اجتماع في حارة مظلمة، لقاء خاطف في مركز تسوق، حفلة عيد ميلاد تُقام خصيصًا كغطاء للقاء الطرفين، رحلة صيد يُرتب لها ليلتقي طرفا العملية مصادفةً فيها. المشاهد السابقة تراها مشاهد سينمائية للقاء تقليدي بين مجموعةٍ من الجواسيس أو جاسوس ورجل المخابرات المسئول عنه. لكنّ الوثائق التي كشفنها لنا جريدة «نيويورك تايمز» بالتعاون مع  موقع  «ذي إنترسبت» الأميركي تخبرنا أن تلك قصص تجسس واقعية رغم أنّها تبدو جزءًا من روايةٍ مُتقنة عن الجاسوسية. يكتمل المشهد الروائي بكلمات المجهول الذيّ سرب تلك الوثائق، إذ تنقل عنه الجريدة رفضه ذكر اسمه واكتفاءه بالقول، إنّ المهم أن يعرف العالم ماذا تفعل إيران بالعراق.

أبرز الأسماء التي تذكرها أكثر من 700 وثيقة مُسربة هو الجنرال قاسم سليماني، قائد فيّلق القدس من الحرس الثوري الإيراني. يخبرنا «ذي إنترسبت» أن سليماني زار العراق منتصف أكتوبر/ تشرين الأول 2019. الزيارة هدفها هو استعادة النظام للعراق الذي تغمره مظاهراتٌ غاضبة منذ عدة أسابيع. سُليماني جاء لا ليُحقق مطالب المتظاهرين بل ليُبقي على الوضع الذي يرفضونه. فالمتظاهرون يطالبون بالإطاحة برئيس الوزراء عادل عبدالمهدي، كما يطالبون بالخروج من الدوران في الفلك الإيراني. فقد هاجموا القنصلية الإيرانية، وأحرقوا أعلام إيران في أنحاء متفرقة من العراق.

لم تكن تلك زيارة سليماني الأولى، ولا الرغبة الإيرانية في استمرار عبدالمهدي وليدة اللحظة. فالوئاثق تكشف زياراتٍ متكررة لسيلماني كان هدفها دائمًا الحدّ من الأضرار وإقناع حلفائه في البرلمان العراقي على الإبقاء على عبدالمهدي. تلك المحاولات هي جزءٌ من خطة طويلة الأمد تنفذها إيران للحفاظ على العراق كدولةٍ مواليةٍ وخاضعة. مجهودٌ مَضنٍ عبر سنواتٍ مع العمل كي تصبح إيران قادرة على وضع من تشاء في مناصب العراق العليا. كما تكشف الوثائق عن كيف استطاعت إيران أن تدفع أكثر للعملاء الولايات المُتحدة في العراق كي يبيعوا ولاءهم لإيران. وعن كيفية تسلل إيران لكافة جوانب الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية في العراق.

الوثائق تكشف عن علاقةٍ وطيدة تجمع عبدالمهدي مع الجمهورية الإسلامية. علاقةٌ تمتد جذورها إلى حياة الرئيس العراقي الأسبق، صدّام حُسين، حين كان عبدالمهدي في المنفى خارج العراق. ثم تطوّرت العلاقة حين أصبح وزيرًا للنفط عام 2014. الوثائق وصفت العلاقة بأنّها «علاقة من نوع خاص»، لكنّ ذلك لا يعني بالضرورة أن يكون عبدالمهدي عميلًا مباشرًا لإيران. لكن الواقع يقول إنّه لا يمكن لرجل أن يفوز برئاسة وزراء العراق دون مباركة إيران، كما أن عبدالمهدي كان يُنظر إليه حين تولى منصبه عام 2018 على أنه مرشح توافقي، ترضاه واشنطن وطهران.

إيران تشتري المخابرات الأمريكية

 كذلك تحوي الوثائق معلوماتٍ عن مخبرين يعملون في المطارات العراقية كانوا يزّودن الجهات الإيرانية الرحلات العسكرية للقوات الأمريكية. كما استخدم عملاء إيران في العراق أنواعًا متعددة من الرِشى للمسئولين تنوعت بين المَكسّرات أو العطور الأصلية أو الزعفران. كما توجد وثيقة لهدايا مُنحت لمسئولٍ كرديّ بتكلفة 87.5 يورو. الوثائق تتركز في الفترة الزمنية بين عامي 2014 – 2015، مكتوبة بيد عدد من ضباط وزراة الأمن والاستخبارات الإيرانية الذين كانوا يخدمون ميدانيًا في العراق. لكن على الجهة الأخرى يظهر في الوثائق طغيان نفوذ منظمة الاستخبارات التابعة للحرس الثوري على الوزارة السابقة.

