فيلم «Into The Wild»: معًا نحو تمرد أكثر تفردًا

أؤمن جيدًا بالنظرية التي وضعها أحدهم ذات يوم، والتي تنص على أن هناك أفلامًا تختار مشاهدتها، وهناك أفلامًا من نوعٍ آخر تختارك لتشاهدها. غالبًا ما تكون هذه النوعية أكثر تناسبًا مع حالتك المزاجية أو هي تستعرض أفكارًا تطاردك ولا تجد منفذًا للهروب منها، أو هى ببساطة تصالحك على نفسك، تخبرك ما عليك فعله وقت أن تفقد القدرة على المعرفة والتحديد، وتخبرك أنك على طريقٍ صواب إذا كنت قد فقدت الإيمان بما أنت عليه حقًا، أو تود أن تكون عليه.

فيلم «Into The Wild» يعد مثالًا جيدًا على مثل تلك النوعية من الأفلام، تجربتي الذاتيّة معه تؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أنه فيلم قد اختارني لمشاهدته وليس العكس، فالظروف التي أدت إلى تأجيل قرار مشاهدته مراتٍ عديدة، وكأنه كان ينتظر وقته المناسب، والحالة التي كنت عليها عند مشاهدته، والنشوة السينمائية – إذا صح التعبير- التي أصبحت عليها فور إنهائه. كلها أشياء تؤكد نظريتي.

قبل الميلاد

يحكي الفيلم قصة «كريستوفر مكندلز» الذي أنهى لتوّه دراسته الجامعيّة مثله مثل بقية أقرانه، متفوقًا مثله مثل العديد من أقرانه، منتظرًا انتقاله للخطوات التالية المحفوظة والمرتبة أكاديميًا وفق قوانين اتفق عليها الناس مثله أيضًا مثل العديد من أقرانه. كانت هذه الـ(مثله مثل بقية/ العديد من أقرانه) هي مشكلة كريستوفر الحقيقية، فهو وكما يخبرك لاحقًا يرى أن الحياة الحقيقية هي الحياة التي تخترعها أنت لنفسك لا الآخرون. أنت تكون أنت عندما تكتشف نفسك، وليس عندما يخترعك أحدهم.

يصدم كريستوفر والديه بقرارٍ مفاجئ ضاربًا بكل القواعد عرض الحائط. لقد قرر التنازل عن كل ذلك! كل ذلك بالمعنى الكامل للكلمة، قرر أن يتبع هواه وشغفه واستكشافه الخاص خائضًا رحلة غير معلومة النهاية، بل إنها غير معلومة البداية أصلًا. رحلة نحو الحياة، لا تخضع في سريانها لأكوادٍ وإطاراتٍ مجتمعية وسياسية وأسرية. لقد قرر التنازل عن كل تلك الأشياء بما فيها من متعٍ وترفٍ ربما، في سبيل أن يعيش حياة بدائية اختارها لنفسه، حياة خالية من كل ما هو قادر على اقتياد الإنسان سواء كانت تكنولوجيا أو مالًا أو حتى علاقات إنسانية مجرّدة!

ميلاد جديد

يخبراه والداه أنهما قد قررا شراء سيارة جديدة له لتناسب مرحلته الجديدة التي تخصهم معه، فيرفض كريستوفر الاقتراح والهدية بتاتًا.

في ذلك المشهد والذي يجمع الأسرة جميعها، بما فيها الأخت الصغرى لكريس تستطيع فهم دوافع كل فرد بها، فبلمسات عبقرية جعلنا قائد تلك السيمفونية العذبة، المخرج والممثل العبقري شين بين، نستشعر دوافع الأب الذي لا يريد سوى أن يُكمل الصورة النمطية لأسرة القرن الواحد والعشرين: تظاهر بالرضا الكامل، أبناء ذوي شهاداتٍ عليا، مقدرة على تسيير عجلة الحياة ومتطلباتها ولو تلزم ذلك شراء سيارة جديدة.

جعلنا نستشعر كذلك دوافع الأم التي لا تختلف كثيرًا عن دوافع الأب لكنها أكثر تحفظًا في تحقيقها، والسبب الحقيقي وراء ذلك هو محاولتها الحفاظ على كريس لا لشيء سوى لممارسة إحساس الأمومة. ثم دوافع الأخت الصغرى التي كانت أكثرهم نزاهة وأقلهم أنانية، كما ستثبت الأحداث فيما بعد.

يرفض كريس السيارة الجديدة. الشكل الجديد. الإطار الذي يتلزم عليه الظهور داخله، ويبدأ في تحقيق أسطورته الخاصة. يترك الجميع ويتنازل عن الكل. يحطم سيارته القديمة. يحرق بطاقة تحقيق هويته. يحرق كل ما يملك من الأموال فهو كما يقول: “الأموال تجعلك حذرًا”. ويولد من جديد باسمٍ اختاره لنفسه. فكريس لم كذلك، إننا أمام ألكساندر، المغامر المخاطر الذي لا يخاف شيئاً والذي لم يترك وراءه أي أبواب مفتوحة تحتمل أو ترجح رجوع من مر بها.

مطبات الرحلة

كأي أحد، تقابل ألكساندر صعوبات ومطبات خلال خوضه رحلته الخاصة التي تحددت معالمها تدريجيًا: هو يريد أن يصل لألاسكا، دون أسباب واضحة، هو فقط يريد ذلك.

