حوار مع «ياسين الحاج صالح»
ياسين الحاج صالح، هو كاتب وناقد ومفكر يساري سوري، ولد في مدينة الرقة عام 1961، واعتقل عام 1980 بسبب انتمائه لتنظيم شيوعي معارض،ويعد من أبرز الكتاب العرب الذين يتناولون قضايا الالعلمانية والديمقراطية ونقد الإسلام المعاصر ونقد نقده، وتُتنشر تحليلاته في صحيفة الحياة وموقع الجمهورية، ومن أبرز كتبه «بالخلاص يا شباب» و«اساطير الآخرين» و«الثقافة كسياسة».
كان لإضاءات هذا الحوار الثري معه، والذي تطرقنا فيه سؤالاً وجوابًا إلى قضايا عدة، بدءًا من تقييم تجارب الإسلاميين بأنواعهم، إسلاميين كانوا أو جهاديين، ونقد اليسار الغربي وموقفه من الثورة السورية، فضلاً عن قراءته لاسباب وسياقات صعود الشعبوية في أوروبا والولايات المتحدة.
مع اندلاع الثورات العربية، شهدت التيارات الإسلامية بصنوفها المختلفة ما يمكن اعتباره «ربيعا» ندر أن يتكرر، لكن الانتكاسة التي شهدتها هذه التيارات كانت سريعة جدا وقاسية جدا.. كيف تقيم أسباب ذلك التراجع؟ سواء على مستوى القصور الهيكلي في خطاب تلك التيارات أو على مستوى الأداء السياسي؟
الربيع العربي موسم احتجاج، والتيارات الإسلامية جيدة في الاحتجاج وسيئة في البناء. تحطيم الحياة السياسية على يد الدولة الاستبدادية المعاصرة كان أقل إضرارا بالإسلاميين، لكونهم قادرين على استغلال مساحة التقاطع بينهم كمنظمات سياسية وبين الإسلام كخطاب ومؤسسات ورموز مقدرة وواسعة الانتشار اجتماعيا.
وهذا في مجتمعات يتراجع تحكمها بمقاديرها وتشهد تدهورا اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا ومعنويا عاما منذ سبعينيات القرن العشرين، وتتسع مراتب الفقر والهامشية فيها. الإسلاميون هم «المعارضة الموضوعية» للدولة الاستبدادية المعاصرة في بلداننا، أعني المعارضة التي تتواطأ ظروف الإفقار السياسي على إنتاجها.
العلمانيون الديمقراطيون المعارضون للدولة الاستبدادية يتضررون أكثر من الحجْر السياسي العام، ومن تقلص مراتب الطبقة الوسطى المتعلمة، وهم إما يرجحون معارضة الدولة الاستبدادية والاقتراب من الإسلاميين، أو ينشغلون بمواجهة الإسلاميين فيقتربون من الدولة الاستبدادية، يجدون أنفسهم في وضع يائس وبطولي في آن، قلما اضطلعوا -اضطلعنا- بتحدياته.
وقت سقط نظام مبارك في مصر كان الإسلاميون في وضع أنسب للحلول محله بحكم موقع «المعارضة الموضوعية» المحجوز لهم، لكنهم لا يملكون شيئا إيجابيا لمعالجة مشكلات مصر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. لديهم «الإسلام» فقط، ولذلك عملوا على أسلمة الدولة. وهذا غرّب قطاعات واسعة من المصريين، نصف السكان على الأقل. والنسبة كانت مرشحة فقط لأن ترتفع لو طال مقام الإخوان في الحكم.
كان ما تحتاجه مصر هو تحالف اجتماعي عريض يضع نصب عينيه النهوض بالشرائح المفقرة من المجتمع المصري، وتوسيع فرصها في الحصول على التعليم والصحة والخدمات الأخرى، وعلى العمل بطبيعة الحال، وهو ما كان يقتضي توسعا في الإنفاق العام لا يتحقق دون سيطرة الدولة على الموارد العامة والمشاريع الكبرى.
الإخوان كانوا أضيق أفقا من أن يطوروا رؤية في هذا الاتجاه، ولا يبدو أن الديمقراطيين واليساريين المصريين استطاعوا مخاطبة الشعب وبناء قواعد اجتماعية لهم حول رؤية كهذه. النظام القديم عاد، وبصورة أسوأ، بسبب فشل مزدوج للطيف المصري المعارض في سنوات مبارك، الإسلامي منه والعلماني.
