كتاب «دعوة إلى العقلانية»: كيف تفلسف الإسلام؟
عقب وفاة رسول الإسلام نشب خلاف حول الشخصية الأجدر بإمارة المؤمنين، ليظهر مفهوما أهل السنة والشيعة. سرعان ما تحول سؤال الإمارة السياسي إلى مفهوم فلسفي، من حيث هو تأمل في صفات الإمام وأدلة أحقيته، ومعنى تلك الإمامة من الأساس. ظهرت مبكرًا أيضًا أسئلة فلسفية حول القضاء والقدر وحرية الإرادة، وظهرت معها فرق الجبرية والقدرية. علاوة على ذلك، اختلف حول طبيعة الإله وصفاته، خاصة في ظل النص الحاوي لبعض الصفات المتنازع في دلالتها التجسيدية.
في مواجهة الظاهريين المعارضين لاستخدام العقل والفلسفة خوفًا من أن يقود إلى الكفر، اهتمت فرقة المعتزلة بعلم الكلام الساعي إلى إثبات العقائد عن طريق العقل. العجيب أن المعتزلة العقلانيين حين تولوا زمام الأمور في العهد العباسي – خاصة تحت حكم المأمون – تجبروا على خصومهم وحاكموا العلماء المخالفين على معتقداتهم، كما جرى في قصة محنة ابن حنبل الشهيرة، مما ألصق بالتفلسف العقلاني المعتزلي سمعة سيئة. ومن رحم المعتزلة ستندلع الثورة الأشعرية الرافضة للتصور العقلي المحض للإله، وستنتشر مرسية هدنة بين النخب الفكرية والجماهير، وإن كان الفكر الاعتزالي سيعاود الظهور كل فترة في فكر بعض الإصلاحيين، مثل الإمام محمد عبده.
من تاريخ الفلسفة والإسلام
«الفلسفة» لفظة أجنبية معربة، تدل صورتها على اعتبار العرب لها مجالًا علميًا جديدًا منفصلًا، لم يكن ضمن نطاق علومهم الدينية ولا الدنيوية. لكن الممارسة تثبت تعرض الفلسفة لعملية أسلمة. مما يستأنس به في ذلك رؤية الخليفة المأمون لأرسطو في المنام، حين دله أولا أن الحقائق تعرف بالعقل، ثم بالشرع، ثم دعاه إلى الإيمان بإله واحد. يذكرنا ذلك بالحكايات التي تصور سقراط في صورة شيخ صوفي حكيم، أكثر منه سقراط المعلم والمجادل الذي ظهر في محاورات أفلاطون.
تتجلى الفلسفة الإسلامية بشكل واضح في كتابات الشيخ الرئيس أبو علي الحسين بن سينا (980-1037)، كما في إعادة قراءته لرحلتي الإسراء والمعراج في ضوء أفكار أفلاطون وغيره. إلا أن التفكير الفلسفي سيشهد ضربة قاصمة – ولو إلى حين – على يد المتكلم والفيلسوف أبي حامد الغزالي، صاحب كتاب تهافت الفلاسفة.
حاول الغزالي في كتابه بيان تناقض حجج الفلاسفة – خاصة ابن سينا – وطرائقهم عبر طرقهم في النظر وقواعد طريقتهم التي أحسن دراستها. إلا أن للغزالي وجه ناصر للتعددية، يظهر في تعليقه على حديث الفرق البضعة والسبعين فرقة، التي نقل متنًا للحديث يجعلها كلها في الجنة إلا الزنادقة، ما يفتح بابًا واسعًا للرحمة سيتبين مدى حاجة الأمة إليه لاحقًا.
على كل، بعد عدة عقود، سيأتي القاضي والفقيه والفيلسوف ابن رشد (1126-1198) ليعلن الانسجام بين الدين والفلسفة، بمعنى استحالة وجود تعارض بين حقائق أي منهما وحقائق الآخر، بل سيعلن كذلك دراسة الفلسفة فرضًا دينيًا، على الأقل بالنسبة إلى أولئك القادرين على ذلك، أي الراسخين في العلم (وفق تفسيره للآية الكريمة).
الفكر الإسلامي وإشكالية العالم المفتوح
تنبع أزمة الفكر الإسلامي اليوم من تغير الأزمنة، وينبغي الانتباه إلى أن الزمن ليس عنصرًا خارجًا عن الدين، بل نسيج له، ينبغي الاستجابة لتحدياته من أجل «الحفاظ على مقصد الدين وديناميكيته التحررية وفقًا لمتطلبات اليوم في مجالات العدالة الاجتماعية والمساواة بين الرجل والمرأة واحترام مبدأ التعددية». شهد الفكر الإسلامي الحديث عدة محاولات للإصلاح والإحياء الفلسفي، لعل من أبرز روادها السيد جمال الدين الأفغاني (1838–1897).
كان الأفغاني شخصية غامضة، تعددت الأقوال في حقيقة منشأة ومعتقده، ما بين أفغاني سني وإيراني سني وإيراني شيعي متمسكًا بالتقية، لكن الإجماع منعقد على أنه كان يرى ضرورة تجاوز العقبات المذهبية ودفع الأمة نحو إعمال العقل بوصفه شرطًا لاستعادة ماضيها المجيد. على هذا المنوال سينسج تلميذه محمد عبده، الداعي إلى التحرر من أغلال التقليد، وكذلك علي عبدالرازق ابن الأزهر المعارض الشهير لدينية الدولة (الخلافة) الذي ما كان ليتبنى تلك الآراء دون رغبة في عالم جديد مفتوح لا قيد فيه على الفكر.
كذلك كان العالم عند المفكر والشاعر والمصلح الهندي محمد إقبال: عالماً مفتوحاً، ليس منتجًا نهائيًا ثابتًا غير قابل للتغيير. كان الكون عنده غير مكتمل، في خلق مستمر، بدليل الآية الكريمة: «أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير»، والآية الكريمة: «يزيد في الخلق ما يشاء». من هنا تنبع أهمية فكر إقبال، من تلك القراءة للكزمولوجيا القرآنية، في صورة حركة ظهور متتال، مما يعني وجوب اعتبار عملية تجديد الفكر الإسلامي عملية تحرير لحركة كانت قد تجمدت.
ومثلما الكون منفتح وفي حركة دائمة نحو اكتماله، لا بد أن يصير المجتمع في حركة دائمة نحو الانفتاح والتحرر للجميع. ذلك الانفتاح ما يعد الشيخ بوكار حفيد أخ عمر (1875–1939) المالي نموذجًا له. كان الشيخ عالمًا دينيًا، يدرس القرآن والتفسير والعقيدة والتصوف، صاحب مكانة رفيعة. حين سأل أحد المريدين الشيخ بوكار عن جواز التحاور مع المخالفين في العقيدة بهدف معرفة المزيد عن إلههم، أجابه الشيخ بأن العقيدة في جوهرها واحد مهما كان الدين الذي نعتنقه، فالفلسفة الحقة هي التي تنقلنا من حب الحكمة إلى حكمة الحب والتسامح وقبول التعددية.