الفهم العرفاني للصيام بين الغزالي وابن عربي
العرفان هو ذلك المُنْتَجُ الفكريُّ الذي جاءَ به العُرَفاءُ أو الصوفيَّةُ، فهو يتعلق بالجانب العلمي ليس إلا، أما لفظة «التّصَوُّف»، فإنَّ المُتَبَادَرَ إلى الذهنِ عند ورودها، ليس الجانبَ العلميَّ أو الفكريَّ فحسب، بل تدْخُلُ فيها جوانبُ أخرى عديدة؛ منها الاجتماعيُّ والتَّاريخيُّ وغير ذلك.
في كتابِه «التَّعَرُّف على العلوم الإسلامية»، يُقَسِّمُ مرتضى المطهري العرفانَ إلى قِسْمَيْنِ؛ أولًا: القسم العملي، وهو «عبارة عن ذلك الجانب الذي يُبَيِّنُ العلاقاتِ والواجباتِ المفروضة على الإنسان مع نفسه، ومع العالَم، ومع الله. وهو في هذا القسم مثل علم الأخلاق، أي أنه عِلْم عَمَلِيّ». ثانيًا: القسم النظري، وهو «يرتبط بتفسير الوجود، أي معرفة اللهِ، والعالَم، والإنسان. والعرفان في هذا القسم مثل الفلسفة التي تريد أن تُفَسِّرَ الوجود». ونحن في تناولنا الصيام تناولًا عرفانيًّا، سنرى القِسْمَيْنِ يتداخلانِ مَعًا بين يَدَيِ الغزالي وابن عربي تداخُلًا يغلبُ فيه العملُ النظرَ عند الأول، ويغلبُ فيه النظرُ العملَ عند الثاني.
لكُلِّ آيةٍ ظهر وبطن
لا يفهم المتصوفة النصوصَ فهمًا ظاهريًّا فحسب، بل يرون الفهمَ الظاهريَّ للنصِّ ليس إلا فهمًا للقشرة الخارجية منه، وأن هناك سلسلة من الحقائق والمعاني الكامنة وراء تلك القشرة الخارجية، لذا يحاولون سَبْرَ أغواره، والتعمُّق في ما وراءه، إذ يرى ابن عربي أنَّ على قارئَ القرآن أن يفهم معنى جديدًا في كلِّ مرةٍ يقرأ فيها؛ معنىً لا يتوافق وما تواردَ على ذهنِه من قبل، ولو أنه «أعادَ قِرَاءَةَ آيةٍ من القرآن ثمَّ فهم المعنى نفسَه الذي فهمه في المرَّةِ الأُولى، فإنَّ قراءتَه تكونُ زائفةً، ويكون قد أضاع حقَّ الكلم الإلهي».
يحاولُ الصوفيَّةُ إذن فهمَ القرآن وكأنه وحي جديد يتنزَّل على القلوب، ويخاطب كلَّ واحد فيهم خطابًا مباشرًا، لذا سُمِّيَ هذا النوعُ من التفسيرِ التفسيرَ الإشاريّ، وقد استندوا في تدعيمه وإثباتِه على بعض الآثارِ؛ أظهرها ما رُوِيَ عنِ النبيِّ- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «أُنْزِلَ القرآنُ عَلَى سَبْعَةِ أحرُفٍ، لِكُلِّ آيةٍ مِنْهَا ظَهْرٌ وَبَطْنٌ، وَلِكُلٍّ حَدٌّ وَمَطْلَعٌ».