لكم دراسة منشورة بعنوان «طبقات داعش»، تتحدث فيها عن التجارب التي راكمتها الحركة الجهادية من أفغانستان إلي العراق وصولا إلي سوريا، برأيك إلى أين تئول تجربة داعش في سوريا؟ وما مستقبل الحالة الجهادية بشكل عام؟
لا أستطيع التنبؤ بالغيب في «كوكب سوريا» الذي تعذر -منذ انهيار الإطار الوطني للصراع بعد نحو عامين من بداية الثورة- التنبؤ بشيء فيه بفعل كثرة الفاعلين وتجاوزهم كلهم المقياس الإنساني.
أشك على كل حال في أن تحالف محاربي داعش مخلص حتى النهاية في حربه لداعش، وواضح أنه ليس لديهم رؤية لما بعد. طوال ثلاث سنوات على الأقل كانت داعش هي العدو المشتهى لأطراف متنوعة محلية وأجنبية، وأخشى أنه حين يتمكنون من طرده من الرقة بعد الموصل، بكلفة هائلة من الضحايا المدنيين ومن العمران وذاكرة المدينتين، ثم طرده من مناطق آبار البترول في سوريا، أخشى أن تترك في البادية، وحين يحتاج لها أي من الأطراف يسهل لها العودة واحتلال هذه البلدة أو المدينة أو تلك. داعش احتلت تدمر مرتين على نحو غامض جدا، وهذا بعد احتفاء عالمي بانتزاع المدينة من يدها أول مرة في آذار 2016.
داعش يُحارب بمنهج تولدت عنه في الأصل: منهج الحرب الأمنية العسكرية التي تسمى «الحرب ضد الإرهاب»، دون أبعاد اجتماعية وسياسية وفكرية وحقوقية لمواجهتها. في سوريا يُحارب داعش أسوأ حتى مما حوربت دولة العراق الإسلامية لصاحبها أبي مصعب الزرقاوي سابقا، ومما حورب داعش ذاته في العراق. ليس فقط تنكر الأبعاد السياسية والاجتماعية والحقوقية والفكرية للصراع مع داعش، بل هو يحارب باستبعاد السكان المحليين من تحرير مناطقهم، وبإشراك قوى أجنبية عدائية.
قبل أيام شاهدت فيديو من مدينة الطبقة التي سيطرت عليها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) العاملة تحت إمرة الأمريكيين، والمكونة من تنظيم الاتحاد الديمقراطي، الكردي أساسا. كان حي من المدينة تعرض لقصف الطيران الأمريكي وسقط ضحايا، قال المتكلم في الفيديو إنهم بلغوا 160، وبينهم أطفال. المهم أن المدينة تحت سيطرة قسد منذ 10 مايو/أيار، ولم يبذل أي جهد لإخراج أجساد الضحايا من تحت الأنقاض، حيث تنبعث روائح تفسخ الجثث. هكذا تتصرف قوات احتلال غريبة، وليس من قلبه على البلد.
رأيي أن الحالة الجهادية بعامة تعكس الأزمة العميقة لمجتمعاتنا ولدين الإسلام، وهي ظاهرة موت وتوحش، تحمل طاقة إبادية عالية. لا نتخلص من هذه الظاهرة الموتية دون أن تبدأ مجتمعاتنا بالحياة، وتحب أعداد أكبر من الناس حياتها. وليس فقط أننا لا نلقى أي دعم من القوى النافذة عالميا، بل هذه القوى جزء من المشكلة، ولا أراها تريدنا أن نحيا، وهي مثابرة على إنكار ولايتنا السياسية على أنفسنا مثلما تفعل دولتنا الاستبدادية.
لكنك لا تستطيع الإضرار بالآخرين دون أن تلحق الضرر بنفسك على مدى أطول. وأميل إلى الظن أن مناهج القوة الأمريكية في التعامل معنا ستكون مستقبل تعامل القوى الأمريكية مع محيطها القريب ومع مجتمعها ذاته في يوم قد لا يكون بعيدا.
