تركيا: الاستثمار في الديمقراطية والتنمية
لا يمكن المرور على فشل الانقلاب في تركيا دون التوقف مع أحد أهم العوامل التي ساهمت في إفشاله وهو الوعي الشعبي بالديمقراطية وضرورة المحافظة عليها كمكتسب لا يقبل المساومة مهما بلغت الاختلافات الفكرية والسياسية مع الحزب الحاكم. تجسد هذا الوعي الشعبي في مواقف الأشخاص والأحزاب المعارضين للرئيس أردوغان الذين لم تمنعهم اختلافاتهم من إبداء مواقف حاسمة منذ اللحظة الأولى والنزول إلى الشارع معلنين انحيازهم إلى الشرعية الديمقراطية التي يمثلها أردوغان ومنددين بالانقلاب.
هذا الوعي الشعبي ساهمت في تشكيله التجربة المريرة للأتراك تحت حكم العسكر وإدراكهم أن العسكر إذا حكموا دولةً أفسدوها، وجعلوا أعزة أهلها أذلّة، وأضاعوا مكتسبات الشعب في حرية التعبير والعمل السياسي، وساسوا الناس بالقهر والإكراه ولم يحفظوا ودًّا لصديق، فالعقلية العسكرية لا تستطيع التعايش مع القوى المدنية ولا تستوعب أي هامش للحرية والاختلاف وتأخذ بالبلاد إلى نفق الفقر والتخلف والمديونية. في مقابل هذه الصورة السلبية الراسخة في الوعي التركي لحكم العسكر نجح حزب العدالة والتنمية خلال سنوات حكمه في تقديم نموذج اقتصادي وتنموي ناجح عمَّ نفعه مختلف شرائح الشعب التركي وهو ما يفسر ثقة حزب العدالة والتنمية التي تبدّت في شعاره الانتخابي: «من لم تصله خدماتنا فلا ينتخبنا».يعدد المحللون أسبابًا كثيرة يعزون بها فشل الانقلاب؛ مثل مواقف قادة الأركان والجيش الأول والمخابرات، ودور الشرطة الخاصة التي أنشأها أردوغان واستعان بها في مواجهة الانقلابيين عسكريًا، هذه الأسباب صحيحة لكنها أسباب فنية تتعلق بالملابسات الوقتية ليلة الانقلاب، أما السبب الجامع فهو البيئة النفسية والثقافية في المجتمع التركي التي ولدت هذه المواقف، فالوعي الجمعي بقيمة الديمقراطية والرضا الشعبي عن إنجازات التنمية هو الذي سمح بشق صفوف العسكر لأن الإنجاز الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي الذي تحققه حكومة ديمقراطية يسهم بالتأكيد في خلخلة صفوف العسكر وإضعاف دافعيتهم ويشكل توجهات جديدةً تؤمن أن لا مصلحة لها في معاداة الشعب ومؤسساته الديمقراطية الناجحة. إن العسكر يستمد شرعيته من مناخات ضعف المجتمع المدني وانقسام البلاد السياسي والمخاطر الأمنية والعسكرية، في هذه الأجواء تقوى عصبية أفراد وقيادات المؤسسة العسكرية ويعتقدون أنهم يملكون شرعيةً أخلاقيةً للإمساك بالسلطة، لكن نجاح حزب العدالة والتنمية الاقتصادي وقدرة المواطن على إبصار آثار هذا النجاح بوضوح أضعف المبرر الأخلاقي لعودة العسكر، ومنح أردوغان تفويضًا شعبيًا مكّنه من تمرير برنامجه الأمني والسياسي الذي حجم نفوذ العسكر التاريخي وسمح له باختراقهم وسمح له بتشكيل شرطة خاصة تتبنى عقيدةً مغايرةً لعقيدة مؤسسة الجيش التي تقدم نفسها بأنها حامية الجمهورية الأتاتوركية.إن استعراضًا لتاريخ الانقلابات حول العالم يرينا أن الجيوش تلجأ للبحث عن مبررات سياسية وأخلاقية للإطاحة بالأنظمة الديمقراطية وإظهار نفسها في صورة البطل المنقذ؛ مثل تعرض البلاد لانقسام سياسي حاد مثل الذي شهدته مصر واتخذه العسكر غطاءً لانقلاب الثالث من يوليو، أو تعرض البلاد لأزمة اقتصادية كبيرة، فإذا نجح النظام الديمقراطي إلى إضافة شرعية جديدة عدا شرعيته الدستورية متمثلةً في شرعية النجاح المرئي للناس وترسيخ قناعة بأن الديمقراطية تعني النمو والازدهار فإن هذه النجاحات ستكون عاملاً مهمًا في لجم العسكر وترسيخ حكم ديمقراطي بأدوات من قوة مدنية اقتصادية واجتماعية.