أخذت مطبات الطريق أشكالًا عدة، كانت قد هزت وزعزعت إيمان صديقنا بنفسه في بعض الأحيان. تمثلت أحيانًا في دخوله وإشراكه في علاقاتٍ إنسانية مع من قابلوه خلال الرحلة. الزوجان اللذان أقلاه بسيارتهما واللذان لسخرية القدر قد فقدا ابنًا أيضًا في ظروف غامضة، تمامًا كوالدي ألكساندر.

تمثلت المطبات أحيانًا في عقبات تعرقل المسيرة كاحتياجه تصريحًٍا حكوميًا يتيح له التجديف بالنهر والذي يترتب عليه أن ينتظر اثني عشر عامًا! تمثلت أحيانًا في نقص المؤن والطعام.

وقد كان المطب الأعظم متمثلًا في العجوز رون الذي ترشح عنه هال هولبروك لأوسكار أفضل ممثل مساعد سنة إصدار الفيلم، برغم أن مشاهده مجتمعة على الشاشة لم تتعد العشر دقائق!

يعرض رون على ألكساندر أن يتبناه، ذلك بعدما يسقيه حكمته وخلاصة تجربته في الحياة بنبرة هادئة تليق برجل قد خبِر الحياة مرارًا، فيرفض الأخير العرض بصرامة. تمامًا كما رفض كل شيء كان يجذبه نحو الماضي خائضًا ومكملًا رحلته نحو المجهول. يتفادى ويجتاز ألكساندر كل المطبات محققًا انتصاراتٍ أكبر وأكثر أهمية من مسيرته نفسها، ويخبرك بطريقته الخاصة أنه يتوجب عليك الاجتياز والتفادي وعبور كل مفترقات الطرق في سبيل وصولك مبتغاك الخاص، وأنه إذا أردت شيئًا من الحياة. مد يدك واختطفه، تمامًا كما يخبر تريسي.

العجوز رون وكريستوفر

احتفاء بالطبيعة

كون رحلة بطلنا نحو البدائية، خالية من أي زيادات وفروض تكنولوجية قد جعل من الطبيعة بطلًا حاضرًا طيلة الوقت، فمعظم الشريط الصوتي للفيلم على سبيل المثال لم يخلُ من الصوتيات الطبيعية، حفيف الأشجار، تصادم أمواج النهر، وصوت الحيوانات.. إلخ.

اختفت الموسيقى التصويرية في كثيرٍ من الأحيان وهُمشت، مفسحةً المجال لكل تلك الأشياء لتناسب الصورة وأجواء الفيلم العامة، حيث الطبيعة، التي نقلتها فنيات شين بين بتوفيقٍ بالغ، ومن ضمن الفنيات التي لا يمكن إغفالها أيضًا توظيف خاصية الفلاشباك في المسار الأساسي الذي يتبعه ألكس وتوظيف ذلك مع التعليق الصوتي أو الـVoice Over للأخت الصغرى مما ساعد على إظهار أجزاء كبيرة فيما يخص حياة ألكس ووالديه وعلاقته بهم، وبالتبعية فقد كشف هذا بدوره عن بعض دوافعه التي مهدت لقراره الذي هو بمقاييسنا العادية قد يعتبر قرارًا متطرفًا غير محمود العقبات.

معًا نحو تمرد أكثر تفرّدًا

ابتعد الفيلم عن الابتذال في تقديم حكايته لتبدو وكأنها كلام ساذج خارج من أفواه مدربين تنمية بشرية، يلزمونك بما عليك فعله لتحقيق ذاتك والسعي وراء أحلامك الخاصة. ابتعد عن الأسلوب الوعظي المباشر والذي أراه – وكثيرون يرونه- منفرًا ومفقدًا متعة المشاهدة وهضم الحكاية وتوفيقها لتناسب حياة المشاهد، مما يجعلها حكاية ذاتيّة وتخص صاحبها فقط، إنما طوّع الفيلم نفسه وحكايته ليصبح فيلمًا ذا حكاية عالمية، لا يمكن لأحد إلا وأن يرى نفسه فيها، فيخبرك أن أحلامك مهما كانت فهي ليست أكثر صعوبة في تحقيقها من خوض رحلة نحو المجهول دون هوية أو أسرة أو أموال أو حتى مقدرة على كسب الرزق وضمانه. فقط بكتب ليو تولستوي وبعض الموسيقى وروح متمردة.

الفيلم وإن كان كثيرون يرونه ذا حكاية متطرفة ويستحيل تطبيقها، إلا أننا أمام حقيقة صارخة تخبرنا أن ما شاهدناه هو قصة حقيقية لشخصٍ ما قد خاض وخبِر بالفعل كل هذا. فضلًا عن أنني أؤمن أن بعض القضايا يلزمها صوت مرتفع لعرضها. صوتٌ يبهرك بتمرده وخروجه عن المألوف، حتى تستطيع فهم وتقدير حجم ذاتك وضآلتها، وحينها يمكنك البدء في اتباع تعليمات وخطوات الصوت بأريحية شديدة.

«Into The Wild»، فيلم متمرد يحكي قصة وحياة شخصٌ متمرد. يشاركك هذا التمرد ويخبرك بأنه يجب عليك ممارسته، شريطة ذلك أن يكون تمردًا أكثر تفردًا في هدفه ووجهته ورسالته.

يقول ألكساندر في مشهدٍ ما من الفيلم أنه يسير في رحلته الخاصة دون بوصلة أو خريطة أو دليل أو وجهة محددة، وأنا أراه هو وفيلمه بوصلة ودليلًا وخريطة يمكن لأي شخص واقعًا في منطقة رمادية تختلط فيها الخيارات وتتشابه عندها جميع الطرق والمصائر استخدامهم، ليعرف ما يجب عليه فعله حقًا.