كان صعود داعش مرادفا لهزيمة الثورات العربية، فالجهاديون كما هو واضح لم يدخلوا ثورة إلا أفسدوها، فهل يمكن أن يكون أفول التنظيم والحالة الجهادية بشكل عام حافزا أكثر للديمقراطية والتقدمية في المنطقة؟ أم أن الخرق قد اتسع على الراتق؟
الجهاديون نتاج تحطم الثورات في رأيي، وليسوا سبب التحطم. التحدي الذي طرحته مجتمعاتنا على نفسها هو تغيير نظمها السياسية كي تستطيع التنفس والحياة. سوريا كانت متراس الرجعية في عالمنا والجبهة الصامدة أمام التغيير واستحالة السياسية. موت السياسة هو ما يسهل انبثاق سياسة الموت التي تتمثل في هذه التشكيلات العدمية القاتلة.
كان ما ووجهت به الثورة السورية من عنف، وتعذر سقوط النظام بالاحتجاجات الشعبية السلمية، أطلق ديناميكية عسكرة ثم أسلمة ثم تجذر، كان الإسلاميون في مواقع أنسب للاستفادة منها أكثر من غيرهم. لكن السلفية الجهادية ليست استمرارا على خط مستقيم لهذه الديناميكية، ناهيك عن أن تكون استمرارا للثورة.
هناك تأثير المال الديني الريعي الجوال، المخصص للجهاد، من دول وشبكات سلفية خليجية، «تزكي» ثرواتها الفاحشة غير الزكية وغير المتعوب فيها وعليها بمال فاسد ومفسد، سهل الحياة لتشكيلات منفضلة عن عالم العمل والإنتاج، وعن أي بيئات اجتماعية حية، ليس داعش والقاعدة فقط، بل جيش الإسلام وأحرار الشام أيضا.
وهناك في المقام الثاني الخميرة السلفية الجهادية التي أخذت تتشكل في أفغانستان أيام الجهاد ضد السوفييت برعاية أمريكية وسعودية وباكستانية، ثم بعد سقوط الاتحاد السوفييتي تركت أفغانستان لأمراء الحرب، وكانت بيئة توحش مناسبة لظهور مثل منظمة القاعدة التي تفوقت على نفسها ووجهت ضربة بالغة القوة إلى بعض رموز العزة الأمريكية في 11 سبتمبر/أيلول، فحازت «شرعية» في مجتمعاتنا التي كان يتقدم تدهورها على مستوى الاقتصاد والتعليم والحقوق الاجتماعية والسياسية، وتُنكر عليها العدالة الدولية بثبات.
بعد قليل ومن باب الثأر لتلك الضربة احتل الأمريكيون العراق متذرعين بكذبتين، أسلحة دمار شامل عراقية وعلاقات بين نظام صدام والقاعدة. الثانية كانت نبوءة ذاتية التحقق على ما يقول التعبير الإنجليزي. الدولة الأسدية في سوريا وجدت مناسبا تسهيل دخول الجهاديين إلى العراق خشية منها أن يعمل الأمريكيون في عز ثوريتهم المحافظة الجديدة على إسقاطها في دمشق. وهكذا بعد عبور الحدود من الغرب إلى الشرق انعكست الحركة ودخل أول الجهاديين سوريا عبر الحدود العراقية.
في وقت لاحق وبفعل انهيار الإطار الوطني للصراع السوري بدءا من النصف الثاني لعام 2012، صار المجاهد الأممي الجوال يدخل أساسا عبر الحدود الشمالية مع تركية. طبعا هناك شرط المجتمع المعنف والمذلول الذي تتخلق فيه وتنمو المنازع العدمية المعادية للعالم، وهو ما ولده توحش الدولة الأسدية في مواجهة الثورة.
أعتقد أن الجهاديين ثمرة مرة لإعاقة الديمقراطية في بلداننا أكثر مما هم مصدر الإعاقة. العائق مركب من حكم أقليات حاكمة من أصحاب الامتيازات ومن نظام شرق أوسطي متمركز حول أمن إسرائيل وضمان عدم تقطع السلسلة النفطية (التنقيب والاستخراج والتخزين والنقل والتسويق) والاستقرار الأمني السياسي، ومن أوضاع دولية تتدهور فيها الديمقراطية في كل مكان. ليس دوام الحال محتوما، لكن نحتاج إلى تحالفات اجتماعية عريضة تعطي الأولية حاجات وتطلعات الأكثريات الاجتماعية في بلداننا.
يبقى أنه لا ينبغي نسيان الجهادية الشيعية ونحن نتكلم على الجهاديين. هذه وقفت إلى جانب قوى الأمر الواقع في سوريا والعراق، وتدفقت من لبنان والعراق، ومن إيران المنسقة العالمية للجهاد الشيعي، لتحارب إلى جانب الدولة الأسدية ذات التكوين الطائفي المعلوم.
