اختراع «الإرهاب»: كيف أصبح محمد أبو تريكة إرهابيا؟
تطرح مسألة إدراج اللاعب المصري محمد أبو تريكة، ومعه مئات المصريين الآخرين، في قائمة «الإرهاب» سؤالا مهما حول هذا المفهوم أو المظلة العجيبة التي بإمكانها أن تجرم هذا الطيف المتنوع والواسع من أفراد المجتمع، والعاملين في المجال العام.يحيلنا هذا السؤال لدرس برز بقوة في الأوساط الفلسفية منتصف القرن السابق، هو العلاقة المتبادلة بين الخطاب والسلطة. نبع سؤال هذا الدرس الجديد من قصور النظرية التقليدية -المرتبطة بمفهوم العقد الاجتماعي- عن تفسير ممارسات السلطة وتمددها وطريقة عملها.
الدرس الفوكوي
يشير الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في محاضرته في الكوليج دي فرانس بهذا الخصوص إلى أنه بعكس التصور الهوبزي المبني على نظرية العقد الاجتماعي فإن دولة المؤسسات لا تنهي حرب الجميع ضد الجميع، إنما تضمن استمرارها بشكل آخر، أي بحسب تعبير فوكو فإن «السلطة والسياسة هي الحرب المستمرة بوسائل أخرى». أي أن هذه المؤسسات تستبطن في حقيقتها علاقات الهيمنة والقوة، بينما تعكس بشكل سطحي علاقات الاقتصاد والملكية الفردية.من هذا المنظور الجديد تكتسب دراسة المؤسسات باعتبارها سيرورة تاريخية متطورة وليست كيانات نظرية جامدة أهمية جديدة. وذلك بالكشف عن السلطة التي تسيرها وتختبئ بين ثناياها عن طريق تحليل الخطاب المشكل لها. بعبارة أخرى فإن الخطاب الذي تستخدمه المؤسسة أو السلطة ليس نثرا اعتباطيا إنما هو نص مؤسس لها يمكن عن طريق تحليله وتفكيكه والبحث في مركباته التاريخية والمفاهيمية تسليط الضوء على المساحات الحقيقية التي تتفاعل فيها السلطة وتمارس هيمنتها على الذات والمجتمع.بالعودة إلى سؤالنا الأول يمكننا أن نرى أن استخدام مفهوم «الإرهاب» من قبل المؤسسة السياسية يتيح لها مساحات معينة لممارسة السلطة والفعل السياسي مختلفة عن تلك التي قد تتيحها مفاهيم مثل «المعارضة السلمية أو التمرد المسلح أو الحرب الأهلية أو سواها من مفاهيم الصراع السياسي».تقع مهمة استكشاف هذه المساحة بالذات التي يتيحها مفهوم الإرهاب على الجينالوجيا أو الحفريات التي تنقب عن التطور التاريخي للمصطلح وارتباطه بالواقع الاقتصادي والاجتماعي والأيديولوجي وتموضعه في البنى القانونية والإعلامية للمؤسسات التي تستخدمه.
الحرب العالمية الرابعة
الحقيقة أن مصطلح الإرهاب ليس مصطلحا جديدا على الأوساط السياسية، لكن فعل الإرهاب كان دائما محصورا في شكل من أشكال الحروب التي قسمها كارل شميت إلى حروب بين الدول وحروب أهلية وحروب الأنصار أو الحروب الثورية. أما حين لا تسعى الحرب لتأسيس سلطة داخل إطار شرعية المجتمع الدولي أو المحلي فهذا نمط جديد من الإرهاب بالتأكيد.ظهر هذا النمط من الإرهاب كمفهوم مستقل مع اصطدام الطائرات المدنية ببرجي التجارة العالميين في الحادي عشر من سبتمبر من العام 2001. هذا الحدث المفصلي في التاريخ يسميه الفيلسوف الفرنسي جان بودريار حدثا سياسيا وليس فعلا سياسيا، باعتباره قطيعة تاريخيا ومدخلا إلى مرحلة جديدة دشنت الحرب العالمية الرابعة.