السلطة العُليا لاستخبارات الحرس الثوري تتجلى في أن سفراء الدول المهمة لإيران مثل: لبنان وسوريا والعراق يُعيّنون من كبار قادة الحرس الثوري وليس من وزراة الخارجية كما هو مُتعارف. لكن ظلّت وزارة الاستخبارات قيد العمل بالتوازي مع استخبارات الحرس الثوري، وصب كلاهما تقاريرهما إلى القيادة في طهران، فصيغت التقارير في شكلّها النهائي لتُقدم للمجلس الأعلى للأمن القومي. تلك التقارير هي التي صارت اليوم وثائق مُسربة.

التحرك الإيراني للسيطرة على العراق بدأ مباشرةً بعد مغادرة القوات الأمريكية عام 2011. حينها بدأت إيران في إضافة العديد من عملاء الاستخبارات الأمريكية السابقين لكشوف رواتبها. مستغلةُ بذلك الخطأ الأمريكي الأكبر بعد انسحابه من العراق بترك عملائه من العراقيين دون إعانات ماديّة في بلد فتكت به القوات الأمريكية. كما أنّها لم تعد تبالي بحفظ سرية عملهم لديها، مما يعرّضهم للقتل بسبب عملهم مع القوات الأمريكية.

 استغلالًا لهذه النقاط روت الوثائق بداية إيران في تجنيد رجالٍ جُدد. وبدأتهم بمسئولٍ في وزراة الخارجية لم تذكر اسمه، لكنّها وصفته بقدرته على تقديم معلومات حول خطط واشنطن في العراق، سواء أموراً متعلقة بالتعامل مع «داعش» أو بأي أمرٍ آخر تنوي الولايات المتحدة فعله في العراق. ومنهم أيضًا الجاسوس المُكنّى «دوني براسكو» لكنّه يُخاطب من الجانب الإيراني باسم «المصدر 134992». طلب «المصدر 134992» السفر لإيران من أجل الحماية، ومن ثم فكل ما يملك من معلومات ملك للحرس الثوري.

في تلك الوثيقة منحهم الرجل مواقع البيوت الآمنة التي كانت تلجأ إليها الاستخبارات الأمريكية. إضافةً إلى أسماء الفنادق التي قابل فيها عملاء وكالة المخابرات المركزية الأمريكية. كما شرح تفصيليًا كيف دربته الولايات المتحدة على القيام بعمليات التجسس. الأهم والأكثر خطورةً أنّه قدم للجانب الإيراني أسماء جميع العراقيين الآخرين الذين عملوا كجواسيس للولايات المتحدة. كما عرض أن يُقدم كل الصور التي التقطها لزملائه ولمروءسيه، وأن يتعرف على وجوههم إذا عُرضت عليه صورهم في إيران.

 كان «المصدر 134992» دقيقًا في معلوماته، فحكى أنّه عمل للاستخبارات الأمريكية مدة 18 شهرًا حصل فيها على أجر شهري قدره 3000 دولار، وحصل على مكافأة مرةً قدرها 20 ألف دولار وسيارة. تكشف إحدى الوثائق عن أمانة «المصدر 134992»  الذي أقسم على القرآن للجانب الإيراني أن أيام التجسس لصالح واشنطن قد ولت وأنّه الآن يتجسس لصالح إيران فحسب.

« جيش العراق ومخابراته تحت أمركم»

 موقف كوميدي آخر تكشفه إحدى الوثائق إذ قام بعض الجواسيس الإيرانيين باختراق المعهد الثقافي الألماني في العراق. لكن بعد دخولهم اكتشفوا أنهم يمتلكون أكوادًا خاطئة ولم يتمكنوا من فتح الخِزن. كما تروي وثيقة أخرى عن بعض رجال الحرس الثوري تم ضربهم من قبل روؤسائهم بسبب كسلهم. وتمت إعادة بعضهم إلى طهران بسبب تقديمهم تقارير تعتمد على المعلومات التي تنقلها نشرات الأخبار العامة. لكن ذلك لا يعد شيئًا وسط بحر الوثائق التي تكشف عن عملٍ شديد الاحترافية والصبر من رجال إيران. تصف الوثائق مهمتهم بأنها منع العراق من الانهيار. كما يهدفون إلى منع وجود المُسلحين السُنّة على الحدود الإيرانية، أو دخول العراق حربًا طائفية يكون الشيعة هدفًا فيها للمقاتلين السُنة.

تطوع «المصدر 134992» لم يكن فريدًا، فوثيقة أخرى تحكي عن ضابط مخابرات عراقي تطوّع بالعمل لإيران. التقى الضابط المجهول في كربلاء أواخر عام 2014 بمسئول إيراني ليُخبره أنّ إيران بلده الثاني وأنّه يُحبها ويريد العمل لها. الضابط نقل ما هو أكثر من تطوعه الشخصي، فتقول الوثيقة إنه جاء برسالة من رئيسه في بغداد، اللواء حاتم المكصوصي قائد الاستخبارات العسكرية في وزارة الدفاع العراقية آنذاك، ولا يزال حاليًا مسئولًا حكوميًا يشرف على مشاريع الهندسة العسكرية.

