جيمس ويب: تلسكوب ناسا المستقبلي يبصر الكون بعد هابل
بعد مسيرة عمل استمرت لأكثر من 20 عامًا؛ اليوم نأخذكم في رحلة نستعرض فيها تلسكوب جيمس ويب الفضائي «JWST»، العين البشرية الجديدة التي ستهيم في الفضاء، والتي ستفتح أعيننا على مناطق أكثر عمقًا في الكون.
ميلاد تلسكوب جيمس ويب
بعد إطلاق «تلسكوب هابل – Hubble telescope» عام 1990؛ والذي أمدنا بصور واضحة ودراسات عديدة عن فضائنا لأكثر من 25 عامًا؛ كان السؤال هو: ما هي الخطوة القادمة لاستكشاف الفضاء؟
أتت الإجابة في العام 1996 من قبل لجنة مكونة من 18 عضوا برئاسة عالم الفلك «آلان دريسلر – Alan Dressler»، والتي أوصت بأن تقوم وكالة ناسا بتطوير تلسكوب فضائي متطور يخلف هابل.
عملت اللجنة على تحديد مهمة التلسكوب، وما هو الدور الذي يجب أن يقوم به.
كانت فكرته ترتكز على اكتشاف الكون من خلال رصد والتقاط الأشعة تحت الحمراء، والتي تمتاز «بطول موجي – wavelength» يستطيع الفلكيون رؤيته، وتمييز الغيوم الغازية والمجرات القديمة التي تصدر ذلك النوع من الأشعة.
كما حددت اللجنة معايير ذلك التلسكوب المنتظر من خلال صناعة مرآة أساسية يبلغ قطرها أكثر من أربعة أمتار؛ والذي سيعطيها حساسية أكبر للضوء، وقدرة على رؤية مسافات بعيدة وهائلة في الفضاء بخلاف التلسكوبات الأخرى، كما سيعمل التلسكوب في مدار ما أبعد من القمر الأرضي.
في العام 1997؛ وافقت وكالة ناسا على تمويل دراسات إضافية لمعرفة أكثر عن المتطلبات التقنية والمالية اللازمة لبناء ذلك التلسكوب الذي أطلق عليه اسم «الجيل القادم للتلسكوب الفضائي – The Next Generation Space Telescope».
بحلول عام 2002؛ اختارت الوكالة أخيرًا الفريق الذي سيعمل على بناء الأجهزة التي سيحملها التلسكوب الجديد، بالإضافة لمجموعة من علماء الفلك الذين تتمحور مهمتهم في توجيه العاملين على بناء التلسكوب لبنائه بشكل فعال حتى يستطيع القيام بعمله، وإعطائهم المعلومات الضرورية.
وعلى مدى عدة سنوات مر التلسكوب بالعديد من التغيرات، كان أولها تغيير اسمه إلى تلسكوب «جيمس ويب الفضائي»، كما تم تغيير تصميم وأدوات التلسكوب عدة مرات. بدأ بناء تلسكوب جيمس ويب عام 2004، وفي عام 2009 تم الانتهاء من وحدة «أيسيم – ISIM»، وهي الوحدة التي تضم جميع الأجهزة العلمية في التلسكوب مثل الكاميرات، ومطياف الأشعة، وغيرها من الأجهزة التي سيحملها التلسكوب.
بحلول عام 2011 تم الانتهاء من تصنيع المرآة الأساسية المكونة من 18 مرآة ذهبية، وإجراء التجارب لإثبات فعالياتها. ثم بعد ذلك بدأ الفريق في تجميع قطع التلسكوب الفردية والموزعة في أماكن عدة، حيث وصلت إلى مركز غودارد للرحلات الفضائية التابع لوكالة ناسا في غرين بلت في ولاية ماريلاند. وبين عامي 2012 و2013 وصلت جميع الأجهزة العلمية التي سيحملها التلسكوب إلى غودارد.
في عام 2013 بدأ بناء طبقات الدرع الواقية من الشمس، والتي ستحمل المرآة الرئيسية. ومن عام 2013 إلى 2016 تعرضت الأجهزة العلمية في التلسكوب إلى العديد من الاختبارات مثل تعرضها لاختبارات درجة الحرارة القصوى، والاهتزازات لمعرفة دقتها. في أواخر عام 2015 إلى أوائل عام 2016، تم تثبيت جميع قطع المرايا الـ18 حتى اكتملت بمساحة 21 قدما، أي ما يقرب من ستة أمتار ونصف.
