حضارة مستثمرة (2)
وقفنا في مقالنا السابق «حضارة مستثمرة: العباسيون 1» مع بعض الآليات التي اتخذها العباسيون في استثمار بيئتهم، في كل المجالات المختلفة، وعلى رأسها الزراعي والحيواني، وفي هذا المقال نستكمل ما بدأناه في هذه السلسلة التي تقف مع رؤية المسلمين الحضارية في التنمية البيئية والطبيعية، بلا إخلال ولا إهلاك كما تفعله الحضارات المعاصرة!
تنمية الأرض وإعمارها
ففيما يتعلق باستثمار الأراضي الخصبة؛ فإن العباسيين عُنوا بحراثة الأرض وتسميدها واستخدموا لذلك الأبقار واهتموا بتربية الحيوانات، وخاصة البقر والجاموس الذي جلبوه من الهند، وتفريخ الدجاج وتربيته وحفظ الحمام في أبراج لوقايته من الأفاعي.
والمحافظة على الثمار وحفظها كما كثرت المحاصيل الزراعية في العصر العباسي: كالقمح والذرة والزيتون والكروم وقصب السكر والأشجار المثمرة والخضر، وبعضها جلب من أماكن مختلفة من العالم.
وحماية للدولة للبيئة ومواردها والقائمين عليها؛ فقد كان الأمراء يوصون الجند الذين يذهبون للجهاد بعدم التعرض للفلاحين أيًّا كانت ديانتهم، فهذا أحد الخلفاء العباسين ينصح قائده أثناء سيره بالجيش: «أن يمنع الجند أن يتخطوا الزُّروع، وأن يطأها أحد منهم بدابته، ويَجعلها طريقه في مقصده، وألا يأخذوا من أهلها الأتبان إلا بأثمان ورضا أصحابها»[1].
وصار من الأقوال المأثورة عند الأمراء: «أحسنوا إلى المزارعين، فإنَّكم لم تزالوا سمانًا ما سمنوا»[2].
وضرب المسلمون بتلك الجهود مثلاً رائعًا في المهارة الزِّراعية واستثمار الموارد البيئية، حتى قال بعض المستشرقين: «إنَّهم أول من نظم ممارستها بقوانين، وإنَّهم لم يقتصروا على العناية بالمزروعات… وإنَّما اعتنوا عناية فائقة بتربية القطعان، وخاصَّة الأغنام والخيل، وإن أوروبا لتدين لهم بإدخال التجارب الكُبرى، وجميع أنواع الفواكه الممتازة… وإضافة إلى المزروعات الأصغر شأنًا، مثل: السبانخ والكراث»[3].
وصار ما ينتجونه من محاصيل يقارب «مائة نوع من الحبوب والخضر والفاكهة والأزهار»[4].
وكان من نتيجة هذا الاهتمام وتلك الجهود «أنْ نَمت الأراضي والثروة الزراعية على طول امتداد العالم الإسلامي، من أواسط آسيا شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا؛ بحيث لا يقع البصر فيها إلا على خضرة يتصل لونها بلون السماء الأزرق»[5].
وسبق المسلمون العالم في الازدهار الزِّراعي، ونقلوا ذلك إلى أكثر الأماكن التي فتحوها أو نزلوا بها؛ وفي ذلك يقول شكيب أرسلان: «فإنَّ هؤلاء القوم لم يحلوا في مكان إلا طبقوا الأراضي بالعمل… وشقوا تحتها الجنان»[6].
وقد استغلت الولايات والدول التابعة للخلافة العباسية معظم ثرواتها في الاستثمار والتنمية؛ فقد اشتهرت مصر بصناعة الكتان الذي كثر زراعته في الفيوم، وكانت مرو ونيسابور من المناطق التي استثمرها المسلمون لصناعة القطن؛ إذ رخصت أسعاره عن أسعار نسيج الكتان، حتى إن الأمير إسماعيل بن أحمد الساماني (279 – 295هـ) منح كل قائد من قواده ثوبًا من الكتان كهدية قيمة، وما ذلك إلا دليل على رواج صناعة القطن وانتشارها في تلك المناطق [7].
