انتهت الانتخابات العراقية 2021 بالنتيجة التي تفضلها مرجعية النجف بقيادة آية الله علي السيستاني، بعدما تلقت التيارات السياسية المتحالفة مع إيران هزيمة تفوق كل التوقعات، فيما يخص توزيع المقاعد.

توسعت التحليلات الغربية في تفسير النتائج باعتبارها هزيمة مدوية للتيار الموالي لقائد الثورة الإسلامية في إيران، لكن النتائج نفسها تحمل إشارة مهمة؛ فتلك التيارات فازت بأكبر عدد من الأصوات، وإن فشلت في ترجمتها إلى مقاعد أكثر في مجلس النواب الجديد.

الموالون لطهران حصدوا تلك الأصوات رغم تدخل مرجعية النجف في اللحظات الأخيرة لحث أتباعها على تكثيف المشاركة في الانتخابات، بعدما بدا أن الاتجاه يسود نحو المقاطعة، بما يعني أن النتائج كان يمكن أن تتجه لمسار مختلف، لولا هذا التوجيه.

بعد إعلان النتائج حشدت الميليشيات المتحالفة مع إيران أنصارها في احتجاجات شعبية شهدت حصيلة قتلى وإصابات مرشحة للارتفاع، بعد أول احتجاج عنيف واشتباكات بين القوات الحكومية والمتظاهرين. لكن الأخطر من ضغط الشارع أن تتجه الأمور نحو مزيد من العنف إذا قررت الميليشيات إدخال السلاح إلى المعادلة لتحسين شروط التفاوض على التوزيعة السياسية في الفترة المقبلة.

أهم نتائج الانتخابات العراقية رقميًّا

كل الأرقام كانت مفاجئة في الانتخابات العراقية 2021، السادسة منذ الغزو الأمريكي 2003. 

بداية، سجلت الانتخابات انخفاض نسب التصويت إلى 36% وفق الأرقام الرسمية؛ أي أدنى مستوى مسجل منذ 2003، وهو ما اعتبره مراقبون مؤشرًا على خيبة أمل أصابت العديد من العراقيين من النظام السياسي الذي يرسخ ما يعتبرونه «النخبة السياسية الفاسدة» على حسابهم.

بعد ذلك، تصدر تيار مقتدى الصدر القوى الفائزة في الانتخابات العراقية بحصده 73 من إجمالي 329 مقعدًا، يليه في المركز الثاني الذي أسسه رئيس البرلمان السابق، السني محمد الحلبوسي بـ37 مقعدًا، متقدمًا على ائتلاف دولة القانون الشيعي الذي يقوده رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، قبل أن يأتي أكبر الأحزاب الكردية «الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يقوده مسعود برزاني رابعًا بـ 33 مقعدًا، ثم يظهر تحالف الفتح الذي يمثل ميليشيات الحشد الشعبي الشيعية في المركز الخامس بـ 17 مقعدًا فقط.

للمقارنة، تيار مقتدى الصدر كان يملك 54 مقعدًا في 2018. بينما كان تيار الفتح يهيمن على 48 مقعدًا في البرلمان المنتهية ولايته.

قوائم أكبر الخاسرين شملت أيضًا تحالف «قوى الدولة» برئاسة رئيس الحكومة السابق حيدر العبادي الذي حصد 4 مقاعد فقط بدلًا من 42 في البرلمان السابق، و«تيار الحكمة» بزعامة رجل الدين الشيعي عمار الحكيم، الذي حصد أيضًا 4 نواب فقط بدلًا من 19 نائبًا في البرلمان المنتهية ولايته.

حركة «امتداد» التي تقول إنها منبثقة من حركة الاحتجاجات الشبابية فازت بـ 10 مقاعد، لكن إجمالي عدد الفائزين المحسوبين على «احتجاجات تشرين» ربما يتجاوز 25 مقعدًا.

الميليشيات لم تسقط شعبيًّا!