لا يُنْكِرُ الصوفية ظواهرَ النصوص حتى وإن استغرقوا في بواطنها، بل يرون ضرورة الجمع بين الظواهر والبواطن؛ يشرحُ ابنُ عربي ذلك، مُفَرِّقًا بين طريقة الصوفيةِ في الفهم الجامع بين هذين الشِّقَّيْنِ، وطريقة الباطنيَّةِ الذين لا يلقون للظواهر بالًا، ويقولون إنها ليستْ مرادةً في ذاتها، إنما المرادُ بواطنها ودواخلها ليس إلا، يقول:
يفهم الصوفية إذن النصَّ في ظاهرِه وباطنِهِ على اختلاف بينهم في نوع الفهمِ، ودَّرَجته، ومَشْرَبِهِ، وذوقِه، وقد سُمِّيَ تفسيرُهم هذا التفسير الإشاري؛ تمييزًا له عن التفسير بالمأثور، والتفسير بالرأي. في كتابه «مناهل العرفان»، يُقَسِّمُ الزرقانيُّ التفسيرَ هذا التقسيم الثلاثيّ؛ فأولًا يأتي التفسير بالمأثور؛ وهو ما جاء في القرآن، أو السنة، أو كلام الصحابة بيانًا لمراد الله، وثانيًا يأتي التفسير بالرأي؛ وهو ما كان عن اجتهادٍ مُعْتَمَدًا فيه على أقوال الرسول والصحابة، ومُطْلَقِ اللغة، وما يقتضيه الكلامُ ويدلُّ عليه الشرعُ، أما التفسير بالإشارة، فيأتي في القسم الثالث؛ ومعناه تأويل القرآنِ بغير ظاهرِه لإشارةٍ خَفِيَّةٍ تظهرُ لأرباب السلوكِ والتَّصَوُّف، ويمكن الجمع بينها وبين الظاهرِ المُرَادِ أيضًا، إذ ليستْ إلَّا إشارات، ومعانٍ، ومواجيد، ترد على قلوبهم عند تلاوة القرآن وتدبُّرِه.
التَّأويل الإشاريّ بين القشيريّ ورُوزْبَهَان
سنحاول هنا ضربَ مِثَالَيْنِ للكيفية التي تناول بها الصوفيَّةُ هذه الآيةَ الكريمة تناوُلًا إشاريًّا عند اثنين من المتصوفة؛ هما أبو القاسمِ القشيري «توفي 465 هـ»، صاحب «الرسالة القشيرية» المشهورة، وروزبهان البقلي الشيرازي «توفي 666 هـ»، لنرى تفسير القشيري وإنْ كان إشاريًّا يتوسَّل المعنى الباطنيَّ للنص، إلا أنه قريب إلى روح الظاهرِ منه إلى الباطن، ولنرى أيضًا نوعَ استغراقٍ لروزبهان في علم الباطن، وضلوعه فيه.
في تفسيرِه «لطائف الإشارات»، يفسِّرُ القشيريُّ الآيةَ السالفة بقوله: «رمضان يُرْمِضُ ذنوبَ قوم، ويُرْمِضُ رُسُومَ قوم، وشتَّان بين من تحرِق ذنوبَه رحمتُه، وبين من تحرِق رسومَه حقيقتُه. شهر رمضان شهر مُفَاتَحَةِ الخطاب، شهر إنزال الكتاب، شهر حصول الثواب، شهر التقريب والإيجاب، شهر تخفيف الكُلْفَة، شهر تحقيق الزُّلْفَة، شهر نزول الرحمَة، شهر وفور النِّعمَة، شهر النَّجاة، شهر المناجاة»، وعندما فهِمَ قولَه: «وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ» فَهْمًا إشاريًّا قال: «لتُقْرِنُوا بصفاءِ الحالِ وفاءَ المَآل»، أما قوله: «وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ »، فيعني: «في النَّفَسِ الأخير، وتَخْرُجُوا من مُدَّةِ عمركم بسلامة إيمانكم. والتوفيقُ في أن تُكمل صومَ شهرِكَ عظيم، لكنَّ تحقيقَ أنَّه يختم عمرَك بالسعادةِ أعظمُ».