إن التنوع الجغرافي والديمغرافي الذي عايشه المسلمون في كنف الخلافة العباسية منح الدولة تنوعًا ورخاءً هائلاً في الموارد والثروات؛ ففي العصر العباسي الثاني نلحظ أن صناعة الورق كانت قد بدأت في الرواج؛ وكان ورق البردي الذي اشتهر به إقليم مصر كثير الاستعمال حتى ذلك العصر، بيد أن الكاغد الذي جاء من بلاد الصين إلى الأقاليم الإسلامية قد حل محله؛ ومن ثم انتشرت صناعة الورق في دمشق وطبرية وطرابلس والشام [8].
واللافت أن الدولة الإسلامية استطاعت أن تستخرج المعادن بمختلف أنواعها من باطن الأرض، وكانت هناك أقاليم مختصة بذلك: مثل إقليم فارس؛ الذي قال فيه ابن الفقيه الهمذاني: لقد ألان الله (عز وجل) لهؤلاء القوم الحديد حتى عملوا منه ما أرادوا، فهم أحذق الأمة بالجوامع والأقفال والمرايا وتطبيع السيوف والدروع والجواشن [9].
الجانب الصحي
واهتمامًا من الدولة بالصحة العامة، والنظافة وعدم انتشار الأوبئة والأمراض في المجتمع؛ فقد انتشر إنشاء المستشفيات «البيمارستانات» العامة في الدولة الإسلامية في ظل الخلافة العباسية.
صحيح أن أول من أنشأ بيمارستان هو الوليد بن عبد الملك في عهد الخلافة الأموية [10] – وهو ما يدلل على اهتمام المجتمع الإسلامي بالصحة العامة والوقاية من الأمراض منذ فترة مبكرة – لكن إنشاء المستشفيات أخذ أشكالاً متنوعة ومتعددة في ظل الخلافة العباسية؛ حيث التقدم الملحوظ في العلوم الطبية وهو ما انعكس على إنشاء المستشفيات واختيار الأطباء.
ففي عهد أبي جعفر المنصور نجد انتشار البيمارستانات في كافة أنحاء الدولة بما فيها العاصمة بغداد، ووجود الأطباء المهرة وإن كانوا من النصارى مثل آل بختيشوع [11].
وحرص الخلفاء العباسيون على إنشاء المستشفيات؛ فقلما وجدنا خليفة إلا وأنشأ مستشفى يُنسب إليه كما فعل الخليفة العباسي المقتدر الذي أنشأ المستشفى المقتدري [12]؛ بل حرص الولاة وعمال الدولة على النظافة العامة وحماية البيئة من كل ضرر؛ فما لبثوا في إنشاء المستشفيات وتشجيع الصيادلة على اكتشاف الأدوية الناجعة كما فعل أحمد بن طولون حينما أنشأ بيمارستانا في مصر؛ وقد جعله بجوار بركة من المياه الطيبة والأشجار الباسقة راحة للمريض وعونًا له على شفائه!
وحرصت الدول المسيطرة على مقاليد الحكم كالسلاجقة على الاهتمام بالمرضى ومعالجتهم بصورة سريعة كي لا تنتشر العدوى بين الأصحاء، وترجع بعض المصادر استخدام السلاجقة للمستشفى إلى وقت مبكر من تاريخهم [13].
وقد كان اهتمام وزير السلطان طغرل بك، عميد الملك كبيراً بتنظيم بيمارستانات بغداد سنة 449هـ [14]، وكان للسلطان محمد بن ملكشاه دور كبير في دعم البيمارستانات في بغداد بالأموال؛ إذ أمر بصرف مائة ألف دينار في مصالحها.
وتدل بعض المصادر التاريخية على أن السلاجقة لم يكتفوا بذلك بل تجاوزوه إلى استخدام المستشفى المتنقل في حلهم وترحالهم.