الفرق بين الحدث السياسي والفعل السياسي من وجهة نظر فيلسوف فرنسي آخر هو جاك دريدا هو أن الفعل السياسي يؤسس نفسه على الماضي ويمكن توقعه والتعامل معه ضمن شرعية الخطاب القائم بالفعل، أما الحدث السياسي فهو بالأساس وعد بالمستقبل والمجهول يفرض على الفاعل السياسي قطيعة مع قواعد اللعبة القديمة ويجبر المفكرين كذلك على استحداث عدة مفاهيمية جديدة تستطيع وصف مرحلة ما بعد هذا الحدث والتعامل معها.مُضارب البورصة الأمريكي الذي يعمل في إحدى شركات وول ستريت أو ذلك المحاسب الذي كان جالسا على أحد المقاهي القريبة أثناء اصطدام الطائرتين بالبرجين لم يفهما تماما ما الذي قع للتو، حتى بعد انتهاء الحدث بأيام وشهور وربما سنوات، فالإحاطة بمشهد شديد السريالية كهذا قد يكون أصعب على الذهن الغربي من الإحاطة بـ غزو الكائنات الفضائية.العدو هو لا أحد سوى شخص تظهر صوره على التلفاز، ربما يكون حقيقيا وربما لا يكون. شبكة من الأشخاص يعملون خارج إطار القانون الدولي والأعراف الدولية ولا يسعون لتأسيس سلطة ولا يمتلكون أيديولوجيا واضحة بالمفهوم الغربي، أي بعبارة مختصرة لا يقدم هذا العدو الجديد أي خطاب معتاد يبرر مثل هذا القتل الذي نسيه رجل الشارع الغربي منذ زوال خطر الحرب النووية مع الاتحاد السوفيتي.هذا الإرهاب الجديد إذا هو القتل دون خطاب. أن تصرخ دون سبب الله أكبر ثم تفجر نفسك في جمع من الناس لأن سبعين حورية بانتظارك في الجنة. هكذا قرأت الإمبراطورية الهجوم، فلم يكن أمامها سوى أن تجيش جيوشها للرد على هذا الاعتداء وسحق هذا العدو المجهول المكان والهوية.كان رد الإمبراطورية نصلا ذا حدين؛ فبحسب الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، قدمت أحداث الحادي عشر من سبتمبر وإعلان الحرب الدولية ضد الإرهاب فرصة للانتقال من المواطنة القومية إلى المواطنة الكونية حيث تؤدي الجهود الدولية المشتركة على مستوى الدفاع والأمن والاستخبارات والسياسة الخارجية إلى تدعيم المؤسسات الدولية وتذويب المؤسسات المحلية. لكن هابرماس لا ينطلق في تفاؤله، فهو يدرك أن العالم ليس وحدة واحدة، وأن المركز لم يحل بعد مشاكله مع الهامش والأمم المهزومة التي تعاني من تبعات التحديث السريع والقهري.في حين يرى فلاسفة آخرون مثل جان بودريار أن هذه الحرب العالمية المزعومة ضد الإرهاب ليست سوى سقوط الحضارة الغربية على نفسها بنفس الطريقة التي سقط بها البرجان؛ إذ إن عملية التجييش والتحركات العسكرية والأمنية والاستخباراتية وحتى القانونية والسياسية ستؤدي إلى انهيار المكتسبات المدنية وطريقة الحياة التي سعى الغرب لبنائها طوال العقود الماضية. هذه الحرب العالمية هي الرابعة بعد الحربين الأوروبيتين الأولى والثانية والحرب الباردة ومن وجهة نظر بودريار فهذه هي الحرب الوحيدة العالمية فعلا.لكن إذا تعمقنا قليلا في فهم القوى والديناميات الفاعلة في قلب النظام العالمي بإمكاننا أن نرى الفرصة التي أتاحها هذا التوسع المفاجئ للمفهوم الفارغ والغامض المسمى الإرهاب. مثّل هذا الفراغ والغموض الخطابي مساحة فارغة يمكن ملؤها بالطريقة التي تناسب الفاعل السياسي. يكفيه فقط أن يمتلك القدرة الإعلامية والسياسية. أصبح بإمكان كل قوى الاحتلال والإمبريالية والاستبداد والاستغلال أن تستخدم هذا المفهوم لوصم خصومها من قوى المقاومة سواء كانت فردية أو جماعية، وأصبح بإمكان المجتمع الدولي أن يؤدب الدول المارقة باعتبارها دولا ممولة وداعمة للإرهاب.
