مقدمة في العلم الجنائي: الزرنيخ وميلاد علم السموم
أطلقوا عليه «مسحوق الميراث poudre de succession» و«هدية اّل بورجيا». مسحوق أبيض فتاك عديم الرائحة يصعب تمييز طعمه إذا وضع في الطعام أو الشراب على هيئة صلبة أو كمحلول، وتكفي جرعة شديدة الضآلة منه لقتل إنسان بالغ في غضون يومين مريرين من الأعراض المؤلمة. في الوقت ذاته، ذاع استهلاك المحلول المخفف للغاية من هذا المسحوق كشراب مفيد للصحة بشكل عام يتناوله الناس كتناولهم لمكملات الغذاء في الوقت الحاضر، كما كان يستخدم في تحضير «محلول فاولر» لعلاج – كما ساد الاعتقاد آنذاك – أمراض عديدة كالسل والمالاريا والزهري والصرع.
يمتد تاريخ الزرنيخ الأبيض (أكسيد الزرنيخ الثلاثي) منذ الآشوريين مرورًا بالإغريق والرومان. وأشهر القصص تحكي عن أجريبينا الصغرى أمّ الإمبراطور الروماني نيرون والتي قتلت زوجها لتتمكن من الزواج مرة أخرى بالإمبراطور كلوديوس (الذي قامت بقتل زوجته أيضا)، ثم قتلت ابن الأمبراطور ليصبح ابنها – نيرون – هو الإمبراطور خلفًا لكلوديوس. لسوء حظها، سيقوم نيرون بإعدامها بعد كل ما اقترفته في سبيل أن يعتلي هو عرش الإمبراطورية لاعتقاده بأنها تخطط لقتله. أما حديثًا، فيعتبر القرنان الثامن والتاسع عشر هما العصر الذهبي للقتل بالزرنيخ الأبيض، حيث اشتهرت تلك الفترة بانتشار جرائم القتل العائلية طمعًا في الميراث حتى أصبحت معظم الجرائم تتمحور حول ابن يقتل أبيه أو أخت تقتل أخيها أو زوج يقتل زوجته التي ترك لها أهلها ثروة طائلة… إلخ.
السباق نحو إثبات الإدانة
في القرن السادس عشر، أعلن باراسيلوس – الطبيب والخيميائي الثوري الشهير – أن كل المواد سموم، وأن مقدار الجرعة فقط هو ما يجعل المادة غير سامة. بالنظر للزرنيخ، نجد أنه عنصر هام للعمليات الحيوية في أجسام الكائنات الحية، كما أن وجوده في الماء العذب – ولكن بتركيز منخفض جدًا – أمر طبيعي. من هنا كان من الضروري ليس فقط إيجاد الزرنيخ في جثة الضحية أو على الأدوات المحيطة بها، بل أيضا إثبات أن نسبة الزرنيخ الموجود أعلى من المستويات الطبيعية التي قد تتواجد بسبب التعامل اليومي مع المواد المحتوية عليه، كورق الحائط و مبيدات القوارض التي احتوت على متراكبات الزرنيخ والنحاس، بل وكذلك في التربة أيضا.
كانت المحاولات لإيجاد طريقة دقيقة وحاسمة لاكتشاف الزرنيخ في جثث الضحايا تسير على قدم وساق في أنحاء أوروبا، حيث أن صعوبة اكتشافه وسهولة استخدامه جعلتا منه الاختيار الأمثل للقتلة من كل نوع. ظلت المشكلة هي كون الاختبارات المتوافرة آنذاك لم تكن تتميز بالحساسية العالية، بالإضافة لتطلبها قدرًا عاليًا من المهارة في التنفيذ. كان الأمر يشبه أحجية، فمن ناحية لدينا اختبارات تتطلب جرعات عالية من الزرنيخ لتظهر نتائج رغم احتياج القاتل لجرعات صغيرة لقتل ضحيته، وبنفس الوقت لدينا مشكلة التفرقة بين وجود الزرنيخ الطبيعي والتسمم بالزرنيخ والقتل العمد بالزرنيخ . أما عن الاختبارات المتاحة فقد كانت مشكلة بحد ذاتها.