فكان البيمارستان المحمول [15]، في جيش السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه السلجوقي كبيرا جدا، بحيث كان يحتاج حمله إلى أربعين جملاً، وكان هذا البيمارستان ملازما للجيش السلجوقي دائما [16].
والعجيب أن الدولة كانت تستعين بعلماء الطب في اختيار المكان المناسب لإنشاء المستشفيات، والمكان المناسب هو المكان الصحي النظيف الطيب المناخ الذي يُعين على شفاء المرضى.
فقد استعان عضد الدولة وزير الخلافة العباسية بالعالم الشهير أبو بكر الرازي في بناء المستشفى العضدي في بغداد، فقد «استشاره في الموضع الذي يجب أن يبنى فيه المارستان، وإن الرازي أمر بعض الغلمان أن يعلق في كل ناحية من جانبي بغداد شقة لحم، ثم اعتبر التي لم يتغير ولم يسهك فيها اللحم بسرعة، فأشار بأن يبنى في تلك الناحية وهو الموضع الذي بني فيه البيمارستان»[17].
بل وحرصت الدولة على اختيار أفضل الأطباء وأمهرهم عن طريق اختبارهم اختبارات تصفية؛ فلما «بنى (عضد الدولة) البيمارستان العضدي المنسوب إليه، قصد أن يكون فيه جماعة من الأطباء وأعيانهم، فأمر أن يحضروا له ذكر الأطباء المشهورين حينئذ ببغداد وأعمالها.
فكانوا متوافرين على المائة، فاختار منهم نحو خمسين بحسب ما علم من جودة أحوالهم وتمهرهم في صناعة الطب، فكان الرازي منهم، ثم إنه اقتصر من هؤلاء أيضاً على عشرة، فكان الرازي منهم، ثم اختار من العشرة ثلاثة فكان الرازي أحدهم، ثم إنه ميز فيما بينهم فبان له أن الرازي أفضلهم، فجعله رئيس البيمارستان العضدي»[18].
وقد وجدت في بعض المدن الإسلامية الكبرى أحياء طبية متكاملة؛ فقد حدَّث الرحّالة ابن جبير في رحلته التي قام بها في سنة (580هـ/1184م) تقريبًا، أنه رأى في بغداد حيًّا كاملا من أحيائها يشبه المدينة الصغيرة، يتوسَّطه قصر فخم جميل، تحيط به الحدائق والبيوت المتعدِّدَة.
وكان كل ذلك وَقْفًا على المرضى، وكان يَؤُمُّه الأطباء من مختَلَفِ التخصصات، فضلاً عن الصيادلة وطلبة الطب، وكانت النفقة جارية عليهم من الدولة ومن الأوقاف التي يجعلها الأغنياء من الأُمَّة لعلاج الفقراء وغيرهم [19].
- قدامة بن جعفر: الخراج وصناعة الكتابة ص46
- بن الأزرق: بدائع السلك في طبائع الملك ص222، والماوردي: تسهيل النظر وتعجيل الظفر ص 59
- هاشم زكريا: فضل الحضارة الإسلامية على العالم ص 462، 46
- ول ديورانت: قصة الحضارة 4/ 107
- أحمد مختار العبادي: الحياة الاقتصادية ص 377، 378
- شكيب أرسلان: غزوات العرب في فرنسا ص 238
- آدم متز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري 2/ 300، 301
- حسن إبراهيم: تاريخ الإسلام 3/ 332
- الجاحظ: التبصر بالتجارة ص25-34
- القلقشندي: مآثر الإنافة في معالم الخلافة 1/ 594
- ابن العبري: تاريخ مختصر الدول ص230
- شاهين مكاريوس: تاريخ إيران ص126
- أحمد عيسى: تاريخ البيمارستانات في الإسلام ص189
- ابن الأثير: الكامل في التاريخ 6/ 502
- نائف بن حمود: النظم الحربية عند السلاجقة ص196
- ابن خلكان: وفيات الأعيان 3/ 123، 124
- ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء
- مصطفى السباعي: من روائع حضارتنا ص101