المصلحة والنهضة في مقاصد الشريعة
«المصلحة» وما يرتبط بها من وسائل وأدوات ونتائج صنَّفها قدماء الأصوليين فيما أطلقوا عليه «معقول المعنى على التفصيل». والمعاملات في جملتها داخلة في معقول المعنى، وأساسها «المصلحة». ومعيار المصلحة على التحقيق هو «المناسب»، والمناسب هو «ما لو عُرضَ على العقول تلقته بالقبول»، أو هو: «المصلحة المرسلة»؛ وهي ما لم يشهد لها دليل جزئي بالجواز أو عدمه، وإنما تُعرف من استقراء «المقاصد العامة للشريعة» في أصولها العليا (القرآن والسنة). وعليه فثمة ارتباط بين «المصالح» و«المقاصد»؛ إذ الأولى وسائل للثانية.
والسؤال الذي أحاول الإجابة عليه هنا هو: أين تتحقق المقاصد؟ أتتحقق بمجرد استظهارها من بطون الكتب والعلم بها علمًا نظريًّا، أو بأن يقوم المحدثون من العلماء بإعادة إنتاج عبارات القدماء بعبارات جديدة وبليغة؟ أم ترى أنها يمكن أن تتحقق في فضاء التأمل النظري الذي يتيح مجالًا واسعًا للإشادة بالبنيان الأصولي لمكوناتها برسوخه وتماسكه؟ وهل يجني المجتمع ثمرتها إن هي أصبحت محفوظة عن ظهر قلب عند الجماعة العلمائية المعنية بهذا التخصص الدقيق من علوم الشريعة وحسب؟ أم إنها تحتاج لأدوات تنزلها على الواقع المعيش وتحولها إلى قوة فاعلة في حل قضاياه والإجابة على أسئلة النهضة وبلوغ الحياة الطيبة في الدارين؟
هذه التساؤلات وما في حكمها تكاد تكون غائبة عن الدرس المقاصدي المعاصر في أغلب معاهد العلوم الإسلامية وجامعاتها. وعندي أن الإجابة عليها هي النفي القاطع، ودون تردد؛ إذ لا يكفي العلم النظري كي تتحصل منه فوائده العملية، بل لا بد أن يقترن العلم بالعمل، وأن يسبق العملَ الاجتهادُ في تحويل الفكرة أو التشريع، إلى برنامج أو مشروع. ومن أسفٍ أن نظرية مقاصد الشريعة كادت في وضعها المعاصر أن تئول إلى تصور نظري مفارق لملابسات الحياة، وبعيد عن الاجتهادات التي تبذل من أجل وصلها بالواقع وعن قياس أحواله بمعاييرها.
لا يوجد، على سبيل المثال، مقياس مقاصدي لأداء المؤسسات الأهلية أو الحكومية، ولا توجد منهجية واضحة للرقابة عليها بمعايير مقاصد الشريعة. ولم يطور أساتذة الإدارة، أو العلوم السياسية أو الاقتصاد – مثلًا – مقاييس منضبطة في ميدان «صنع القرار واتخاذه»، أو صنع سياسات البنك المركزي في هذا البلد أو ذاك؛ كما لم يطوروا أساليبَ وأدواتٍ عملية انطلاقًا من قاعدة «مقاصد الشريعة» وأصولها التي تتناول ما هو قواسم مشتركة بين بني البشر من حيث: الضروريات والحاجيات والتحسينيات، مع ما هنالك من فروق في كلٍّ منها بين ما هو أصلي وما هو مكمل، وما هو عام وخاص، وشامل وجزئي، وحال ومؤجل في تعريف المصالح والمفاسد، أو في قياس «الأفراح» و«الغموم» وفق اصطلاحات المقاصديين القدماء. والسؤال هنا هو: لماذا تغيب مثل هذه المنهجيات عن علومنا الاجتماعية بمختلف فروعها؟
وقبل الاستطراد في الإجابة على: كيف تتحقق مقاصد الشريعة؟ من المهم الإجابة أولًا على سؤال: أين تتحقق؟ ولدينا ثلاث إجابات محتملة على هذا السؤال الأخير، وهي:
- الأولى هي أن مقاصد الشريعة قد تتحقق في «مجتمع ثيوقراطي»، تحكمه سلطة دينية قادرة على تحقيق تلك المقاصد بوسائل ترغيبية أو ترهيبية.