في عام 1775 أتى أول اختبار للكشف عن الزرنيخ على يد مكتشف الكلور كارل فيلهيلم شييل. كان الاختبار يقوم على تكوين غاز الأرسين AsH3 بتسخين العينة – المشكوك في احتوائها على الزرنيخ – في محلول يحتوي على الزنك وحمض النيتريك. يعتمد الاختبار على ظهور رائحة الثوم المميزة لغاز الأرسين. إلا أن ذلك يتطلب تواجد كمية كبيرة من الزرنيخ في العينة مما جعله اختبارًا محدود الفعالية. وتلى اختبار شييل العديد من التفاعلات الأخرى. فمثلا قام هانيمان بترسيب الزرنيخ من محلوله على هيئة كبريتيد الزرنيخ، بينما قام ميتزجر باختزاله إلى زرنيخ معدني بتسخين أكسيده مع الكربون، وهي الطريقة التي طبقها فالنتاين روز على أنسجة المعدة. رغم ذلك، ظلت المعضلة مستعصية على الحل.ويمكن وصف اختبارات شييل، وهانيمان وغيرهم بأنها اختبارات غير نوعية Nonspecific، أي أنها تعطي نفس النتيجة مع عدد من العناصر تتشابه في خواصها الكيميائية. لذا كان من الممكن لمحامي الدفاع النيل من مصداقية الاختبار ونتائجه باستخدام هذه النقطة. استمر الوضع على هذا المنوال حتى تمت تبرئة جون بودل من جريمة قتل جده.
بودل في مواجهة مارش
في عام 1832 كان جون بودل تحت المحاكمة لاتهامه بقتل جده ليحصل على الإرث الضخم. ولم تكن شهادات الصيدلي الذي اشترى منه بودل الزرنيخ الأبيض والخادمة التي شهدت بأن بودل قد تفوه بأنه يتمني موت جده كافية للإدانة بجريمة القتل. لجأ الادعاء إلى رأي الخبراء لتأكيد موت الجد البالغ من العمر 80 عاما مسموما وليس لأسباب طبيعية. وكان هذا هو دور مارش في القضية.
استخدم مارش طريقة هانيمان لإثبات وجود السم في القهوة التي أعدها بودل لجده، وتمكن من ترسيب الزرنيخ على هيئة كبريتيد زرنيخ أصفر واضح، لكن أتت الرياح بما لم تشتهِ السفن. ظهرت المفاجآة عند تقديم هذا الدليل إلى المحكمة، حيث كان كبريتيد الزرنيخ قد انحل وتسبب ذلك في تغير لونه، مؤديا لعدم اقتناع المحكمة بالنتيجة وتبرئة بودل والذي سيتفاخر لاحقا بقتله لجده وهروبه من العقوبة. تحولت هذه الواقعة لهوس لدى مارش الذي صمم أن عليه إيجاد طريقة ما لتكوين ناتج ثابت من تفاعلات الزرنيخ لكيلا يتمكن قاتل آخر من الفرار مهما كلفه الأمر. استغرق الأمر عشر سنوات ولكنه نجح في النهاية.
تتلخص فكرة اختبار مارش في تعريض العينة الحيوية لغاز الهيدروجين المتولد حديثا من تفاعل الزنك وحمض الكبريتيك. ينتج عن هذه الخطوة غاز الأرسين – كما في تفاعل شييل – إلا أن تسخين هذا الغاز يؤدي لاختزاله إلى زرنيخ معدني رمادي اللون يترسب على أي سطح صلب متاح لتكوين ما يسمى بالمرآة – مثل جدران أنابيب الاختبار المغلقة لتلافي تداخل النتائج – بحيث يمكن رؤيته بوضوح بدون الخوف من انحلاله أو تغير لونه.
كان الفارق الحقيقي بين هذا التفاعل وسابقيه هو حساسيته الشديدة لتركيزات متدنية جدا من الزرنيخ، وفي نفس الوقت إمكانية إجرائه على العينة الحيوية مباشرة (أي محتويات المعدة وأغشيتها) وتكوين ناتج صلب عكس الاختبارات التي سبقته. ومن هنا أصبح هذا الاختبار هو الاختبار الأساسي عند التحقيق في مثل هذه الوقائع، ولكن تطلب الأمر أن يقوم أورفيلا بتسليط الضوء على هذا الاختبار في قضية شهيرة.. قضية اآل لافارج.