لقد رأينا مواقف مشرفةً للمعارضة التركية بكافة أطيافها، وفي الساعة الحرجة لم يجد أردوغان منبرًا يوصل عبره رسالته إلى الشعب بالخروج إلى الميادين إلا من خلال قناة تلفزيونية معارضة، ورأينا شخصيةً على خلاف مع أردوغان مثل أحمد داود ينزل إلى الشارع ويحث الناس على إنقاذ ديمقراطيتهم، ورأينا دورًا مبادرًا وذكيًا من الجماهير التي نزلت وأغلقت الشوارع ومقرات الجيش بالشاحنات وسيارات البلدية؛ مما أفقد الجيش زمام المبادرة. هذه المواقف جميعها لم تكن وليدة ليلة الانقلاب إنما ثمرة وعي الشعب التركي وأحزابه وهيئاته بأن الديمقراطية خط أحمر وأن المساس بها لا يعني المساس بشخص أردوغان أو حزبه إنما مساس ببلادهم ومنجزاتها، وأن الخلاف مع أردوغان تحت سقف البرلمان لا يعطي شرعيةً لقصف البرلمان، فكان القرار المصيري للشعب ومؤسساته بالدفاع حتى الموت للحيلولة دون العودة إلى ظلمات حقبة العسكر.لم يبدأ حزب العدالة خطة التصدي للانقلاب ليلة الحدث، إنما بدأت خطته يوم تأسيس الحزب ذاته، فهذا الحزب لم يقدم نفسه للشعب التركي في قالب أيديولوجي كان من شأنه أن يعزز الانقسام والاستقطاب في المجتمع وأن يمنح العسكر فرصة اللعب على تناقضات القوى الوطنية كما فعل عسكر مصر، بل قدم حزب العدالة والتنمية برنامجًا وطنيًا جامعًا وخطةً اقتصاديةً تنمويةً لمصلحة كل مواطن تركي، وبذلك شعر المواطنون أن المستهدف هو مصالحهم، و كان على العسكر أن يواجهوا جبهةً وطنيةً متماسكةً لا تفرقها الاختلافات.الدرس التركي الذي يقدم نفسه للعرب حتى يستفيدوا منه في معركتهم من أجل الديمقراطية والتنمية هو أن القوة العسكرية إذا عزلت من امتداداتها الشعبية، ووجهت بوعي وطني وأحزاب مدنية قوية قادرة على تقديم برامج اقتصادية وتنموية ناجحة فإنها ستصبح قوةً مكبلةً، والعالم عمومًا يسير في اتجاه موت المؤسسة العسكرية في مقابل تعزيز نفوذ أدوات القوة الناعمة؛ لأن القوة الناعمة وإن لم تكن قادرةً على تدمير أسلحة المؤسسة العسكرية فإنها قادرة على تكبيلها وتفتيت هذه المؤسسة من الداخل لأن العسكر أنفسهم لا يعيشون بالسلاح وحده، فأفراد المؤسسة العسكرية لهم امتداداتهم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وإذا وضع العسكر أمام معادلة: إما العمل تحت سقف ديمقراطي والاندماج الاجتماعي وإما العزلة والمقاطعة وتضرر مصالحهم الاقتصادية والمواجهة الشعبية فإن مصلحتهم ستدفعهم للقبول بحكم الديمقراطية، وسيثبت الشعب أن إرادته ووعيه أقوى من كل سلاح.