وإذا انتقلنا إلى روزبهان، نراه في تفسيرِه الموسوم «عرائس البيان في حقائق القرآن»، يقول في تأويله الإشاريّ لهذه الآية: «شهر فيه احتراقُ أكباد أهل العَيَانِ من شوقِ مُشاهَدَةِ الرحمن، لذلك أُنْزِلَ فيه القرآنُ، لرقَّةِ قلوب المُخَاطَبين من نيرانِ المُجَاهَدات، وكَشْفِ أنوار المُشَاهَدَات»، أما قوله: «فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ»، فيعني: «من حضرَ فيه مقامَ الطَّلَب؛ فليفْطِمْ نفسَهُ عن رضاع الطبيعة لمقام الطرب، وأيضًا [فلينفطم] عن الشراب والطعام والشراب، ومن شَهِدَنِي؛ فليصُمْهُ عن المخالفات والآثام، قال الواسطي: ومن شَهِدَنِي، وشاهدَ أمري؛ فليَصُمْ أوقاتَه كلَّها عن المخالفات، ومن شهد الشهرَ على رؤيةِ التَّعظيم؛ فليُمْسِكْ فيه عن اللَّغْوِ واللَّهْو، ومن شهد على رؤيةِ فعلِه وصومِه؛ فليس لله حاجة في ترْكِ طعامِه وشرابه».
والآن، بعد أن بيَّنَّا معنى العرفان، وأوضحنا التأويلَ الظاهر والباطن لشيء من آياتِ الصيام، ونزوع المتصوفة نحو الثاني منه وإن لم ينكروا الأول، وضربنا على ذلك بمثالَين، فلنبسط- قبل الخوض في عالَمَي الغزالي وابن عربي- بساطًا عَطَائيًّا نَتَلَمَّسُ به طريقَنا؛ ما الذي يمكن أنْ يضيفه إلينا الحكيمُ الصوفيُّ ابنُ عطاء الله السكندريّ «توفي 709 هـ» في هذا المَيدان؟!
ابن عطاء الله: الخروج عن الأوصاف
لعلَّ ابنَ عطاء الله في حكمته السابقة يُلَخِّصُ الفلسفةَ الصوفية في كلماتٍ قليلة جامعة، فعلى السَّالِك أَنْ يُنَقِّبَ في نفسه ويعرفَ ذاتَه معرفةً حقيقيةً من أجل تطهيرِها وتنظيفِها عن كلِّ ما لا يليقُ بعابدٍ في طريقه إلى الله، إذ عليه الانخلاع عن كل صفة تركَّبَتْ فيه طَبْعًا أو كَسْبًا؛ تناقضُ كونَه عبدًا لربِّ العالَمين، عليه تحرير نفسه منها، لأنها قَيْدٌ يحجبه عن تَلَقِّي الفيوضاتِ الإلهيَّة، والتَّشَبُّهِ بِأخلاقِ ربِّ البَرِيَّة.
في كتابه «الدرر الجوهرية»، يشرح المناوي هذه الحكمةَ، فيرى الخروجَ عن أوصافِ البشريَّة يعني انصرافًا عن «العوائدِ البهيميَّة، والشَّهواتِ النفسانية»، ولعلَّ المعنى ينجلي أكثر مع البوطي في قوله: «إنه يقول: انظر إلى ما رُكِّبَ فيكَ من أوصافِ البشريَّةِ، وتَبَيَّنْ كلَّ ما لا يَتَّفِقُ مع عبوديَّتِكَ لله منها؛ فابتعدْ عنه وأَخْرِجْ نفسك منه؛ أي أَبْعِدْ ذاتِكَ عنه»، إذ يستحيل أَنْ تُدْنِيَ «طاعاتُ [العبدِ] وعباداتُه من حَضْرَةِ الحَقِّ، إِنْ بَقِيَ مُثْقَلًا بِتِلْكَ الصِّفَاتِ التي تتعارضُ مع عبوديَّتِهِ لله تعالَى».