وإلى جانب الجهادية السنية ذات الصفة الأممية، والمفتقرة إلى عنوان دولي عالمي، أسهم النظام والجهادية الشيعية في تحويل الثورة السورية إلى صراع سني شيعي. هذا الصراع هو أحد الأبعاد الكبرى للمسألة السورية اليوم.
برأيكم كيف السبيل إلى كبح جماح النزعات الطائفية المتصاعدة في المنطقة، هل يمكن – مثلا- للاستثمار في الخطاب القومي أن يشكل مظلة جامعة تتجاوز تلك الحدود وتخفف من وطأتها؟ أم أن هناك إمكانية أخرى؟ أو ربما قد اتسع الخرق على الراتق فلم يعد من الممكن إيقاف ذلك الطوفان؟
لا أتصور أن هناك حلولا خطابية للمشكلات الاجتماعية. الخطابات ربما تضع مشكلات اجتماعية في أجندة التفكير العام وتثير اهتماما أوسع بها، لكن هذا لا يحل أي مشكلات كالطائفية أو غيرها.
ورأيي من دراسة الوضع السوري أن الطائفية أوثق صلة بتكوين النظام السياسي منها بحساسيات اجتماعية قديمة، وأننا لا نستطيع مواجهة الطائفية دون تغير البنى السياسية التي استثمرت من أجل دوامها الخاص في صنع الطوائف وتصليب انقساماتها وتأليبها على بعضها.
في عملي الشخصي حاولت أن أظهر أن الطائفية ليست نتاج وجود طوائف مختلفة، متعادية دائما وأبدا، متأهبة للانقضاض على أعناق بعضها على ما تفترض نظرية شائعة في بلداننا وفي الغرب؛ بالعكس الطوائف هي النتاج النوعي لسياسات التمييز الموجهة نحو الحفاظ على سلطة خاصة أو امتيازات اجتماعية واقتصادية، ونحو إضعاف وتفريق مجتمع المحكومين.
وأفترض أن الأمر مثل ذلك في مصر. على السطح يبدو أن هناك مسلمين يسيئون معاملة مواطنيهم الأقباط، وهذا صحيح، لكن هل هؤلاء المواطنون منفصلون عن محركات سياسية في شكل منظمات أو قوى محلية؟ وهل هناك سياسة وطنية مصرية لمواجهة الطائفية، تعاقب المعتدين بحزم، تقوم أساساً على محاربة التمييز، وتعمل على ترقية تحكم عموم المصريين بشروط حياتهم؟ هل الدولة تقوم بدور سياسي وقانوني وتعليمي ضد ذلك؟ لا أعتقد ذلك، وبالتأكيد ليس على نحو متسق.
المسألة الطائفية في كل مكان ليس مشكلة مسلمين ومسيحيين، سنيين وعلويين أو سنة وشيعة، هذا وجهها الظاهر، وراء الظاهر هناك توظيفات سياسية في تغذية الانقسام الاجتماعي على نحو يمنح نبة الحكم دورا تحكيميا، أو يضعها كما في سوريا في موقع حامي الأقليات، وهذه قضية سهلة البيع في الغرب.
أقرأ منذ بعض الوقت في قضايا الإبادات الجماعية (الجينوسايد)، ولا يبدو أن هناك مثالا واحدا على صراعات طائفية أو إثنية كبيرة تفجرت بسبب نفور أتباع الأديان المختلفة أو المنحدرين من أعراق مختلفة من بعضهم. في كل الحالات هناك دور أساسي لنخب السلطة في الإبادات، وهناك أوضاع امتياز وتمييز غير عادلة، تعمل تلك النخب على إدامتها. والحال ليس مختلفا في مصر وسوريا وغيرها.
ثمة من يشبه حال العالم اليوم بأجواء ما قبل الحرب العالمية الثانية، نتحدث عن تصاعد الشعبوية وهيمنة الإحباطات من المحيط إلي المحيط تقريبا؟ هل برأيك نتجه نحو حالة مماثلة من «الجنون» الجماعي؟ أم أن الأمور أكثر بساطة؟
يبدو أن هناك شعورا منتشرا بالأزمة العالمية. العولمة وضعت البشر في اختلاط غير مسبوق، لكن الظاهر أن قلة منهم انتفعت منها، ويبدو أن بهجة الحياة والثقة بالجار تتدنى حتى في البلدان الأعلى دخلا والأرسخ ديمقراطية.
