولكنه ضعّف رواية: (السلطانُ ظلُّ اللهِ في الأرضِ ، يأوي إليه الضَّعيفُ ، وبهِ ينتَصرُ المظلومُ).

فهل بالفعل السلطان ظل الله في الأرض سواء حلّت الإهانة على من أهانه، أو انتصر به المظلوم؟!

إن العجب كل العجب، أن يتحسس دعاة (التوحيد) من زيارة قبور الأولياء الزهّاد، ومن كل لفظ وقع فيه القسم بمقدسات الله في أرضه، وحكموا بالشرك الأعظم على من وقع في ذلك، بل أصدروا فرامانات التكفير والزندقة وإراقة الدم بحق من تلفظ بالنيّة عامداّ، أو من امتنع عن صلاة الجماعة متقصداً، أو رفض نسبة أفعال السوء إلى الله[6]، ثم جعلوا سلطان الأرض ظل الله، وهم قوم حرّموا التأويل بكل لفظ متصل بالجلالة، حتى أن الألباني مثلاً حكم بالكفر على من أوّل (وجه الله) أنه (ملكه) مجازاً، في تأويل قوله تعالى (كل شيء هالك إلّا وجهه)، وعندما قيل له إن البخاري هو صاحب هذا التأويل، جزم بالتكفير، وقد نفى أن ذلك في صحيح البخاري![7]، والحقيقة أنه ثابت في صحيح البخاري[8].

وحديث السلطان ظل الله في الأرض، منكر متنه في كل رواياته، لا يستسيغه عقل، ولا تقبله عقيدة، فكيف ننزل بذات الله العلّية لهذا الدرك الدنيوي ليتجسد في السلطان، وكل سلطان تنزع نفسه للتألّه على الناس، إلّا ما رحم ربي، والتاريخ كما الواقع خير دليل على ذلك، وقد أفرد القرآن أعظم مساحة من آياته في توهين أمر أعظم سلاطين الأرض؛ فرعون.

وسند هذا الحديث، فضلاً عن متنه وهو الأساس، بين ضعيف أو موضوع، حتى لو نسبه أحد العلماء للبخاري بالخطأ[9]، وهو ليس في البخاري قطعاً، وتوهّم من قال إن السيوطي صحّحه[10]، ولا هو حتى في السنن الأربعة، ولا في مسند أحمد، ولكن أخرجه البزار وابن أبي عاصم، وأجمع أهل الحديث على تضعيفه[11]، لولا ما كان من ابن تيمية، في القرن الثامن الهجري، وقد أقام عليه فصلاً، وكرّره مرات عديدة، دون أدنى مسوّغ علمي أو إسناديّ.

وقد اضطربت أحكام الألباني في عصرنا، مع هذا الحديث الموضوع في حقيقته، فهو لم يكتف بتصحيح الرواية الأكثر ظلماً في رواياته العشر، وتضعيف الأقل ظلماً، بل تناقض في كتبه تناقضاً قلّ مثيله؛ عندما حكم على كل روايات الحديث في غالب كتبه، بالضعف أو الوضع، مشكوراً، ولكنه رحمه الله، عاد فصحّح رواية أبي بكرة في سلسلته الصحيحة، ثم حسّنه في تحقيقه لسنّة ابن أبي عاصم، وعليه فإن رواية أبي بكرة لهذا الحديث عند الألباني؛ ضعيفة في غالب كتبه[12]، صحيحة في واحد من كتبه[13]، حسنة في كتاب منها[14].

والحقيقة أنه حديث موضوع بكل رواياته، فكل أسانيده بين مرسلة، سقط منها اسم الصحابي الراوي، أو مبنية على رواة مجهولي الحال، كحال رواية أبي بكرة، التي تناقض بشأنها الألباني، فسلم بن سعيد، كما زياد بن كسب مجهوليّ الحال[15].

والراجح أن هذا الحديث برمته صناعة إسرائيلية، ابتدعه كعب الأحبار اليهودي المتأسلم، وهو الذي حذّره الفاروق عمر، عندما أسلم في خلافته، وأخذ يسرد الروايات الإسرائيلية، بالقول (لتتركن الأحاديث أو لألحقنك بأرض القردة)[16]، وهدده عوف بن مالك، فاختار بنفسه اللحاق بحمص في الشام حيث استقر هناك حتى وفاته، وقد حثه أمير الشام معاوية بن أبي سفيان، أن يعود للرواية والقصص بعد أن انقطع عنها، وطلب من بقية الصحابة في الشام أن يأخذوا العلم عنه[17]، مع أنه لم يسلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعامة مرويّاته من التراث الإسرائيلي، قائلاً فيه (ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء أن كان عنده لعلم كالثمار وإن كنا فيه لمفرطين)، واعتبره رغم ما ثبت عليه من الكذب، من أصدق أهل الكتاب[18].