قَدَّمْتُ بالحكمة العَطَائِيَّة هُنا، لأنَّها داخلة في معنى حديثنا، فمن الأوصاف البشريَّةِ التي فُطِرَ عليها الإنسانُ حاجتُه إلى الطعام والشراب، وقضاءُ شهوته الجنسيَّة، من أجل استقامةِ حياتِه الخاصّة وبقاءِ النَّوع الإنساني، ولا ضيرَ عليه في تلبيةِ مطالِبه الحسِّيَّةِ، لأنه لم يُخْلَقْ روحًا خالِصَةً، وإنما خُلِقَتْ روحُه مُمْتَزِجَةً بالمادَّةِ ذاتِ الأوْطار، والتي إذا ما تجاهلَها الإنسانُ بالكلِّيَّةِ يفنى ويهلَك، لذا نرى العُرَفَاءَ والسَّالِكين لا يتناولونَ منها إلا بالقَدْرِ الذي تقوم به حيواتُهم، وفي الحديث: «ما ملأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا من بَطْنِهِ، حَسْبُ ابنِ آدمَ لُقَيْمَاتٍ يُقِمْنَ صُلْبَهُ».
الغزالي: البطن ينبوعُ الشهوات
في كتابه «إحياء علوم الدين»، عَدَّ الغزاليُّ «توفي 505 هـ» شهوةَ البطنِ أعظمَ المهلكاتِ لابن آدم، إذ تَتْبَعُها شهوةُ الفَرْجِ وتَتَقَوَّى بها، ويصيرُ معها الإنسانُ شَبِقًا إلى المنكوحات، مُنسَاقًا إلى الدنيا بكُلِّه، طالبًا المالَ والجاهَ حتى يتمكَّنَ من التَّوسُّع في المنكوحات والمأكولات، ومن ثَمّ يتهافتُ تهافُتًا زائدًا على الأمور الدنيوية مُتَوَسِّلًا بها حاجاتِه الماديَّة، وحينئذٍ لا يسلم له طريق إلا وهو غَاصٌّ بأنواعٍ من التَّحاقُد والتَّباغُضِ وضُروبِ المنافسات، فينشغل عن آخرتِه بدنياه، وينخلع عن روحه إلى مادَّتِه، ويصير عبدًا خالصًا، لا لله، ولكن لشهواته المطلوقة، ورغائبِه المُسْتَبِدَّة، وهل أخرجَ آدمَ وحواءَ من دار القرار إلى دار الذُّلِّ والافتقارِ إلا شهوةُ البطن؟
ولعلَّ تلك المعاني هي ما دعتِ السُّهْرَوَرْديَّ «توفي 586 هـ» إلى القول بامتناع المعاني الإشراقيَّة المَبْثُوثَة في ثنايا كتابه «حكمة الإشراق» على أصحابِ الشبع والامتلاء، وأنْ يوصي بحفظِ كتابه، وصونه عن غير أهله. يقول في الفقرة التَّاسِعَة والسبعين بعد المائتَيْنِ: «وقبل الشروع، يرتاضُ [قارئ الكتاب] أربعينَ يومًا، تاركًا للحوم الحيوانات، مُقَلِّلًا الطعامَ والشَّرَاب، مُنْقَطِعًا إلى تَأَمُّلِ نور الله»، وقد وردَ عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قوله: «أَدِيمُوا قَرْعَ بابِ الجَنَّةِ بالجوع».
وللجوع فوائدُ عديدة عند الغزالي؛ فأعظم فوائدِها كسر شهواتِ المعاصي، والاستيلاء على النَّفسِ الأمارة بالسوء. ومنها صفاء القلب، وإيقاد القريحة، وإنفاذ البصيرة، ومنها رِقَّةُ القلب وصفاؤُه الذي به يتَهيَّأُ إدراك لذَّةِ المُثَابَرَةِ والتَّأَثُّر بالذِّكْر. ومنها الانكسار، والذلّ، وزوال البطر والأشر الذي هو مبدأ الطغيانِ والغفلة عن الله. ومنها ألا ينسى الإنسانُ بلاءَ الله وعذابَه، ولا ينسى أهل البلاء؛ فإنَّ الشبعانَ ينسى الجائعَ. ومنها دَفْعُ النَّومِ ودوام السَّهَر. ومنها تيسير المواظبة على العبادة. ومنها الاستفادة من قلة الأكل ودَفْعِ الأمراضِ، فإن سببها كثرة الأكل. ومنها خِفَّةُ المؤونة، فإنَّ من تَعَوَّدَ قِلَّةَ الأكل كفاهُ من المال قَدْر يسير. ومنها التمكُّن من الإيثار والتَّصَدُّق بما فضَلَ من الأطعمة على اليتامى والمساكين.
