إيران: استنساخ التجربة السوفيتية أو سياسة الهروب إلى الأمام
تعلمنا كتب السياسة و التاريخ أن القائد المحنك يمارس السياسة (الفعل التاريخي) بعينين: إحداهما تراعي الواقع و إكراهاته و أخرى تتطلع إلى الآفاق و المستقبل و هذا بالضبط ما ألمح إليه الحكيم أرسطو مصطلحا عليه بالحذر؛ «Prudence» بما هو عقل سياسي عملي.
قد يغض السياسي البصر عن بعض الملفات لا نسيانا و لكن تأجيلا حتى تتهيأ الظروف للاستئناف النظري و تقديم الحلول الملائمة، إن معركة الآجل مع العاجل لهي أصعب المعارك السياسية و بها و من خلالها يمكن التمييز بين القائد المحنك و الحقيقي و القائد المزيف و المشهور. والتاريخ السياسي للأمم يعطينا نماذج حية لأمثال هؤلاء سواء في التاريخ القديم أو المعاصر؛ فثمة نماذج شهيرة هي عناوين للنجاح و ثمة أخرى هي عناوين للفشل.
أسماء كحنبعل و إسكندر و يوليوس قيصر و مونتن غمري و تشرشل لعبت دورا مؤثرا في الحرب كما في السلم في التاريخ الإنساني.
لسنا في حاجة للتذكير بأن الخطأ القاتل للزعيم الألماني هتلر هو عناده و عدم اعترافه بضرورة فتح الملف الحقيقي: المشكل اليهودي و محاولته إعدام وإتلاف هذا الملف ففي مقابل ذلك افتعل معارك خارج ألمانيا شرقا و غربا و كأنه بذلك يبعد الحرائق عن ألمانيا بصنعها خارجها.
يكاد الزعيم ستالين و من ورائه الاتحاد السوفيتي طوال حقبة حكمه يرتكب نفس الحماقة: خوض المعارك الجانبية والتضحية بالداخل معتقدا أن الإمبريالية تسقط بمجرد ضربها في أضعف حلقاتها .
لقد بنى العقل السياسي السوفيتي كل سياسته على مجابهة الغرب الليبرالي، و تطويقه من كل الجهات فساعد ومول كل الأحزاب الاشتراكية بل وتدخل عسكريا في عديد المناطق؛ لتغدو نصف أوروبا موالية له بل وزحف نحو آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية متناسيا أو لنقل مؤجلا الملفات الحقيقية ألا وهي:
- الملف الديني
- الملف الإثني والقومي
- الملف الاقتصادي
- الملف الثقافي
كل ملف من هذه الملفات تتطلب قيادة سياسية ذات عقل «حذر» (بالمعنى الأرسطي أي الحصافة) و بالتالي له العيون التي تتفاعل مع إكراهات الواقع و لا تتناسى الآجل بل تحتضن الذات الداخلية بمواجهة المشكلات الحقيقية لا تأجيلها و نسيانها.
فالملف الديني لا يحل بقرار فوقي من الدولة، لا إله و الحياة مادة –الدين أفيون الشعوب، و لا يحل أيضا عن طريق الشعر و المسرح و الشعارات.
المسألة الإثنية أو القومية لا يمكن أن نلغيها بقرار من الدولة أيضا بأن الأمة أمة واحد و لأن العدو واحد فالاتحاد السوفيتي يتكون من قوميات مختلفة ذات تراث و تقاليد متعددة و لا يمكن لشعب ما مهما كان عدده أن يلغي ثقافة و لغة شعب آخر مهما قل عدده.
فالشعور القومي قد يختفي أو يؤجل تحت ضغط القوة و لكن يضل يترصد لحظة ضعف الدولة لينتقم شر انتقام، وقس على ذلك المسألة الاقتصادية و المسألة الثقافية.
كل الدلائل و المؤشرات تثبت أن العقل السياسي السوفيتي اشتغل و تحرك و كان فاعلا سياسيا مؤثرا في العالم عبر تأجيل و إعدام بعض الملفات داخليا و تصدير المشاكل نحو الخارج حتى ينأى برقعته الجغرافية عن الحرائق إلا أن هذا التأجيل و هذا التغافل لم يدم طويلا فبين البداية و النهاية أواخر القرن العشرين جاءت «الغلاستنوست» أو «البروسترويكا» على يد غورباشوف؛ لتواجه هذه الملفات لكن المواجهة جاءت متأخرة و كل ملف تعقد بصورة لم يعد معه الحل ممكنا، فانهار الاتحاد السوفيتي و عادت الدول الأوروبية إلى ثقافتها و قوميتها و استقلت الجمهوريات الإسلامية وتفتت الاتحاد السوفيتي و بتفتته مات حلم اليسار العالمي.
