تحقيق صادم: الأجهزة الطبية قد تحمل الموت لا الحياة
أكثر من 250 صحفيًّا استقصائيًّا، من 36 دولة حول العالم، ينتسبون لحوالي 60 مؤسسة صحفية كبرى، في القلب منها صحيفة لوموند الفرنسية والجارديان البريطانية، والبي بي سي… إلخ، اشتركوا في إتمام هذا العمل الذي ظهرت نتائجه للنور شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2018 الماضي.
تحقيق استقصائي ضخم، تحت رعاية الاتحاد العالمي للصحفيين الاستقصائيين، يفجر مفاجأة مرعبة عن كارثة صحية تمس حياة الملايين من المرضى حول العالم. الجزء الأكثر إثارة للصدمة أن مكمن تلك الكارثة الصحية هو الأجهزة الطبية التي وثق الملايين فيها، وقبلوا غرسها في أجسامهم، لكي تجعل حياتهم أفضل.
الأجهزة المقصودة هي تلك الأجهزة التعويضية التي يتم زرعها في الجسم لكي تحاكي وظيفة حيوية ناقصة، وأشهرها مضخات إفراز هرمون الأنسولين، التي تغني ملايين المصابين بمرض السكري عن حقن الأنسولين عدة مرات يوميًّا. وكذلك أجهزة منظمات ضربات القلب التي يتم توصيلها بالقلب، وزرع بطاريتها تحت الجلد، لدى مرضى التباطؤ الشديد في ضربات القلب، والتي بدونها قد تتوقف عضلة القلب عن العمل، أو تحدث اضطرابات كهربية قلبية مميتة.
أيضًا من ضمن الأجهزة التي شملها البحث المفاصل الصناعية التي يتم تركيبها جراحيًّا بدل الصمامات التالفة، كما في حالات كسور مفصل الفخذ… إلخ.
أرقام مفزعة
مضخة أنسولين
حوالي 5.5 مليون حادثة، كان ضحيتها أكثر من 82 ألف حالة وفاة، وما يقارب 1.7 مليون إصابة، وما يفوق الثلاثة الملايين ونصف المليون حالة اقتصر فيها الضرر لحسن الحظ على فشل الجهاز التعويضي في القيام بمهمته. تلك الحصيلة التي وردت في صدر المقال الذي تضمن نتائج التحقيق الصحفي الاستقصائي، هي وقائع 10 أعوام فقط في الولايات المتحدة الأمريكية، صاحبة المنظومة الصحية الأقوى في العالم، أما المملكة المتحدة فقد سجلت أكثر من 62 ألف واقعة في 3 أعوامٍ من 2015-2018م.
يحذر الباحثون أن الواقع قد يكون أسوأ بكثير من الأرقام المذكورة، لأن كفاءة عملية تسجيل وتقرير مثل تلك الوقائع لا تكون 100%، كذلك في بعض البلدان المتقدمة تحول قوانين حفظ أسرار المرضى دون التسجيل الكامل لكل حالات المضاعفات المترتبة على الأجهزة الطبية. أما في في البلدان النامية، فحدِّث ولا حرج عن الفوضى الطبية، وغياب الشفافية، وغيرها من الأسباب التي تحول دون معرفة الحجم الحقيقي للمشكلة.
في تشيلي على سبيل المثال؛ اكتشف الباحثون وجود 4 حالات فقط للتوثيق الجيد لمضاعفات الأجهزة الطبية خلال 10 سنوات، وفي المكسيك تمنع السلطات تداول تقارير مشكلات الأجهزة الطبية.
الشفافية تحت أقدام السوق
مقطع فيديو لبعض شهادات المرضى عن مشكلاتهم مع الأجهزة الطبية:
بجانب مئات اللقاءات مع المرضي والأطباء عن تجاربهم الحقيقية مع وقائع متصلة بالأجهزة الطبية، فإن الصحفيين اطّلعوا على آلاف الوثائق الرسمية، في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، والتي أظهرت غياب رقابة فعالة على الأجهزة الطبية التعويضية، حيث إن القواعد المنظمة تضع عملية اختبار الأجهزة، والنظر في مشكلاتها، بالأساس على عاتق الشركات المصنعة نفسها، والتي لا يتعامل الكثير منها بالشفافية اللازمة تجاه المشكلات الكبرى التي قد تحدث أثناء استخدام أجهزتها.