إن الصيام الحقيقيَّ من وجهة نظر الغزالي ليس مُجَرَّدَ الامتناع عن شَهْوَتَي البطن والفرج، ولكنَّ الصيامَ امتناع على مستوياتٍ غير ذلك. يرى الغزالي الصومَ ثلاثُ درجاتٍ؛ صوم العموم، وهو كفُّ البَطْنِ والفرج عن قضاءِ الشهوة، وصوم الخصوص، وهو كَفُّ السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام، وصوم خصوص الخصوص، وهو صوم القلب عن الهمومِ الدَّنِيَّة، وكَفّه عمَّا سوى الله.
يحصل الفطر في صوم العموم بتناول إحدى الشَّهوَتَيْنِ، أما في صوم الخصوص، فيحصل بارتكاب آثام اللسان أو الجوارح، وبالاستكثار من الطعام والشراب وقت الإفطار، وعدم تعلُّق القلب بالخوف والرجاء بعد الإفطار، أما في صوم خصوصِ الخصوصِ، فيحصل الفطر فيه بمُجَرَّدِ الفكرِ فيما سوى الله واليوم الآخر، وبالفكر في الدنيا، اللهمَّ إلا دنيا تُرَادُ للدين. ومن أجلِ توضيح مرادِه، ينقل الغزالي عن بعض العلماء قولَهم: «كم من صائم مُفطر، وكم من مُفطر صائم. والمُفطر الصائم هو الذي يحفظ جوارحه عن الآثام، ويأكل ويشرب، والصائم المُفطر هو الذي يجوع ويعطش ويطلق جوارحه».
ابن عربي: التَّخَلُّق بأخلاق الله
في كتابه «الفتوحات المكية»، يُورِدُ ابن عربي حديثَ «كلُّ عملِ ابن آدمَ له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به»، للقول بأنَّ الصيامَ حكم مضاف إلى الله، إذ لم يقل إنَّ الصيام للإنسان، وإنما عَرَّاهُ عنه، وكان الصيام عنده ترْك لا عمل عند التحقيق، وإطلاقُ العمل عليه فيه تَجَوُّزٌ، وليس له مثيل بين العباداتِ التي شرعها الحقُّ، ومن أجل ذلك شابهتْ هذه العبادةُ في تَفَرُّدِها الحقَّ الذي لا نظيرَ له، و«لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» في الوجود، وما جاء في الحديث من فرحة الصائم بصومه إذا لقِيَ رَّبه دليل على هذا المعنى، إذ يفرح في الحقيقة بدرجةِ نفيِ المُمَاثَلَةِ التي حصَّلَها مُدَّة صيامِه.
يُشابهُ ابنُ عربي الغزاليَّ في أنه لا يرى الصيام على درجة واحدةٍ، بل يرى أعلاه عندما يتخَلَّق فيه العبدُ بصفةٍ إلهيَّةٍ؛ وهي الصَّمَدِيَّةُ هنا، ويتحقَّق بها على قدر الطاقة البشرية، ويعني هذا التخلُّق كمالًا إنسانيًّا على الأرضِ، وتشَبُّهًا بالحق الذي جُعِلَ الإنسانُ مخلوقًا على صورته، وهذا ما يسمِّيه ابنُ سينا بالتَّأَلُّه. تعني صفةُ الصمدية التَّنَزُّهَ المُطلقَ عن الغذاء والشراب، وليس لأحدٍ غير الله، أما وصف الإنسان به فيكون على جهة التقييد لا الإطلاق عندما يتخفَّفُ من أعباء مُتَطَلَّبَاتِ نفسِه الحيوانية، ويلتزم بالمطالِب الإلهيَّةِ.
