نهاية شهور الود: صراع إيران وتركيا على شمال العراق
حرب باردة يعيشها العالم الملتهب، لكنها ليست باردة تمامًا بل فيها حرب بالوكالة كذلك، تركيا وإيران يتصارعان على أرض العراق. فقد بات العراق شاهدًا على تلك الحرب الكلامية بين سفيري البلدين لديه، وزادت الأمور تعقيدًا حين استدعت تركيا سفير إيران في أنقرة. استدعاء السفير الإيراني أتى على خلفية تصريحات نظيره في بغداد بخصوص التواجد التركي في العراق، وذلك الاستدعاء هو الثاني في أقل من 3 أشهر، ما يعني أن الأزمة صارت عميقة وأكبر من إخفائها.
الخلاف بين البلدين له محطات عديدة على مدى سنوات طويلة لكنّه الآن يشتعل بسبب نقطة محددة، قضاء سنجار شمال العراق. إيران تريد من تلك النقطة أن تكون نقطة مفتوحة لعبور ميليشياتها بين العراق وسوريا، لكن تركيا تأبى التغاضي عن تلك المنطقة وتطارد فيها أعضاء حزب العمال الكردستاني.
إيران لا تقبل بوجود قوات أجنبية في العراق، وترفض التدخل العسكري، ويجب أن لا تكون القوات التركية بأي شكل من الأشكال مصدر تهديد للأراضي العراقية ولا أن تحتلها. السطر السابق كان مضمون ونصّ تصريحات إيرج مسجدي، السفير الإيراني في العراق. وأضاف كذلك في تصريح لاحق أنه على الأتراك أن ينسحبوا ويتراجعوا إلى حدودهم الدولية وينتشروا هناك، وأردف أنه عليهم أن يتركوا العراق وأمنه للعراقيين ليضمنوه هم.
الرد التركي جاء سريعًا ولاذعًا، كعادة التصريحات التركية، فسفير أنقرة في بغداد، فاتح يلدز، قال إن سفير إيران هو آخر من يعطي لتركيا درسًا في احترام حدود العراق. وصدّقت الخارجية التركية على كلامه باستدعائها السفير الإيراني في تركيا وإبلاغه بالمضمون ذاته.
العراق يُهان من الجميع
قبل الانجراف مع الطرفين يجب التوقف لرؤية ما قال الطرف الأصلي الذي يتصارع الطرفان من أجل حماية حدوده، على حد تعبيرهما. رئيس مجلس النواب العراقي، محمد الحلبوسي، طالب الطرفين بالتوقف عن التراشق الكلامي واحترام سيادة بلاده، وأن واجب البعثات الدبلوماسية في أرض العراق لا يتعدى تمثيل بلادهم فحسب، لا الصراع على سيادة العراق.
كذلك اتفق مع الحلبوسي العديد من أعضاء البرلمان العراقي الذين رأوا في التراشق اللفظي إهانة للعراق أولًا وأخيرًا. وطالب العديد من العراقيين وزارة الخارجية العراقية باستدعاء السفيرين وتوجيه رسائل شديدة اللهجة لهما بضرورة احترام السيادة العراقية. وطال الهجوم الخارجية العراقية إذ أرسل إليها العديد من النواب رسائل تطالبها بألا تتخذ موقفًا جبانًا أمام تركيا وإيران، وأن تطالب السفيرين بحل صراعهما بعيدًا عن الأراضي العراقية.
لكن ما لا يدركه النواب العراقيون أن ذلك الصراع من المستحيل حلّه بعيدًا عن الأراضي العراقية، فهو لا يدور إلا على الأراضي العراقية. إيران تحتضن قوات حزب العمال الكردستاني وتعطيهم رواتب مساوية لرواتب قوات الحشد الشعبي، وفي نفس الوقت تركيا تلاحق قوات حزب العمال وتريد القضاء عليهم، فالأمر مبتدأه ومنتهاه في العراق، وفي قضاء سنجار تحديدًا.
في 9 أكتوبر/ تشرين الأول 2020 وقّعت الحكومة العراقية اتفاقًا مع حكومة إقليم كردستان لحل مشاكل سنجار. في ذلك الاتفاق ستتولى قوات الأمن الاتحادية بالتنسيق مع قوات إقليم أربيل إخراج القوات غير القانونية ليعود إلى المنطقة عشرات الآلاف من النازحين الذين شردهم تنظيم داعش منذ هجماته على المنطقة في عام 2014.
العراق حجر الزاوية للطرفين
الاتفاق لقي ترحيبًا دوليًا واسعًا، لكنه لم يلقَ قبولًا مماثلًا عند الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فقد صرح أردوغان أنه لا سنجار ولا سوريا ولا أي منطقة جبلية أخرى ستكون آمنة لهؤلاء الإرهابيين، على حد وصفه. التصريحات التركية التي تجددت في منتصف فبراير/ شباط الجاري خلقتها تهديدات حركة النجباء بمهاجمة القوات العسكرية التركية. وحركة النجباء هي في الأصل ميليشيا شيعية مدعومة إيرانيًا وتصنفها الولايات المتحدة ضمن الحركات الإرهابية.