- الثانية هي أنها قد تتحقق في «مجتمع بدائي»، أو بدوي، تنقله نقلةً نوعية إلى الأمام، ثم لا تكون ثمة حاجة إليها بعد ذلك؛ إذ يتجاوزها الزمن وتصبح عديمة الجدوى.
- الثالثة هي أنها قد تتحقق في «مجتمع مدني»، مثل مجتمع المدينة الذي تشكل بعد هجرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) من مكة إلى يثرب، وبادر إلى تغيير اسمها إلى «المدينة».
الإجابة الأولى لا تقدم تكوينًا اجتماعيًّا وسياسيًّا مناسبًا لتحقيق مقاصد الشريعة؛ ذلك لأن من بديهيات شريعة الإسلام وأولِيَّاتها: نقضَ السلطة الدينية «الثيوقراطية»، وتقويضَ أركانها، وتجفيفَ منابعها، ومن ثَم فإن المجتمع الديني ذي السلطة الدينية (الكهنوتية) لا يصلح لتحقيق مقاصد الشريعة، بل إنه سيكون مقيدًا لها، مانعًا من تحققها.
ومقصودنا بالسلطة الدينية الكهنوتية هنا هو: تلك السلطة التي تدعي أن لها حقًّا صغر أم كبر في التدخل في ضمير الفرد أو الرقابةِ عليه أو معاقبته أو الحكمِ عليه بالكفر أو الإيمان بدعوى أن صاحب هذه السلطة – فردًا كان أو مجموعة أو طائفة أو حزبًا أو فئة – ينطق باسم الله، أو مبعوثٌ أو مفوضٌ من لدنه، أو واسطة بينه وبين الناس. بهذا المعنى جاء الإسلام ليحارب مثل هذا النمط من السلطات ويخلص البشرية من شروره. ويفتح المجال لتكوين مجتمع حر، ويهيئ للأفراد والجماعات الازدهار والنمو في وعيهم وعقولهم، وأنفسهم، وأموالهم، ونسلهم، ويهيئ لهم أيضًا إمكانية التفتح الروحي والإيماني بمحض اختياراتهم الحرة.
وأما الإجابة الثانية فلا تقدم أيضًا تكوينًا اجتماعيًّا أو سياسيًّا ملائمًا لتحقيق مقاصد الشريعة، فالمجتمع البدائي، أو البدوي، من حيث تركيبته الاجتماعية، ومن حيث حاجاته الاقتصادية البسيطة، ومن حيث مستواه الفكري والثقافي يظل أسير عاداته وتقاليده المغلقة؛ على نحو ما أثبتت البحوث والدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجية، ومن ثَم فهو لا يتسع لتلك المقاصد أصلًا، وهي تتجاوزه بمراحل واسعة.
وقد جاء الإسلام بتحرير العقل من كل القيود التي تكبِّله، وبخاصة قيود التقليد، والخرافة، والأمية، والكبر، والجهل، والظلم. ودعا لإطلاق حرية التفكير وإعمال العقل باعتباره النعمة الكبرى التي أنعم الله بها على بني الإنسان، وجعل التفكير فريضة إسلامية، وجعل المقصر فيها كالمقصر في الصلاة والزكاة وسائر فرائض الإسلام. وكان خضوع مثل تلك المجتمعات البدائية أو البدوية للشريعة واقتدائها بمقاصدها، وتخليها عن تقاليدها المغلاقة؛ كل هذا كان عاملًا جوهريًّا في تقدمها ونقلها إلى حالة أكثر تطورًا ضمن “مجتمع مدني” حضاري.