على سبيل المثال، شركة كونسيبتس الأمريكية، والتي تلقَّت بينَ عامي 2008-2010م، حوالي 16 ألف شكوى من العملاء بخصوص مضاعفاتٍ صحية عديدة سبَّبها جهاز طبي من إنتاجها، يمنع الإنجاب من خلال وضعه عبر جراحة صغيرة في قناة فالوب لدى المرأة. لم تقم الشركة بإبلاغ هيئة الدواء والغذاء الأمريكية إلا بأقل من 200 شكوى، مما أخفى الحجم الحقيقي للآثار الجانبية لاستخدام هذا الجهاز عن الآلاف من الزبائن.
كانت النتيجة أن الهيئة أصدرت تحذيرًا عام 2016 بوجود مضاعفات قد تمس الحياة نتيجة استخدام ذلك الجهاز، ثم قيَّدت مبيعاته عام 2018 بعد أن وصل إجمالي الحالات التي تعتقد بحدوث المضاعفات لديها بسببه إلى أكثر من 12 ألف حالة.
في نقس السياق السابق كشفت هيئة الغذاء والدواء الأمريكية عن أكثر من 4400 مخالفة خلال عقدٍ من الزمان، ارتكبتها شركات تصنيع الأجهزة الطبية في التعامل مع الشكاوى المتعلقة بمشاكل في أجهزتها، كل مخالفة منها مسَّت مئات أو آلاف الحالات المرضية. كذلك قامت بعض الشركات بالتلاعب في تقاريرها التي ترسلها للهيئة لتضعها الأخيرة في قاعدة بياناتها المفتوحة، والمتعلقة بالأجهزة الطبية ومشكلاتها. تضمَّن هذا التلاعب تسجيل بعض حالات الوفيات في التقارير على أنها مجرد إصابات أو أعطال، لإخفاء الرقم الحقيقي للوفيات.
كذلك أظهرت الوثائق أن لوبي الشركات الرئيسية المصنعة للأجهزة الطبية كثيرًا ما كان يتكتل قانونيًّا وسياسيًّا ضد أية محاولات برلمانية أوروبية لتقييد تداول الاجهزة الطبية، وزيادة القواعد المنظمة للأمر. مثل هذا التكتل ليس مستغربًا بالنظر إلى الحجم الضخم لذلك السوق المتنامي، والذي يبلغ حوالي 400 مليار دولار أمريكي.
عوائق وعجز في قواعد البيانات
تحدث القائمون على التحقيق عن مصاعب قانونية وإدارية واجهت العمل الذي قاموا بها، وكيف أنهم حاولوا الالتفاف على تلك العقبات، مستفيدين من قوانين حرية التعبير وشفافية المعلومات في البلدان المتقدمة، وذلك ليتمكنوا من الوصول إلى قواعد البيانات القومية المسجل فيها وقائع المضاعفات والحوادث المرتبطة بالأجهزة الطبية. لكن ظهرت مفاجآت سلبية أخرى في وجه البحث فيما يتعلق بقواعد البيانات تلك.
في ألمانيا على سبيل المثال ظلَّ هناك لسنوات فشل واضح في التسجيل الكفء لحوادث الأجهزة الطبية، ففي مطلع القرن الحالي كان عدد الحالات المسجلة حوالي 100 حالة فقط سنويًّا، بينما في السنوات الأخيرة ارتفع الرقم إلى 14 ألف حالة سنويًّا.