هذه التجربة السياسية السوفيتية كان حريا بالعقل السياسي العالمي أن يدرسها، و يأخذ منها العبر لكن يبدو أن الإنسانية تعيد تكرار نفس التجربة بأقدار مختلفة و هي تتعامى بإرادة و أحيانا بحسن نية لتشتغل السياسة العلنية ضمن سياسة تأجيل الملفات أو الهروب إلى الأمام.
هذه أمريكا و هي القوة العظمى و الأكثر حضورا و فاعلية تقوم بنفس السياسة: إشعال الحرائق في الخارج، وضرب هذا بذاك ليتسنى النجاح في الداخل بتأمين البلد اقتصاديا و ثقافيا، ولو على حساب الأشلاء و الدماء. لكن الطبيعة تعلمنا أن إعصارا يضرب اليابان أو تسونامي يقع في المحيط له تداعياته واهتزازاته داخل أمريكا، فأحداث سبتمبر/أيلول وما تلاها من وقائع يثبت أن حريقا تشعله السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط ينتج ردة فعل في قلب نيويورك فضلا عن أن ملف السود الأمريكيين يضل حريقا قابلا للاشتعال في أية لحظة.
وهاهو القيصر الجديد في روسيا، بوتن يضرب بقوة غروزني، ويحسم ملف المسلمين و كأنه ستالين زمانه، وهو ضليع في تأجيل الملفات أيضا علما و أن روسيا –معترف بها دوليا – تحتوي داخلها على مجموعات من الأقليات الدينية و العرقية و كسياسة ستالينية يفتعل قيصر روسيا الجديد معارك خارج روسيا و كأنه بذلك يجمع كلمة الجميع تحت رايته و أنه لا صوت يعلو فوق صوت الوحدة.
إن هذه السياسة، سياسة الهروب إلى الأمام و تأجيل الملفات لو قدر لها النجاح لبقي الاتحاد السوفياتي و لما انهار و لما يكتمل القرن .
الأمثلة عديدة و لكن لنأتي لحالة إيران، أي من الماكرو إلى الميكرو حيث تحتل إيران موقعا جغرافيا متميزا في منطقة الشرق الأوسط بمساحة تقدر بمليون و ستمائة و خمسون ألف كلم مربع، و بلغ عدد السكان ثمانين مليون يتوزعون على قوميات متعددة من فارسية أذرية و عربية و كردية و أرمن بمذاهب و طوائف تتوزع بين الشيعة والإمامية والإسماعيلية و السنة ثم أقليات مسيحية و يهودية.
هذا النسيج الاجتماعي و الحضاري لإيران لم يصاحبه فعل سياسي متميز و متفرد يحول هذا التنوع و الاختلاف إلى ثراء و إبداع، و ظلت منهجية التعامل السياسي واحدة سواء قبل الثورة أو بعدها. فإيران الشاه مارس الضغط في الداخل من أجل اكتساب الشرعية و حكم البلاد بيد من حديد مطبقا سياسة تأجيل الملفات: المشكل القومي و الديني و الثقافي . واختار الشاه شكليا النموذج الحضاري الغربي فالمتجول في شوارع طهران في عهده يخال نفسه في شوارع باريس أو لندن .
أما على مستوى الحريات العامة فالنموذج أقرب لموسكو: كل شي تحت الرقابة و السيطرة لا ولاء إلا للشاه . هذه الرؤية الإمبراطورية زينت له التطلع للهيمنة على المنطقة فاحتل جزرا إماراتية، و بدأ يتعامل مع جيرانه الخليجين بعقلية فوقية.
فالكل يخافه و يحترمه حتى أنه لقب بشرطي الخليج لكونه يمثل القوة الخامسة عسكريا في العالم عتادا و عدة هذا الخليج الذي أطلق عليه اسم الخليج الفارسي (و يا للمفارقة تصر إيران اليوم على ذات المصطلح)، و رغم علاقته الإستراتيجية مع الكيان الصهيوني إلا أنه عمل على صناعة نفوذ له في المنطقة مستغلا الورقة الطائفية؛ فدفع و أرسل الإمام موسى الصدر للاستقرار في لبنان و تأسيسه لحركة أمل (يا للمفارقة اليوم يوجد حزب الله).