واختلاق كعب الأحبار لحديث (السلطان ظل الله في الأرض)، متصل في جوهره بالعقيدة الجبرية التي تسلّلت للمسلمين عبر الروايات الإسرائيلية، إذ إن مجمل التراث الإسرائيلي موغل في الجبريّة، وتقديس الرموز بما يتجاوز الطبيعة البشرية، حتى أن داوود صرع الرب في معتقدهم الأسطوريّ، وهو ما انعكس على تراثنا الإسلاميّ عبر الاختراق الخطير لروايات كعب الأحبار في كتب التفسير والحديث والعقيدة.

وعلاقة كعب الأحبار بهذا الحديث المنسوب لرسول الله، كشفها الدارقطني في كتابه العلل، حيث ترجّح لديه أن منبع هذه الحديث من بنات أفكر كعب الأحبار[19]، وجاء الإسناد الصريح لكعب في رواية البيهقي، بما يؤكد أن مرجع هذا الحديث هو كعب الأحبار[20].

المراجع
  1. حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن سَعْدٍ عَن أَبِي نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: كنت أنا والأسود بْن يَزِيدَ فِي الشرط أيام مصعب، قالوا: ولما أراد عَبْد الْمَلِكِ الشخوص إِلَى الشام خطب النَّاس فعظم عليهم حق السلطان، وَقَالَ لهم هو ظل اللَّه فِي الأرض، وحثهم عَلَى الطاعة والجماعة. البلاذري، أنساب الأشراف ج7ص111.
  2. ابن أبي عاصم، السنة ج2 ص487، 492.
  3. المعتقل الحجازي المحكوم عليه بالإعدام في السجون السعودية؛ حسن بن فرحان المالكي، قراءة في كتب العقائد ص103.
  4. ابن الجوزي، مرآة الزمان ج14 ص186.
  5. ابن تيمية، الفتاوي ج5ص123.
  6. ابن تيمية، الفتاوي ج22ص236. ج2ص279. محمد جرادات، ابن تيمية بين المرجعية وسطوة الدم ص228- 234.
  7. الألباني، موسوعة العقيدة ج6ص325-326.
  8. البخاري، صحيح ج6ص112.
  9. الهروي، مرقاة المفاتيح ج6ص2419.
  10. توهّم ذلك موقع الدرر السنية، البوابة الحديثية، ظل الله في الأرض. Dorar.net. أنظر السيوطي، الجامع الصغير بتحقيق اللألباني ج1ص7092-7096.
  11. أنظر في ذلك خلاصة بحث: صلاح الدين الإدلبي، ظل الله في الأرض، رابطة العلماء السوريين. 8/ 9/ 2014م.
  12. الألباني، السلسلة الضعيفة ج2ص159-162.  ضعيف الجامع الصغير ج1ص491-492.
  13. “السلطان ظل الله في الأرض”. وقد أخرجته فيما يأتي برقم (1661) . ثم وجدت لحديث الترجمة شاهدا من حديث أبي بكرة، فنقلته إلى الصحيحة برقم (2297). الألباني، السلسلة الضعيفة ج3ص660. صهيب عبد الجبار، الجامع الصحيح ج11ص384.
  14. الألباني، تحقيق السنة لابن أبي عاصم والظلال ج2ص492.
  15. الألباني، السلسلة الضعيفة ج4ص160.
  16. قال الأرناؤوط عن سند هذه الرواية، في تحقيقه لسير الذهبي ج2ص601: (وهذا إسناد صحيح …).
  17. بسند حسن عن الطبراني، الكبير ج18 ص76.
  18. البخاري، صحيح ج9ص110. ابن حجر، تهذيب ج8ص439.
  19. الدارقطني، العلل ج12ص138.
  20. البيهقي، شعب الإيمان ج9ص481. انظر في ذلك خلاصة بحث: صلاح الدين الإدلبي، ظل الله في الأرض، رابطة العلماء السوريين. 8/ 9/ 2014م.