واختلف العلماء
تزوجت ماري من تشارلز لافارج معتقدة بأنه يمتلك ثروة ضخمة، وهو الأمر الذي لم يكن حقيقيا، ولكنها لم تكتشف ذلك إلا بعد الزواج. وفي غياب إمكانية الطلاق آنذاك، كان قتل تشارلز هو الحل الأخير للتخلص من هذه الزيجة، مستفيدة من حريتها ومن الأموال المحدودة التي سترثها إلى أن تتزوج مرة أخرى. قامت ماري بتسميم زوجها عن طريق إعداد كعكة احتوت على الزرنيخ الأبيض وإرسالها إليه في باريس حيث كان في رحلة عمل. أدى مرض تشارلز لاحقًا لاضطراره لقطع رحلته والعودة ظنا منه أنه مرض عابر، ليموت بعدها مثيرًا شكوك الخدم حول زوجته. وعند وصول هذا الشك لدرجة الاتهام، كان على الخبراء إجراء التجارب المعتادة لتحديد ما إذا كان تشارلز لافارج قد مات بالسم الأبيض أم لا، وهنا كان الأمر محيرا. كانت الاختبارات – هانيمان ومتزجر – تشير لوجود الزرنيخ الأبيض في الطعام المقدم للافارج لكن لم يكن يظهر أثر له في الجثة ذاتها. كان هناك دليل على شراء السيدة لافارج كمية من الزرنيخ الأبيض قبل سفر زوجها وإرسال الكعكة، أما الدليل الكيميائي فقد واجه مأزقا.
على مسرح هذه القضية تعارضت نتائج مجموعتين من الخبراء: وجدت الأولى آثارًا من الزرنيخ في محتويات معدة جثة الضحية، ولكن أورفيلا أثبت أن اختباراتهم لم تكن صحيحة أو دقيقة، ولم تتخذ أي إجراء احترازي لمنع تداخل نتائج الزرنيخ مع نتائج مادة أخرى، أما الثانية فقد قامت بالاختبارات بطريقة صحيحة، ولكنها لم تجد أثرًا للزرنيخ في أنسجة القتيل. إذن هل قُتل لافارج بالزرنيخ الأبيض أم لا؟ هنا استعان أورفيلا باختبار حديث لم يكن أحد من المحيطين به قد سمع به أو أجراه. وأظهر اختبار مارش الذي أجراه أورفيلا وجود السم في معدة لافارج بالفعل. كما استعان لأول مرة في هذه التحقيقات بمنهجية حديثة تسمى اختبارات التحكم Control experiments تهدف للتأكد من أن مستوى الزرنيخ المكتشف في جثة الضحية هو نتيجة تسمم، وليس تلوثا من التربة التي دفنت فيها الجثة قبل إجراء الاختبارات.
كانت هذه السلسلة من الأحداث هي الطريق لميلاد علم السموم، الذي سينمو ليشمل اختبارات لفئات عديدة من المواد الكيميائية التي يمكن استخدامها للقتل، كأشباه القلويات والعديد من الأملاح غير العضوية الأخرى. حملت كل قضية قطعة من حل مشكلة من المشاكل التي أعاقت الثقة في استنتاجات العلماء، حتى وصلنا للتتابع الاختباري Scheme الذي سيشكل الأساس للنظم المتكاملة التي يعتمد عليها القانون الآن في النظر للأدلة وإصدار الأحكام. في الحلقة القادمة نشهد ظهور أول المعامل الجنائية المتخصصة في استخدام العلوم لمعالجة الأدلة.
- Nicholas T Lappas, Courtney M Lappas: Forensic toxicology – principles and concepts
- Deborah Blum: The Poisoner's Handbook- Murder and the Birth of Forensic Medicine in Jazz Age
- Richard Saferstein : Criminalistics- An Introduction to Forensic Science