إن سياسة الهروب إلى الأمام و تأجيل فتح الملفات و حل مشاكلها و أولها و أخطرها مشكل الأقليات الدينية و العرقية و ثانيها حسن إدارة ملف الجيران و ثالثها مسألة الحريات الخاصة و العامة في الداخل و رابعها مشكل الشرعية السياسية و حسن إدارة الملف الحزبي. كل هذه الملفات و المؤجلة أو الملغاة في العقل السياسي الشاه شاهي جعلت هذا الحكم بسياسة الهروب إلى الأمام لا يستمر طويلا رغم الاستماتة و الدعم اللوجيستي للولايات المتحدة الأمريكية فانهار الحكم بثورة قادها رجال الدين بزعامة الخميني.
جاءت الثورة لكن هذه المرة ترفع شعارات و قيم جديدة: قيم ذات مرجعية ماضوية غارقة في يوتوبيا المدينة الفاضلة (مدينة الإمام). هذا العقل السياسي الجديد و يا للمفارقة يخطو خطوات سلفه خطوة بخطوة مستنيرا في ذلك بالدهاء و المكر الفارسي و بضعف الفاعلية السياسية لدول الجوار (غباء و استهتارا و ربما جهلا).
مرة أخرى يؤجل الملف الحارق –الأقليات العرقية و الإثنية- فإيران الثورة تتكون من شعوب متنوعة فرس أذريون عرب أكراد تشتون و كل شعب له خصوصيته الثقافية و المذهبية : سنة شيعة إمامية يهود مسيحيين . هذا الملف الحارق يتم تأجيله باسم تصدير الثورة مرة و باسم اتقاء الفتنة و الأمن مرة أخرى و أحيانا تستثمر شعارات المؤامرة الدولية على إيران.
لقد لعب صناع القرار الجدد لعبة السياسة العالمية نقل المعركة الإثنية و الطائفية خارج إيران، فاستغلت الطوائف في دول الجوار و المنطقة و جيرت لصالح الحكم الإيراني؛ من لبنان –الذي أصبح ولاية إيرانية بالوكالة – إلى دمشق و لتاريخها لدى الشيعة ثأر معها مرورا بالعراق التي سلمت لقمة سائغة من قبل الأمريكان و الإنجليز (مما يطرح أكثر من سؤال)، وصولا إلى اليمن (رغم الخلاف الشيعي الشيعي) بل إن العقل السياسي الإيراني لعب باقتدار مؤقت لعبة الاتحاد السوفياتي سابقا، فدخل على الخط الإفريقي، و هو خط سني صوفي في مجمله مستثمرا ما للصوفية من علاقة حسن جوار مع التشيع، فها هي تدفع الملايين و تمارس لعبة نشر التشيع و ثقافته في محاولة لتطويق الدول العربية، بل بدأت تشتغل في الداخل العربي؛ فمراكزها الثقافية في كل من الرباط و الجزائر و تونس و القاهرة و الخرطوم، تشتغل بسرعة و اقتدار جعلت أنظمة الحكم و الشعوب تستفز في كثير من الأحيان .
إن السياسة الإيرانية و هي تشتغل بهذا المنطق: تأجيل معالجة الملفات و سياسة الهروب إلى الأمام بافتعال المشاكل التي تخاف منها و نقلها إلى الخارج و هي ذات السياسة التي طبقها هتلر و ستالين و من ورائه الحزب الشيوعي السوفياتي و من ثم الشاه لكن أين هم هؤلاء القادة؟ و ماذا كانت النتائج ؟
كل الوقائع التاريخية و الدلائل تشير إلى قرب نهاية المشروع الإيراني الحالي فهي إن لم تتدارك وضعها سينفجر الوضع الداخلي وستنقسم إلى دويلات، وإن كان الاتحاد السوفياتي صمد 100 عام فإن إيران لن تصمد كثيرا و مما يؤكد تحليلنا هو الاتفاق الأمريكي الإيراني الأخير، والذي سوقت له إيران و أنصارها على أنه انتصار، إنما هو في الحقيقة سعي أمريكي لتطويق إيران و نقل المشاكل إلى داخلها و القيادة الإيرانية الحالية أو جزء منها على وعي بخطورة هذا الاتفاق، وهي تريد أن تجيره لصالحها لكن طالما أن القرار السياسي مؤسس على سياسة تأجيل الملفات و إقتعال المعارك هنا و هناك في الخارج هذه السياسة لها حتما ارتداداتها في الداخل .
إن إيران القادمة لن تكون كإيران الحالية و سخريتها من دول الجوار و منطق الاستعلاء الذي تمارسه في الداخل كما في الخارج سيسلط عليها يوما ما و ربما قريبا إن لم تتدارك هذه السياسة .