التصريحات التركية زادت التوتر فأعلنت عصائب أهل الحق، التابعة للحشد الشعبي، هي الأخرى أنها سوف تستهدف القوات العسكرية التركية إذا صدر منها أي سلوك عدواني. تصاعد الأمر ودخل على الخط محمد جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني، الذي أعلن رفض بلاده للوجود التركي في العراق وسوريا، واصفًا سياسات تركيا بالخاطئة.
ورغم التعاون والتفاهم السابق بين البلدين، فإن سنجار قد كشفت تعارض مصالح شديدة الحيوية للطرفين. وهذا التعارض كان لا بد من أن يأتي فالعراق إجمالًا يُعتبر حجر الزاوية في سياسة البلدين. فإيران ترى في العراق الجدار الفاصل بين الحضارة الفارسية والحضارة العربية الإسلامية السنيّة، كما أنه الحلقة التي تصل إيران بالبحر المتوسط، كذلك فإن العراق بالنسبة لإيران هو وسيلة كسر الحصار الأمريكي المفروض عليها، وضمان عدم وجود حكومة سنيّة على رأسه يضمن أن لا يعود العراق لمعاداة إيران.
أما تركيا فهي ترى في العراق، الموصل تحديدًا، تابعًا لها وحقًا من حقوقها الجغرافية انتزع منها بموجب المعاهدة مع بريطانيا عام 1926. كما أن تركيا تدرك أن العراق هو منبع الانقسام الكردي، وكردستان العراق هو مركز الحركات الكردية القائمة في تركيا وفي إيران وسوريا.
تركيا تحشد الرأي العام
وإذا كانت الدولتان قد اتحدتا في فترة حكم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فإن ذلك لم يكن إلا تقاربًا مؤقتًا صنعه توقيع ترامب للعقوبات على الطرفين. ومع نهاية ترامب وقدوم بايدن المتجه للتقارب مع إيران، فإن تركيا قد أدركت أنه عليها أن تخلق معادلة جديدة تضمن لها مزيدًا من النفوذ والحماية من التغول الإيراني في مفاصل العراق وعمليات صنع القرار فيه، وتحميها كذلك من نشاط حزب العمال الكردي.
على قدر حيوية المنطقة المتنازع عليها أتى الرد من الطرفين، تركيا أعلنت أنها ستبدأ عملية عسكرية استمرت 4 أيام وانتهت في 14 فبراير/ شباط 2021. وزارة الدفاع التركية أعلنت أنها دكّت عشرات المواقع والمراكز التابعة لحزب العمال الكردستاني. لكن وزارة الدفاع أعلنت كذلك أن آخر أيام العملية شهد مقتل 12 تركيًا ومواطنًا عراقيًا كانت تحتجزهم القوات الكردية منذ سنوات، قبل دخول القوات الخاصة التركية لإنقاذهم.
مقتل الرهائن وضع ضغطًا شعبيًا على الحكومة التركية، ولاحقتها اتهامات بفشل عمليتها العسكرية التي لم تستطع حماية الرهائن. الحكومة التركية اجتمعت مع أحزاب المعارضة ومع أعضاء البرلمان وشرحت لهم العملية بالمستندات، ربما كي تبريء ساحتها من تهمة الفشل وإهدار أرواح الرهائن. لكن في الوقت ذاته ربما يكون ذلك محاولة ضمنية لحشد التعاطف الشعبي ضد الأكراد، ما يعني أن منقطة سنجار سوف تشهد معارك أخرى قادمة.
خصوصًا أن تركيا انتقدت، على لسان أكثر من مسئول، ما وصفته بالصمت الدولي تجاه الجرائم الكردية. واعتبرت تركيا ذلك مشاركة في الجريمة، وأكدت أنها لن تصمت. ما دفع الحكومة العراقية لاتخاذ منحنى مختلف في التعليق على الحادثة وأكدت أن الأمر يحتاج لتحقيق وتنسيق مشترك بين بغداد وأنقرة. ودفع كذلك عددًا من المسئولين العراقيين للتصريح بأنه على الحكومة تجريد معارضي تركيا الموجودين على الأراضي العراقية من السلاح كي لا تظل هناك حجة تركية للتدخل في العراق.
أكثر ذكاءً من معركة فناء
إذا حُلت مشكلة تركيا أو إيران فستظل هناك المشكلة الأهم؛ مشكلة العراق، الدولة القوية التي تصر القوى الأكبر منها على معاملتها كمضمار للرماية وساحة مستباحة للحرب بالوكالة وتجريب الأسلحة الجديدة وقياس مدى دقتها، والتي لن تُحل معضلتها لأن رضا إيران أو تركيا لن يكون إلا بتفاهم مشترك حول تقسيم كعكة العراق.
كما أنه تجدر الإشارة إلى أن إيران وتركيا أكثر ذكاءً من أن ينجرفا لصدام يُفتت قوتهما ويمنح قوةً لعدوهما المُعلن المشترك، الولايات المتحدة وإسرائيل.
وأن تلك الثوابت سوف تُمكن الطرفين من تنظيم خلافاتهما والعمل على حلّها واحتوائها، وأن يظل الصراع محصورًا بين الطرفين دون اللجوء إلى الولايات المتحدة، أو أن يستعين أحدهما بالجانب الأمريكي على الآخر.