سيفهم من النتيجة المجردة أن تيار مقتدى الصدر رفع شعبيته، مقابل تراجع دعم ميليشيات الحشد الشعبي. لكن إجمالي الأصوات يكشف جانبًا مختلفًا من القصة؛ إذ حاز تيار الفتح رقميًّا أصواتًا أكثر (670 ألف صوت) بينما حاز تيار مقتدى الصدر 650 ألفًا، لكن الصدريين ترجموا تلك الأصوات الأقل إلى مقاعد أكثر. 

يسلط التناقض الضوء على جانب رئيسي من قانون الانتخابات الجديد 2019 الذي جرى تفعيله في الانتخابات العراقية الأخيرة.

الانتخابات العراقية اعتمدت على نظام صوت واحد غير قابل للتحويل (SNTV) الذي قسم العراق إلى 83 دائرة انتخابية، توزع على عدد المحافظات وبحسب نسبها السكانية، ويقضي بمنح كل ناخب صوتًا واحدًا يعطيه لمرشح واحد ضمن الدائرة الانتخابية، ليفوز المرشحون الذين فازوا بأكبر عدد من الأصوات الفردية.

هذا بالدرجة الأولى عزَّز حظوظ المرشحين المستقلين والكتل السياسية الصغيرة نسبيًّا، وبدرجة أخرى، أهدر الكثير من الأصوات التي كان يعاد توزيعها للأحزاب الفائزة في ظل الأنظمة الانتخابية القديمة للتمثيل النسبي للقائمة المفتوحة أو المغلقة.

مثال: في النظام القديم، إذا حصل المرشح (أ) على 10,000 صوت، وكان يحتاج 5,000 صوت فقط للفوز، كانت الـ 5,000 المتبقية تذهب لضمان انتخاب المرشح (ب) من نفس تياره. أما في النموذج الذي طبق في الانتخابات العراقية الأخيرة، فبقيت الـ 10,000 صوت مع المرشح (أ) بما أهدر كل الأصوات المتبقية التي أهلته للفوز، بينما ذهب المقعد (ب) إلى ثاني المرشحين الأكثر جمعًا للأصوات.

خروج النتائج بهذه الصورة تشير إلى مدى تخطيط وتماسك الآلة الانتخابية الصدرية، مقابل فشل ميليشيات تيار الفتح في فهم الهيكل الذي وافقوا عليه بأنفسهم في مجلس النواب العراقي.

فبينما استوعب الصدريون النظام الجديد بفاعلية، وقاسوا بدقة مستويات الدعم المتوقع في كل دائرة، ثم رشحوا العدد الأمثل من المرشحين، وأقنعوا أصواتهم بتوزيع الأصوات بالتساوي بينهم، دفع تيار الفتح بعدة مرشحين من نفس الائتلاف في نفس المنطقة بما يساوي عدد المقاعد المخصصة، بما وضعهم في خطر عدم حصول أي منهم على الأصوات الكافية لضمان المقاعد.

باختصار، ركز تيار الفتح على جمع أكبر عدد من الأصوات، بينما أدار التيار الصدري العملية الانتخابية للتركيز على ضمان أكبر عدد من المقاعد بأقل عدد ممكن من الأصوات.

هذا حدث مثلًا في دائرة القادسية الأولى حيث تقدم الصدريون بمرشح واحد فقط فاز بأكبر عدد من الأصوات، ومرشحة واحدة فقط فازت بمقعد الكوتة النسائية، بينما تقدمت أحزاب أخرى بعدة مرشحين فلم يفز أي منهم.

ورطة الحشد الشعبي

التيار الصدري متواطئ أيضًا في انتهاكات حقوق الإنسان تقريبًا كالحشد الشعبي. لكنه اعتمد على عقود من الدعم للمحتاجين والمحرومين، وهو الإرث الذي سبق انتقالهم إلى التمرد في أعقاب غزو 2003. لذلك عندما قرر مقتدى الصدر تنحية السلاح، كانت البنية التحتية لتياره كقوة اجتماعية وسياسية موجودة بالفعل.