الأرهبة والاستبداد
تشير الفيلسوفة الأمريكية من أصل ألماني حنة أرندت في كتابها المرجعي «أسس التوتاليتارية» إلى أن النظم الشمولية تعتمد في بسط سيطرتها ومد نفوذها على سيادة الخطاب الأوحد أي أنها لا تقبل بوجود خطابات أخرى داخل جسد الأمة بل قد لا تقبل هذه النظم الشمولية في طورها الأكثر تطرفا بوجود أي خطابات أخرى على مستوى العالم كالنظم النازية والفاشية وغيرها.لهذا يتيح الفراغ الكامن في مفهوم الإرهاب الجديد فرصة مناسبة لهذه الأنظمة لطمس الخطابات الأخرى المعادية. في عهد ما قبل الحرب على الإرهاب كان لابد لهذه الأنظمة في كثير من الأحيان محاججة هذه الخطابات المعارضة واللجوء لدحضها ثقافيا وإعلاميا أما في زمن الحرب على الإرهاب فيكفي هذه الأنظمة أن تقوم بوصم هذه الخطابات المعارضة بتهمة الإرهاب أي اعتبارها لغوا عبثيا منافيا للعقلانية يهدف لزعزعة الاستقرار.تذكر بسمة عبد العزيز في كتابها «ذاكرة القهر» أن الأنظمة القمعية تلجأ إلى عملية مكونة من عدة خطوات لتبرير قمعها للمعارضة، وهي الخطوات التي لا تصبح ممكنة إلا في وضع استثنائي تتيحه المظلة الفضفاضة لمفهوم الإرهاب الجديد. يتوحد النظام القمعي بالوطن ويعتبر أن معارضته هي معارضة الوطن، ثم يتم وصم جهة معارضة أو جهة مجهولة وخيالية بمحاولتها إسقاط هذا الوطن، ثم يقوم بتقديم جهاز متخصص في مكافحة الإرهاب أو هذا الخطر الجديد، ثم يتم تلميع هذا الجهاز باعتبار أفراده أبطالا يواجهون الشر واللاعقلانية التي يمثلها هذا الإرهاب، وبهذا تصبح جميع الوسائل من بينها التعذيب والقمع والاعتقالات العشوائية والتعسفية ومصادرة الأموال والممتلكات مشروعة إزاء هذا الخطر الوجودي.
مصر والإرهاب
واجه النظام الحاكم في مصر منذ يوليو 52 أشكالا مختلفة من المعارضة السلمية السياسية والمعارضة المسلحة كانت أشدها هي فترة الصحوة الإسلامية في سبعينيات وستينيات القرن الماضي حيث ظهرت جماعات وتنظيمات إسلامية مختلفة نجحت في اغتيال رئيس الدولة ومزجت بين العمل التنظيمي المسلح والعمل الثوري والجماهيري إلى جانب وجود جماعة الإخوان المسلمين الأقدم تاريخيا حتى من النظام الحاكم نفسه.إزاء هذا التهديد لجأ النظام المصري إلى قانون الطوارئ والاعتقالات والمحاكم العسكرية والمدنية. كانت التهمة الغالبة الموجهة إلى المعارضة في ذلك الوقت هي الانتماء لجماعة تحاول قلب نظام حكم. هذه التهمة بالذات كانت تعني أن هذه الجماعات وهذه المعارضة تمتلك مشروعا أو خطابا مناوئا لنظام الدولة القائم وأنها تسعى للسلطة.شكل مفهوم الإرهاب فرصة جديدة للنظام وتحولت هذه التهمة السائدة إلى تهمة جديدة هي الانضمام لجماعة إرهابية وتعطيل مؤسسات البلاد، أي أن هذه الجماعات والأفراد المعارضة لم تعد تمتلك مشروعا أو خطابا بديلا، وإنما مجرد رغبة لا عقلانية في عرقلة مؤسسات السلطة.بحسب نص القانون الإرهاب الجديد في مصر توسعت الجرائم المدرجة تحته لتشمل التمويل والدعم الإعلامي والتحريض والإيواء، ويشير القانون كذلك إلى أن مجرد إذاعة أخبار أو بيانات عن عمليات إرهابية داخل البلاد بما يخالف البيانات الحكومة يعتبر دعما للإرهاب ويسمح هذا القانون للمحكمة بمصادرة أموال المتهمين بالإرهاب ومنعهم من مزاولة العمل السياسي، ويسمح للحكومة بفرض أوضاع استثنائية خاصة كحظر التجوال والإخلاء القسري لمدة ستة شهور قبل الرجوع إلى البرلمان أو أي جهة قضائية أخرى.وأخيرا يفرض القانون الجديد للكيانات الإرهابية – وهو غير قانون الإرهاب – على محكمة الاستئناف في القاهرة تعيين قائمة بأسماء جميع الكيانات التي تعتبرها الدولة إرهابية ويكون أفرادها عرضة لمنعهم من التعيين في الوظائف العامة وتجميد أموالهم ومنعهم من السفر وغيرها من الإجراءات التعسفية. وهو القانون الذي تم على أساسه إدراج اللاعب المصري محمد أبو تريكة و 1500 مصري آخر في قائمة الإرهاب.