أما في فرنسا، فرغم وجود قاعدة بيانات لإحصاء مثل تلك الحالات، تابعة للهيئة القومية لسلامة الدواء، دُوِّن فيها حوالي 160 ألف واقعة في 10 أعوام، منها حوالي 20 ألف حالة في عام 2017م فحسب، فإن العديد من البيانات المهمة يظل ناقصًا، مثل تفاصيل الأجهزة التي تسبَّبت في المضاعفات، والعدد الكلي الصحيح لمجموع الأجهزة التعويضية التي تم تركيبها في فرنسا … إلخ، مثل تلك البيانات ضرورية لمعرفة النسبة المئوية للمضاعفات من مجمل حالات الأجهزة، ومعرفة المكامن الحقيقية للمشكلة.
هذا العجز في التوثيق الجيد لكل ما يتعلق بالأجهزة الطبية برز في التعامل مع بعض المشكلات المهمة مثل تلك التي وقعت عام 2010م، عندما حدثت بعض حالات الوفيات، والإصابات الخطيرة، لدى بعض السيدات، نتيجة انفجار كرات السيليكون التعويضية للثدي. حينها لم يكن بالإمكان معرفة العدد الدقيق، والبيان الفعلي، بكل حالات السيدات اللواتي حصلن على مثلها، وذلك لتحذير بعضهم من الأنواع القابلة لحدوث المضاعفات.
الصادم أن البيانات التقديرية تشير إلى ما لا يقل عن 400 ألف امرأة حول العالم تضررن بشكل ما من مضاعفات لها علاقة بكرات السيليكون، منهم حوالي 30 ألف في فرنسا وحدها. وما خفيَ كان أعظم.
في الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن هيئة الغذاء والدواء حتى عام 2016 صارمةً في قواعدها الملزمة لمصنِّعي كرات السيليكون بإعلان المضاعفات بشفافية كاملة، سوى المضاعفات شديدة الخطورة. عندما تم تشديد تلك القواعد، زاد عدد الحالات المسجلة للمضاعفات من 200 حالة سنويًّا، إلى 4500 عام 2017م، وأكثر من 8 آلاف حالة في النصف الأول من عام 2018م.
اقتراحات للحل
تصريح للبروفسور «ديريك ألدرسون»، رئيس الجمعية الملكية للجراحين البريطانية
أية محاولة لحل تلك الكارثة الصحية الجديدة، لا بد أن تمر أولًا بالتوثيق الجيد لتفاصيل حالات مضاعفات الأجهزة، وذلك للوصول إلى بيانات إحصائية حقيقية عن حجم المشكلة، ومدى ارتباطها بأنواعٍ معينة من الأجهزة، أو طرق تركيب ومتابعة محددة… إلخ.
في التشريعات الأوروبية لعام 2017م، والمتصلة بتلك القصة، هناك حث على تشجيع الأطباء، والعاملين بمجال الصحة، على التوثيق الجيد لما يقابلهم من حالات، لكن دون إلزام قطعي، يتضمن عقوبات محددة في حالة التقصير في تلك المهمة.
هناك أيضًا محاولات عديدة لزيادة الشفافية فيما يتعلق بهذا الأمر، لكن كشف التحقيق الاستقصائي عوارًا كبيرًا بها. كمثال، التقارير البينية بين المؤسسات المسئولة في الدول الأوروبية، بخصوص الحوادث الكبرى المتعلقة بالأجهزة، والتي بلغت حوالي 8500 في 10 أعوام. تمر تلك التقارير عبر ما يسمى المنتدى الدولي لمنظمي الأجهزة الطبية، وهو كيان مبهم الصلاحيات، لم يتخذ إجراءات ملموسة للاستجابة للوقائع التي شملتها التقارير.
كذلك يوصي الباحثون بضرورة تطبيق قواعد أكثر حزمًا للتسجيل التجاري لتلك الأجهزة في الاتحاد الأوروبي بوجهٍ خاص، حيث يوجد هناك أكثر من 60 هيئة لها صلاحية التصريح بالتداول التجاري للأجهزة الطبية الجديدة، دون اشتراطاتٍ كثيرة، مما يسهل دخول الكثير من الأجهزة، وتداولها على نطاق واسع بين مختلف البلدان الأوروبية، دعمًا لحرية السوق، على حساب معايير السلامة والشفافية.
باختصار؛ لا حلَّ إلا بتقديم صحة الإنسان على صحة السوق.