وفي مطلع هذا العام- 2017 وقت كتابة المقال- تم شحن وتوصيل عناصر التلسكوب البصرية إلى مركز جونسون الفضائي لإخضاعها لاختبارات مبردة في غرفة فراغ حرارية عملاقة تسمى «الغرفة A».
قام على تصنيع التلسكوب كل من «وكالة ناسا – NASA»، «وكالة الفضاء الأوروبية – ESA»، «وكالة الفضاء الكندية – CSA».
الهندسة المعقدة للتلسكوب
أهم ما يميز التلسكوب هو هندسته وهيئته الخارجية، إذ يتخذ شكل طائرة ورقية، ولديه جانبان، أحدهما سيكون معرضًا لحرارة الشمس، والآخر سيكون بعيدًا عن أشعتها، والذي سيكون هو الجانب البارد من التلسكوب.
المظهر العام للتلسكوب
صمم التلسكوب بوسيلة خفيفة الوزن وقوية لحماية المرايا وحمايته من أشعة الشمس تحت الحمراء من خلال درع قوية تتكون من 5 طبقات رفيعة للغاية من مادة «الكابتون – kapton»، وتُغطّى كل طبقة بالألومنيوم، وتنفصل عن بعضها بمسافات محددة بحيث تعمل كل طبقة في مهمة مختلفة.
هذه الطبقات مهمتها الأساسية هي تنظيم وصول الحرارة للتلسكوب في رحلته في الفضاء، إذ ستعمل على منع الحرارة الزائدة من الوصول إلى كاميرات التلسكوب التي تعمل على التقاط الأشعة تحت الحمراء والأجهزة الموجودة على متنه، حتى تبقى باردة كي تقوم بعملها بشكل صحيح، أو لإعادة الحرارة إلى المستوى المطلوب للتلسكوب إذا ما تعرض لدرجات حرارة منخفضة للغاية حتى يستطيع القيام بعمله.
يختلف حجم وشكل الطبقات عن بعضها وفقًا لوظيفتها. على سبيل المثال؛ الطبقة الأولى التي تواجه الشمس من التلسكوب؛ والتي تتعرض لدرجة حرارة عالية مسطحة نسبيًا، هي الطبقة الأكبر، حيث يبلغ سمكها نحو 0.05 ملم، أما باقي الطبقات فيبلغ سمكها 0.025 ملم.
الطبقة الخامسة التي تقع مباشرة تحت المرآة الأولية هي الأصغر وأكثر انحناءً، وتعمل على حماية مرآة التلسكوب من النيازك الصغيرة، أو أي أضرار يمكن أن يلحقها أي جرم سماوي في مرآة التلسكوب. جميع تلك الطبقات تم طلاؤها بطلاء «معالج سيلكون»؛ حتى يعكس حرارة الشمس مرة أخرى إلى الفضاء.
المرآة
تتكون المرآة الرئيسية للتلسكوب من 18 مرآة ذهبية سداسية الشكل؛ تكمن مهمتها الأساسية في التقاط وتجميع الضوء من نظامنا الشمسي وخارجه.
مهمة التلسكوب في الفضاء
صمم التلسكوب تحديدًا لالتقاط الأشعة تحت الحمراء كَوْنَها الأشعة الصادرة عن المجرّات التي تكوّنت في وقت مبكر. كما تمتلك تلك الأشعة طول موجي يمكن لعلماء الفلك قياسه ودراسته، ما يساعدهم على دراسة ومقارنة المجرات الأقدم بتلك المجرات الحديثة الحلزونية والإهليجية، بالتالي سيكون لديهم صورة أكثر وضوحًا عن نشأة الكون أو تكوّنه منذ نحو 13.5 مليار عام بما يحتويه من مجرات ونجوم وغبار كوني.
كما سيعمل التلسكوب في نطاق أوسع في الكون خلف غيوم الغبار الكوني، ما يتيح لعلماء الفلك معرفة أماكن ولادة النجوم وأنظمة الكواكب.