الصراعات الاجتماعية تتجه لأن تأخذ أشكالا إثنية وعنصرية وطائفية في كل مكان، وفي أمريكا بعد انتخاب ترامب العلاقات العرقية في أسوأ أحوالها منذ ستينيات القرن الماضي. التشاؤم والقنوط في صعود، واحتياطي العالم من الأمل يبدو في أدنى مستوياته منذ أمد طويل. وهناك إحساس عام بفقدان الوجهة. إلى أين نسير؟ لا يبدو أن أحدا يعرف.
وليس هناك طوبى عالمية اليوم جاذبة، بل في رأيي أن الطوبى المعكوسة (دسطوبيا) التي تتجسد في داعش هي عرض لطوبى عالمية غائبة، أو لتقدم الموت عالميا، وافتقار العالم لمشروع يثير المخيلة ويوجه إرادات كثيرين إلى أفق مشترك.
نحن في وضع كارثي في منطقتنا، وخصوصا في سوريا. في مناطق أخرى من العالم يعيشون، نحن لا نكاد نعيش. لكن هذا في الوقت نفسه يعطيني بعض الرجاء. فالمشكلة لا تتعلق بنا وحدنا، والحاجة تشتد إلى جهد عالمي متناسق وإلى ظهور حركة عالمية جديدة، ضرب من الأممية الجديدة أو ما بعد الأممية.
برأيك لماذا يفشل اليسار دوما في محاولاته للانتظام السياسي ومحاولة الوصول إلى السلطة؟
لأنه ارتقى طبقيا، وصار لونا من ألوان سياسة وتفكير الطبقة الوسطى المتعلمة، ولم يعد ثوريا على أي مستوى. منظوراته الفكرية قديمة، حس العدالة لديه متواضع، علاقته بالمعاناة الإنسانية محدودة جدا، وغروره وحده ثابت. لم يعد لديه مشروع وفقد استقلاليته. لا يتوحد اليسار القديم. ومن تجربة جيلي يبدو توحيد اليسار القديم هو الدعوة المشرعة لكل انقسام جديد.
أظن أننا بحاجة إلى تبين الديناميكيات العالمية الجديدة من أجل حركة تغير عالمية جديدة. الشيوعية تكونت حول شرح العالم بديناميكات الرأسمالية، التراكم الرأسمالي والاستغلال الرأسمالي والتوسع الرأسمالي.. اليوم نفتقر إلى تحليل يقدم لنا مفاتيح الأوضاع العالمية الجديدة، ولا تبدو التحليلات القديمة وافية بالحاجة لا للشرح ولا للعمل ولا لبناء حركات اعتراض جديدة.
ليس ما يغيب عن عالم اليوم الصراعات الاجتماعية، بل تفتت هذه الصراعات والميل الصاعد إلى تحولها إلى صراعات عرقية ودينية وطائفية وهوياتية. هذا يبدو مناسبا جدا لقوى التحكم العالمية بنزعاتها القومية و«الحضارية» الضيقة. معاكسة هذا الميل هو التحدي الكبير الذي نحتاج بشدة اليوم إلى تبين سبل الاستجابة المؤثرة له.
أنت كتبت سابقا عن اليسار «الأنتي إمبريالي الغربي ومقاربته للمسألة السورية، لدينا رموز حية كنعوم تشومسكي وجورج غالاوي وروبرت فيسك، كيف تقيم -بإيجاز- تعاطي «اليسار العالمي» مع الثورة السورية وتطوراتها اللاحقة؟
في المقالة المذكورة في السؤال حاولت توضيح الأمر. لا يعرف الرفاق المشار إليهم عنا شيئا. هم على حق في التشكك بحكوماتهم ونخب السلطة والثورة في بلدانهم، لكنهم يعتقدون عن جهل وقلة اهتمام (وبخصوص فيسك وباترك كوبيرن عن خبث وسوء نية) أن حكوماتهم الغربية على جاري مألوفها تعمل على تغيير النظام لدينا، وهم ضد هذا النهج الذي انتهجه جورج بوش الابن وزمرة المحافظين الجدد.