الرسالة مضمونها أنّه تحت خدمة الإيرانيين، وكل ما يحتاجه الإيرانيون هو تحت تصرّفهم، فالمكصوصي شيعيّ مثل إيران ويعلم أنهما لديهما عدو واحد مشترك. مبعوث المكصوصي استطرد قائلًا بأن كل المعلومات عن الجيش العراقي هي ملك لإيران إذا شاءت. كما عرض عليه برنامجًا وصفه ببرنامج استهداف سري منحته الولايات المتحدة للعراق. وعرض عليه أن يُرسل إليه لابتوب ليضع البرنامج عليه. لم تتوقف عروض المكصوصي، بل أضاف أن الولايات المتحدة منحت العراق برنامجًا شديد الحساسية للتنصت على الهواتف. كل ذلك تحت أمر إيران، إذا طلبت.

«كل وزراء الحكومة في جيبنا»

تكشف الوثائق أيضًا عن مرحلةٍ مفصلية في العلاقة بين طهران وواشنطن. في نهايات عام 2014 كانت الولايات المتحدة قد عادت إلى العراق لتحارب جنود داعش. في تلك الأثناء نزح العديد من شباب العراق سرًا إلى إيران للحصول على تدريب عسكري. الولايات المتحدة من جانبها كانت ترى ضرورة التنسيق مع إيران لمحاربة داعش. لكن إيران نظرت للوجود الأمريكي كمُهدّد لها بقدر وجود داعش. وظنت أنّ الوجود الأمريكي الكثيف ليس إلا غطاءً لجمع المعلومات الاستخباراتية عن إيران. فنرى رسالةً لضابط إيراني يُحذر قيادته من ضرورة الحذر والأخذ في الاعتبار أن وجود الولايات المتحدة قد يشكل خطرًا مباشرًا على أمن الجمهورية الإسلامية.

اقتنصت  إيران تلك الفرصة لتتدخل في السياسة العراقية بشكل مباشر. الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، كان يرى أن سياسات نوري المالكي القمعية هى السبب وراء نشر التطرف في العراق. وأن حملاته الدموية ضد السُنّة هى من قوّت شوكة داعش في المنطقة، لذا وضع إقالته شرطًا رئيسيًا للتفاوض مع الجانب الإيراني. المالكي عاش في إيران في الثمانينيات، لذا فقد كان المُفضل لإيران. أما البديل الآخر، حيدر العبادي، فقد تلقى تعليمه في بريطانيا ويبدو أكثر وديةّ وأقل طائفية، كما وصفته الوثائق.

رفضت إيران العبادي، لكن دعا حسن دانييفار، سفير إيران آنذاك، لاجتماع سريّ لكبار موظفي السفارة الإيرانية. في الاجتماع أقنعهم حسن أنّه حتى لو لم يكن العبادي اختيارًا إيرانيًا جيدًا إلا أنّ إيران تمتلك في جيبها العديد من الوزراء الآخرين في الحكومة. وبدأ حسن في سرد أسماء الوزراء الذين يقصدهم ودرجة علاقتهم بإيران. منهم إبراهيم الجعفري، شغل منصب رئيس الوزراء سابقًا، وفي 2014 كان وزيرًا للخارجية،  وُصف الجعفري بنفس وصف المهدي سابقًا، علاقة خاصة مع إيران. وزراء البلدية والاتصالات وحقوق الإنسان وصفوا بأنهم في انسجام تام مع إيران وشعبها. جدير بالذكر أن الوزاء الثلاثة كانوا أعضاءً في منظمة بدر الشيعية أثناء حكم صدّام.

كما قال حسن إن وزير البيئة يعمل مع إيران رغم أنّه سني. أما وزير التعليم فوصفه التقرير أنه لا مشكلة فيه ولن تواجه إيران مشكلة حال التعامل معه. كما ذُكر، بيان جبر، وزير النقل آنذاك، والذي قاد وزراة الداخلية العراقية في وقت مات فيه مئات السجناء بالتعذيب، ووُصف بأنه قريب جدًا من إيران.

لم يكن المسئولون الإيرانيون يعلمون أنّهم بعد بضعة أشهر فقط من وصول العبادي لمنصبه سوف يتلقون عرضًا كريمًا منه برغبته للعمل لصالحهم. إذا تحكي وثيقة مُؤرخة لعام 2015عن لقاء سري جمع ضابط استخبارات إيراني تحت اسم «بروجردي» مع العبادي، في مكتب الأخير دون وجود سكرتير أو أي طرف ثالث.