الكواكب السبعة في قائمة مهام التلسكوب
لطالما تشارك البشر في التساؤل عن أمر واحد، وهو هل من حياة أخرى يمكن أن تتواجد في كواكب بعيدة أو قريبة منا؟ وهل وجود أنظمة شمسية وكواكب أخرى خارج مجرتنا أو داخلها ممكن أيضًا؟
أتت الإجابة بعد آلاف السنين لتكشف عن نظام شمسي يبعد عنا نحو 40 سنة ضوئية أطلقت عليه وكالة ناسا اسم «TRAPPIST-1»، مكون من 7 كواكب.
يحتوي هذا النظام على ثلاثة كواكب تضاهي كوكب الأرض حجمًا؛ لذا وضع هذا النظام على قائمة أعمال التلسكوب المراد تنفيذها واستكشافها.
ستكون إحدى أهداف تلسكوب جيمس ويب هناك هو معرفة وفهم الظروف الطبيعية لتلك الكواكب من أجل تحديد إمكانية وجود حياة فيها أم لا. واستخدام التحليل الطيفي لتحديد العناصر الجوية للفضاء (التحليل الطيفي هو طريقة لتحليل الضوء عن طريق فصله إلى أطوال موجية متميزة تسمح للمختصين بتحديد مكوناته الكيميائية من خلال توقيعات أطوالها الموجية الفريدة). ومن المتوقع أيضًا أن يساهم التلسكوب في فهم هذا النظام الجديد، ومعرفة الظروف الطبيعية المحيطة به.
سيعمل التلسكوب أيضًا على ملاحظة وتحديد البيانات البيولوجية الكيميائية، مثل وجود غازات الأوزون والميثان، والتي يمكن أن تنشأ نتيجة للعديد من العمليات البيولوجية.
فعلى سبيل المثال، يتكون غاز الأوزون (O3) الذي يحمينا من الأشعة فوق البنفسجية الضارة هنا على الأرض؛ عندما تسقط الأشعة فوق البنفسجية على ذرة أكسجين فتقوم بتقسيمها إلى جزيئين فرديين، فيقوم أحد الجزيئات الفردية بالاتحاد مع ذرة أكسجين كاملة مكونة غاز الأوزون O3.
وبسبب أن غاز الأوزون يعتمد إلى حد كبير على وجود الكائنات الحية التي تقوم بعملية التمثيل الضوئي مثل الأشجار والعوالق النباتية؛ فإن مهمة التلسكوب هي البحث عنه، والذي سيؤدي اكتشافه إلى وجود أدلة حقيقية على وجود حياة.
كما سيعمل التلسكوب على البحث عن غاز الميثان الذي سيؤدي إلى تحديد مصدر بيولوجي لغاز الأكسجين الذي بدوره يعمل على تراكم الأوزون.
المميزات الفاصلة بين تلسكوبي هابل وجيمس ويب
ينطلق تلسكوب جيمس ويب بين النجوم مبصرًا الكون في صورة أكثر اتساعًا ووضوحًا ليكون خليفة سابقه تلسكوب هابل، فما هي المميزات التي تؤهله لتلك المهمة؟
1. حجم المرآة
أهم عناصره هي المرآة التي يصل قطرها إلى نحو ستة أمتار ونصف؛ ما يعطيه ميزة الوصول لنطاقات كونية أوسع يمكن أن يلتقط منها الأشعة تحت الحمراء في مساحة تصل إلى نحو 31.5 متر مربع، وهي مساحة ملعب تنس.
أما تلسكوب هابل فقُطر مرآته أصغر من ذلك، إذ تصل إلى نحو مترين ونصف، ومساحة تجميع الأطياف الضوئية في الكون تصل إلى نحو أربعة أمتار ونصف مربع.
2. الطول الموجي
صمم تلسكوب جيمس ويب لالتقاط الأشعة تحت الحمراء الصادرة من المجرات القديمة والنجوم؛ لذا فإن التلسكوب مزود بأربعة أجهزة بصرية لالتقاط الصور والأطياف الضوئية من الأجسام الفلكية.