ما أخذته عليهم في المقالة نفسها هو أنهم يلحقون صراعنا من أجل التغيير السياسي في بلدنا بصراع ضد الإمبريالية لا يخوضونه، وأنهم لا يعرفون أن الدولة الأسدية من أركان النظام الشرق أوسطي القائم على تجريد السكان في المنطقة من السياسة مثلما الدول نفسها مجردة من السيادة، وأن النظام قام بدور إسرائيلي حيال السوريين الذين جرت فلسطنتهم، أي أبيدوا سياسيا، وأبيد مئات الألوف منهم فيزيائيا.
الجماعة ينكرون علينا ولاية المعرفة، أي القدرة على شرح ما يجري في بلدنا واعتبارنا المصدر الموثوق للمعرفة في شأنه، وينكرون علينا الولاية السياسية، أي القدرة على الثورة والكفاح من أجل الديمقراطية، وهم في نزعاتهم الإلحاقية هذه مماثلون للإمبريالية التي يزعمون الكفاح ضدها.
والمنظورات السياسية لليسار الأنتي أمبريالي متركزة جيوسياسيا وليس اجتماعيا، تفكر في الدول والعواصم والرؤساء، وليس في الناس وحياتهم وحقوقهم. والمنظوارت المعرفية فوقية بدورها، وتسترجع قوالب أحكام تخلو من أي معرفة بسوريا ومجتمعها وتاريخها وحياة سكانها. لا شيء ديمقراطي هنا أو تحرري أو ثوري.
ومحصلة سياسة أولئك الرفاق الأنتي إمبرياليين هي إبقاؤنا غير مرئيين، واعتبار ما هو مهم هو ما يفعلونه هم في بلدانهم هم. وهذا ما لا يمكن أن يكون مقبولا من موقعنا نحن كسوريين منتشرين في كل العالم، والعالم كله يكاد يكون في بلدنا. وهو ما يبقى صحيحا حتى لو كان مناهضو الإمبريالية هؤلاء يناضلون فعلا ضد الإمبريايلة في بلدانهم.
والحال أني لا أرى أنهم يفعلون شيئا، ولا يخاطرون بأي شيء. إنهم جزء ممتعض من النخبة الاجتماعية والسياسية في بلدانهم، بلا قدرة على المبادرة وعلى التغيير، لا عندهم ولا عندنا.
ليس هناك ما يثير الاحترام بخصوص هؤلاء الرفاق الكبار.
بالنسبة لليسار العربي، أو من يطلقون على أنفسهم «اليسار العربي»، لماذا نجد الكثيرين منهم دوما في صفوف المستبدين؟
أعتقد أن تحولهم إلى الطبقة الوسطى المتعلمة بنمط حياتها المماثل لنظرائها في الغرب يضعهم في تخوف من الإسلاميين. الإسلاميون يمكن أن يكونوا مخيفين فعلا، ونحن السوريين نعرف ذلك جيدا، لكن سياسة تبنى على موالاة السيئ خوفاً من الأسوأ، هذا إن سلمنا أن الإسلاميين هم الأسوأ، تحرم اليسار أو أي تيارات علمانية من القدرة على بلورة سياسة مستقلة، وتضعه في تبعية مستمرة لمن يعتبرونهم أقل سوءا. ويبدو لي هذا شأنا راهنا اليوم في مصر.
هناك صراع بين الإسلاميين ودولة الاستبداد الشرق أوسطي في بلداننا، لكنه صراع على السلطة مضمونه الاجتماعي والحقوقي محدود. هذا ظهر بوضوح كاف في زمن الثورات العربية، وهو من أول دروسها.
وما يمكن أن يكون يسارا تحرريا هو من يعمل على بلورة سياسته حول مواجهة الثنائي على أرضية المسألة الاجتماعية والحريات السياسية، ضد عبادة الدولة عند يساريين وعلمانيين وضد عبادة الدين عند الإسلاميين ومحاولة فرض مقدسهم على العموم.
في سوريا ليس هناك سياسة تحررية لا يكون منطلقها حاجات ومصالح، 80% من السكان يعيشون اليوم تحت خط الفقر، ومن هؤلاء من فقدوا بيوتهم وأفرادا من أسرهم وأعضاء من أجسامهم، ومنهم من يعيشون في الخيام داخل سوريا نفسها أو في لبنان والأردن وتركية، ومنهم نساء تئن بأعباء أسر فقدت المعيل، ومنهم بالطبع المعتقلون والمخطوفون والمغيبون. هذا ما يمكن أن يؤسس لاستقلالية فكرية وأخلاقية لليسار التحرري بقدر ما هو يوجه أنظاره نحو مجتمع من يقاومون الموت.