بالمقابل، فقدت قوات الحشد الشعبي القوى التي كانت تملك الأرضية الاجتماعية والسياسية بعد انسحاب الفصائل التي لم تكن متحالفة مع إيران بإيعاز من آية الله علي السيستاني في 2020. بالتالي، لا يملك تيار الفتح قوة سياسية متماسكة أو حركة اجتماعية لإدارة حالة ما بعد اضطراب الهزيمة الانتخابية. وهذا سيترك أثره على المشهد القريب في العراق؛ باعتبار أنها باتت تواجه تحديات وجودية.

المعضلة ستتعقد لو نجح تيار مقتدى الصدر في تشكيل تحالف أقليات مع السنة والأكراد لتشكيل حكومة تتجاوز حلفاء إيران. هذا يعني مبدئيًّا أن البرلمان الجديد سيحرم الحشد الشعبي من ميزانية 2.6 مليار دولار مخصصة له كقوة مساعدة مُصدَّق عليها من الدولة، بما يعني بالتبعية فقدان شبكات المحسوبية وتقلص القدرة على حشد المقاتلين، وبالتالي يفرض ضغوطًا إضافية على مالية إيران وقدرتها على الحفاظ على شبكة ميليشياتها في العراق.

تشكيل الحكومة

بهذه المعادلة، يفترض مراقبون أن نتائج الانتخابات العراقية لن تكون العامل الوحيد الذي يؤثر على عملية تشكيل الحكومة المقبلة؛ إذ سيراهن تيار الفتح على رأس ماله العسكري لتعويض خسارة رأس المال السياسي، وانتزاع تأثير أكبر في تشكيل الحكومة مما يوحي به عدد مقاعده، اعتمادًا على سلاح ميليشيات الحشد الشعبي، التي تضم 150 ألف مسلح، وشبكة المصالح التي بنتها منذ انخرطت في القتال ضد داعش.

هذه الشبكة تضم علاقات متشعبة بالوزارات والمؤسسات الحكومية، وإمبراطورية اقتصادية عملت على توليد إيرادات من خزائن الدولة وكذلك من نقاط التفتيش والجمارك وأجزاء أخرى مما يسمى «الاقتصاد غير الرسمي»، والعلاقات التكافلية مع الأجهزة الأمنية وحتى الأحزاب العراقية الأخرى التي قد تبدو على السطح معارضة أيديولوجيًّا أو سياسيًّا لقوات الحشد الشعبي.

وكقوة أمنية معترف بها من قبل الحكومة، يسيطر أعضاء الحشد الشعبي حاليًّا على أراضٍ ومناطق استراتيجية مهمة في العراق، إلى حد كبير بالتعاون مع سلطات أمن الدولة الأخرى.

والأهم، أن غالبية قادة الحشد الشعبي هم أنفسهم العمود الفقري للجهاز الإداري والأمني في الدولة العراقية نفسها، وحتى قيادة قوات تأمين المنطقة الخضراء.

فوق كل ذلك، يحجز الحشد الشعبي نصيبًا مهمًّا فيما يعرض بـ«شبكة الوسطاء / السماسرة» التي تدير الصفقات السرية لتعيين كبار موظفي الخدمة المدنية، وبينهم رئيس الحكومة نفسه. هذه الشبكة جزء من تحالف يضم قادة شيعة وسنة وأكرادًا يفترض أنهم معادون للحشد الشعبي علنًا، لكنهم استفادوا مما وفرته الميليشيات من التعيينات في القطاع العام، وبينها 5,000 وظيفة مما يعرف بـ «الدرجات الخاصة».

رغم ذلك، يحاول مقتدى الصدر أن يشكل حكومة أغلبية تستثني حلفاء إيران. قطع الخطوة الأولى بهذا الخصوص بزيارة مكتب الحلوسي، في أول زيارة بهذا المستوى من زعيم شيعي إلى زعيم سني منذ 2003. لكن نجاح تلك الجهود يتطلب التغلب على كل التعقيدات التي شرحناها.