لا شيء خفياً على إيران

في وثيقةٍ أخرى تكرر اسم بيان جبر، هذه المرة في لقاء مباشر مع قاسم سليماني. كان اللقاء في أوج الحرب السورية ومن أجل دعم الرئيس السوري بشار الأسد كان الاجتماع. سليماني طلب من جبر فتح المجال الجوي العراقي أمام طائرات إيرانيّة محملة بالأسلحة لمساندة بشار الأسد. تحكي الوثيقة عن تردد جبر في البداية، إذ إن الإدارة الأمريكية قد طلبت بشكلٍ مباشر غلق المجال الجوي العراقي أمام الإمداد الإيراني. لكن جبر لم يجرؤ على الرفض وهو يجلس مع سليماني وجهًا لوجه.

وثائق أخرى تروي اجتماعاتٍ روتينية يُشدّد على سريتها للمسئولين الأمريكين مع المسئولين العراقيين، لكنّ تفاصيلها كانت تُرسل بشكل روتيني أيضًا للجانب الإيراني. ساعد في ذلك جاسوس آخر تحت اسم «المصدر 134832». كان يعمل في مكتب سالم الجبوري، رئيس البرلمان العراقي حتى العام الماضي. كثيرًا ما زار السفير الأمريكي، ستيورات جونز، مكتب الجبوري في 2014 بعد تشكيل الحكومة الجديدة. الجبوري سُنيّ لكن الإدارة الأمريكية كانت تظنه على علاقات وثيقة بإيران. إلا أن رسائل «المصدر  134832» كشفت عكس ذلك، إذ حثّهم على ضرورة العمل على عرقلة ميل الجبوري للولايات المتحدة. كما نصحهم بالإسراع لمنع انزلاق الجبوري لموقف موالٍ لواشنطن، لأن من صفاته المصداقية في اتخاذ القرار.

كما حكت الوثائق عن نيشرفان بارزاني، رئيس وزراء كردستان آنذاك، إذ التقى العبادي مسئولين بريطانيين وأمريكيين في بغداد ديسمبر/ كانون الأول 2014. لكنّه توجه على الفور بعدها إلى مسئول إيراني ليخبره بتفاصيل كل شيء. وثيقة أخرى كتبها «المصدر  134832» يروي فيها تفاصيل سيطرة الولايات المتحدة على حقل غاز غنيّ على الحدود بين العراق وسوريا. واشنطن أرادت تصدير الغاز لأوروبا التي تُعتبر سوقًا ضخمًا لروسيا. فكتب ضابط الاستخبارات الإيراني يوصي بضرورة بيع تلك المعلومات لسوريا وروسيا.

أيضًا ذُكرت عملية جرف الصخر التي حدثت في 2014، العملية وصفتها الوثائق بأنها طهرت المنطقة من الإرهابيين. وكُشف القناع عن عمليات تهجير للقوات السُنيّة وتدمير المنازل وإزالة أشجار النخيل لمنع لجوء الإرهابيين لها. تلت تلك الوثيقة أحاديث إيرانية متبادلة عن مخاوف عُليا من تبدد المكاسب السياسيّة الإيرانية بسبب كره السُنة المتزايد للميليشيات الشيعية. حثت تلك الوثائق على عدم نشر أي صور لقاسم سليماني لأنّه أصبح مكروهًا ومستهدفًا لشخصه. كما نُصحت القيادة الإيرانية بمحاولة استخدام اللين لفترةٍ من الوقت عبر إرسال أطباء وحملات إغاثة لقرى العراق.

لكن على النقيض من تلك النصائح كشفت وثيقة أخرى أن إيران تستخدم نفوذها لعرقلة صفقات التنمية في العراق. كما تبيّن أن قوات فيلق القدس تحصل على النفط وعقود التنمية من الأكراد مقابل السلاح الإيراني. وحصلت إيران على عقد لإنشاء شبكة صرف وتنقية المياه بدفع رشوة قدرها 16 مليون دولار لأحد المسئولين في جنوب العراق.

لعلّ المعلومات التي قدّمتها الوثائق لا تكشف عما هو مجهول، بل تُؤكد ما هو معروف بالفعل. وتوّثق بالتفصيل كيف سقط العراق تحت رحمة النفوذ الإيراني، حتى صار مُنطلق عمليات التجسس الإيرانية على مختلف دول المنطقة. كما أنّها توثق حقيقةً أهم لا تريد الولايات المتحدة الاعتراف بها، أنّ إيران استطاعت في كل منعطف حيوي أن تتغلب على واشنطن. فالعراق مسلوب الإرادة ليس مُقسمًا بين النفوذ الأمريكي والإيراني، بل هو للسيطرة الإيرانية أقرب من نظيرتها الأمريكية.