هذه الأجهزة تغطي أو تلتقط أطوال موجية من 0.6 إلى 28 ميكرومتر (أو ميكرون) (1 ميكرون = 1.0 × 10-6 متر).
وإذا لاحظنا نطاق الأشعة تحت الحمراء من الطيف الكهرومغناطيسي؛ فإن مداه يتراوح بين حوالي 0.75 ميكرون وبضع مئات من ميكرون. هذا يعني أن أجهزة تلسكوب ويب ستعمل بشكل رئيسي في نطاق الأشعة تحت الحمراء من الطيف الكهرومغناطيسي، بالإضافة لنطاقات مرئية أخرى.
أما عن تلسكوب هابل فإن نطاق عمله في مدى جزء صغير من طيف الأشعة تحت الحمراء، حيث يتراوح بين 0.8 و2.5 ميكرون، لكن التلسكوب مصمم بشكل رئيسي لالتقاط أطياف ضوئية في مدى الأطياف فوق البنفسجية والمرئية يتراوح بين 0.1 و0.8 ميكرون.
3. مدار التلسكوب
قبل أن نحدد مدارات التلسكوبين حول الأرض في الفضاء، يجب أن نعرف موضع كوكب الأرض بالنسبة للشمس في نظامنا الشمسي. تبعد الأرض عن الشمس مسافة 150 مليون كم، ويدور القمر حول الأرض على مسافة تبعد 384,500 كم.
تلسكوب هابل يدور حول الأرض في مدار قريب منها على ارتفاع يصل إلى 570 كم عن سطح الكوكب، أما تلسكوب جيمس ويب فسيدور في الفضاء حول الشمس، على بعد 1.5 مليون كم من كوكب الأرض، تسمى نقطة «لاغرانج الثانية» أو L2.
تخيل للحظة ما الذي يمكن أن يرصده التلسكوب.
4. طريقة الإطلاق
بسبب التصميم المميز لتلسكوب هابل بحيث يدور في مدار حول الأرض، فإن إطلاقه تم بواسطة مكوك فضائي حمله إلى مداره. أما تلسكوب جيمس ويب فإن مداره سيكون على مسافة سحيقة في الكون، لذا سيتم إطلاقه على متن الصاروخ «آريان 5» للفضاء.
أخيرًا؛ لأكثر من 25 عامًا من العمل هل حان الوقت لتقاعد تلسكوب هابل؟ أم سيظل يعمل بجوار رفيقه في الفضاء مبصرًا نطاقات كونية معروفة لطالما اعتدنا رؤيتها لعلنا نجد ما يبهرنا بالقرب منا؟
وهل تلسكوب جيمس ويب الجديد ناتج من فهم وشغف وفضول الحضارة البشرية في البحث عن أجوبة لأسئلة كانت تؤرقها، أم ذهبت بهم عبقريتهم لصناعة وإيجاد آلة تصل لمسافة 1.5 مليون كم تهيم في الفضاء الكوني مرسلة دلائل أخرى أكثر فضولًا ودهشة؟
السؤال الأخير: بعد 20 عامًا من الآن هل سيبحث الجيل القادم من البشر عن المزيد في كوننا؟ وهل سيقوم أيضًا بإنشاء تلسكوب أكبر وأكثر تطورًا؟ إذا كانت الإجابة بنعم؟ فعَن ماذا سيبحث؟
*تحديث بتاريخ 21 ديسمبر/ كانون الأول 2021:
بعد تأجيل إطلاقه عدّة مرّات، من المقرر إطلاق التلسكوب يوم الجمعة 24 ديسمبر/ كانون الأول 2021، في الساعة 7:20 صباحًا بتوقيت شرق الولايات المتحدة (2:20 ظهرًا بتوقيت القاهرة)، على الصاروخ «آريان 5» المقدّم من وكالة الفضاء الأوروبية من ميناء الفضاء الأوروبي في كورو، غويانا الفرنسية، على الساحل الشمالي الشرقي لأمريكا الجنوبية.
يمكنكم متابعة البث المباشر لإطلاق التلسكوب من خلال الرابط التالي:
*تحديث بتاريخ 25 ديمسبر/ كانون الأول 2021:
تم إطلاق التلسكوب بنجاح على متن الصاروخ «آريان 5».