ولابن عربي معنى طريف هنا في من أفطر ناسيًا في رمضان؛ أنَّ الله هو من أنساهُ غَيْرَةً، فأقامه في مُقَام وحالة يُفسد بها صومَه، ليخبره بأنَّ طلاقة الصمديَّة لا تكون إلا له، وأنه مهما بلغ فيها من مبلغ، فهو مُتَّصِف بها على التقييد ليس إلا، يقول: «والعبد إنما يصوم مُسْتَسْلِفًا ذلك، لأنَّ الصَمَدِيَّةَ ليستْ له، والصومُ صمدانيَّةً فهو لله، لا له»، وتلك أيضًا حكمةُ إنْ كان الصيام محدودًا بمدَّةٍ معيَّنة خلال اليوم والسنة؛ لأن الإنسان مقدور عليه أن يعود لمقتضيات البشرية كما يرى عبد الكريم الجيلي.
إن السرَّ وراء الصيام المُرادُ تحصيلُه حقًّا لا يعني مجرد امتناع، بل أن يكونَ العبدُ قريبًا إلى الله عن طريق التَّخَلُّق بالصِّفَه الصمدانيَّة، «فإنه في عبادةٍ لا مثلَ لها، فَقَرُبَ بها من صفةِ ليس كمثله شيء»، فإن الكفَّ عن استعمال مُقْتَضَيَاتِ البشريَّة مُظْهِر للصفاتِ الإلهية، ولهذا يرى الغزاليُّ مجرد الامتناع الظاهريّ عن شهوتَي البطن والفرج يُصَحِّحُ الصيام ويجعله مقبولًا عند فقهاء الظاهر، أما أهل الآخرة «فيعنون بالصحة والقبول الوصول إلى المقصود، ويفهمون أن المقصودَ من الصوم التخلُّق بخلِق من أخلاق الله وهو الصمدية».
- التَّعَرُّف على العلوم الإسلامية «العرفان»، تأليف: مرتضى مطهري، ترجمة: عباس نور الدين، دار المحجة البيضاء – دار الرسول الأكرم، الطبعة الثانية 2002.
- ابن عربي، موسوعة ستانفورد للفلسفة، تأليف: ويليام تشيتيك، ترجمة: عبد العاطي طلبة، مجلة حكمة.
- الفتوحات المكية، ابن عربي، دار صادر، قرأه وقدم له: نواف الجرَّاح.
- مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، حقَّقه: فواز أحمد زمرلي، الجزء الثاني، دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى 1995.
- لطائف الإشارات، أبو القاسم القشيري، الجزء الأول، دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية 2007.
- عرائس البيان في حقائق القرآن، روزبهان البقلي، تحقيق: أحمد فريد المزيدي، الجزء الأول، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 2008.
- نصوص الحكم العطائية، شرح الحكم العطائيَّة، ابن عبَّاد النَّفَزِي الرُّنْدِي، دراسة: محمد عبد المقصود هيكل، مراجعة: عبد الصبور شاهين، مركز الأهرام للترجمة والنشر، الطبعة الأولى 1988.
- الدرر الجوهرية في شرح الحكم العطائية، عبد الرؤوف المناوي، تحقيق: فتحي عطية بدوي، تقديم: محمد يونس عبد العال، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2012.
- الحكم العطائية «شرح وتحليل»، محمد سعيد رمضان البوطي، الجزء الثاني، دار الفكر المعاصر 2003.
- إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، دار ابن حزم، الطبعة الأولى 2005.
- حكمة الإشراق، شهاب الدين السهروردي، مراجعة وتقديم: إنعام حيدورة، دار المعارف الحكمية 2010.
- بداية الهداية، أبو حامد الغزالي، دار المنهاج، الطبعة الأولى 2004.
- عبد الكريم الجيلي فيلسوف الصوفية، يوسف زيدان، دار نون للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2018.
- التعرف لمذهب أهل التصوف، الكلاباذي، مكتبة الخانجي، الطبعة الثانية 1994.