برأيك هل كان يُمكن تفادي هذا السيناريو المأساوي في سوريا؟ أعني بالنسبة لمن قرروا الثورة ضد طغيان آل الأسد، هل كان بالإمكان تفادي أخطاء معينة للوصول إلى نتيجة أقل دموية وأكثر أملا؟
تقول المعلومات المتاحة إنه حتى أناس مقربون من النظام صدموا من خطاب بشار الأول يوم 30 آذار 2011. كانوا يتوقعون خطابا تصالحيا يعزي بالشهداء الذين قتلهم نظامه قبل أيام، وينظر بعين الجد إلى صراعات متراكمة في سوريا كان أمثالنا حذروا من مخاطر تفجرها مرارا وتكرارا، ويحاول اقتراح مخرج سياسي عام يجنب البلد أسوأ المخاطر.
لكن بشار فاجأ حتى العاقلين من الموالين، وألقى خطاب حرب مرفقا بضحكات بلهاء عديمة الحس. والحرب مستمرة كما نعرف اليوم منذ ست سنوات وأربعة شهور لأن هناك من قررها «حتى النهاية»، على ما قال الملياردير رامي مخلوف، ابن خال بشار وخازن بيت مال الأسرة الأسدية، في وقت باكر من الثورة (في مقابلة صحفية نشرت في نيويورك تايمز في 10 مايو/أيار 2011).
بالطيع كان يمكن تفادي السيناريو المأساوي. ليس هناك حتمية إلهية أو تاريخية قررت ألا يجري غير ما جرى. ما وقع خلال أكثر من 2000 يوم هو ما قرره حكم سلالي بالغ التطرف دستوره الحقيقي هو بقاء الحكم في الأسرة الأسدية، واعتبار سوريا مملوكة لها، والسوريين عبيدا سياسيا.
هنا كل شيء أساسي. كان يمكن لسياسات معارضة أقل سوءا أن تجعل صورتنا محترمة أكثر، لكن ما كان من شأنها أن تغير من مسار الأوضاع العامة التي كان المقرر فيها طوال الوقت هو الدولة الأسدية التي لم تعلن استعدادها عن التنازل ولو عن 5% من السلطة التي تحوزها.
أخشى أن محاولة لوم الضعفاء من السوريين على سوء تدبيرهم، ولطالما كانوا سيئي التدبير حقا، لا يختلف في شيء عن لوم الفلسطينيين على سياسات منظماتهم. هذه السياسات مستحقة للوم من وجهات نظر متعددة، لكن ليس لأن سياستك غير مُثلى أنت تباد. أنت تباد أيا تكن سياستك. وجودك هو المشكلة. ولكنت تباد بعنف أكبر لو كانت سياستك أقرب إلى الصواب.
ما تقييمك لتجربة مجموعة الجمهورية بعد أعوام على انطلاقتها؟
شهادتي مجروحة في مجموعة، فأنا منها ومن مؤسسيها.
الجمهورية ظهرت في ذكرى الثورة الأولى، وكمساهمة منا في الثورة بأدواتنا ككتاب. المجموعة والموقع هما نتاجان للثورة بكل معنى الكلمة. وأرجو ألا أكون متوهما في الاعتقاد بأننا عرضنا وجها الثورة السورية أوثق صلة بقيمها المحركة كثورة ديمقراطية وبجذعها الأصلي الأوثق اتصالا بمجتمع العمل السوري. وحاولنا شق مسالك في التفكير والنظر مغايرة بعض الشيء للمتداول، وأثرنا قضايا لم تكن تثار. في عام 2016، نشرت الجمهورية نصوص 17 شابة وشابا لم يسبق لهم أن نشروا من قبل، بعضهم تدرب في برنامج خاص للمجموعة.
والفضل في ذلك للزملاء من الجيل الشاب. من يديرون عمل المجموعة ويحددون توجهها ويحافظون على استمراريتها، ومن جعلوها مجلة إلكترونية مقروءة سوريا وعربيا، وتنشر مواد بالإنجليزية، يرسلها كتابها لها حصرا، وهم جميعًا شباب كان دون الثلاثين وقت بدأت الثورة.
الجمهورية مشروعهم، وقدرة هذا المشروع على التطور تبدو كبيرة ومتزايدة بجهودهم وتكرسهم.