الإجابة الثالثة، إذن، هي وحدها التي تقدم التكوين الاجتماعي والسياسي الأنسب؛ ذلك لأن مقاصد الشريعة الإسلامية لا تتحقق إلا في مجال عام حر ومفتوح، وفيه مصالح متشابكة ومتكاملة؛ أي إنها لا تتحقق إلا في مجتمع مدني: مستقر ومتشابك المصالح ومنظم، وهذه هي الأسباب:
- أن جملة المقاصد الشرعية – كما عرفها مؤسسو نظرية المقاصد – لا يمكن تصورها متحققة خارج نطاق مجموعات من البشر بينهم شبكة كثيفة من التواصل، والمصالح، والعلاقات والتباينات في العقائد والمذاهب والثقافات؛ فإن لم تكن هذه الشبكة موجودة، فسوف توجدها السيرورةُ الاجتماعية للمقاصد وهي تنتقل من حيز التجريد النظري، إلى ميدان التطبيق والممارسة العملية. وهو عين ما حدث في التاريخ الإسلامي؛ بدءًا بعهد النبي (صلى الله عليه وسلم)، وبخاصة مع نشأة مجتمع المدينة المنورة، وكتابة وثيقة المدينة، التي هي أول وثيقة دستورية مكتوبة عرفها التاريخ، وتعرفُها المصادر التراثية باسم «صحيفة المدينة»، وفيها جرى تشريع كيفية تحقيق مقاصد الشريعة في إطار اجتماعي محدد زمانًا ومكانًا وأحوالًا. وقد جرى الاقتداء بهذا النموذج بعد ذلك في تأسيس كثير من المدن والأمصار التي أنشأها المسلمون في مناطق العالم في الأزمنة المبكرة والوسيطة من تاريخ التمدن الإسلامي.
- أن مقاصد الشريعة هي التي وفرت الشرط الضروري واللازم لوجود المجتمع المدني ذاته، وتَمَثَّلَ هذا الشرط في وجود «مجال عام» محدد المعالم، ويمكن تمييزه عن المجال الخاص، ولكنه غير منبتِّ الصلة به. ودون وجود مجال عام فلا وجود لمجتمع مدني أصلًا. ونظرية المقاصد هي التي أوجدت الرابطة بين العام والخاص. هي التي أوضحت، مثلًا، أن من قتل نفسًا واحدة، فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن أحيا نفسًا واحدةً فكأنما أحيا الناس جميعًا، ومن هنا كان «حفظ النفس»، على حد تعبير الفقهاء، أحد الضروريات الخمس التي تحميها مقاصد الشريعة.
- في المجتمع المدني، وبدءًا بالنموذج الذي أسسه الرسول (صلى الله عليه وسلم) في المدينة؛ يمكن الجمع بين مصلحتي الدنيا والآخرة. أما في المجتمع الديني بالمعنى السابق شرحه، فلا مجال لرعاية مصالح الحياة الدنيا لعموم الناس؛ إذ يتجه جهد السلطة الثيوقراطية كله إلى صرفهم نحو الحياة فيما بعد الموت لا قبلها. وفي المجتمع البدائي لا يكاد الوعي ينصرف إلى أكثر من تدبير شئون العيش اليومي، مع بعض التصورات الساذجة عن قوى خارقة، أو آلهة موهومة يجد الإنسان البدائي نفسه مضطرًا للإيمان بها لا لشيء إلا لتأمين حياته الدنيوية حسب اعتقاده.
أما الإسلام، فقد جاءت مبادئه التشريعية ومقاصده العامة تحمل قوة تمدينية هائلة. وعندما وجدت هذه المقاصد/المصالح طريقها إلى التطبيق أدت إلى نشوء مدن ومجتمعات مدنية متطورة، ومستجيبة لما يقتضيه الإسلام من ضرورة «عمران الدنيا»، والتدبر في مصير الآخرة في آن واحد. فلا تناقض بين رعاية الحياة في الإسلام ورعاية أمر الآخرة والله يقول: «وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ». ولم يقل الرسول: «بع ما تملك واتبعني»، ولكنه قال لمن استشاره فيما تصدق به من ماله: «الثلث والثلث كثير».
وسنَّ الرُّخصَ في الصوم والصلاة والزينة والطيبات من الرزق، وأرشد إلى الاقتصاد في الإنفاق، ونهى عن الغلو في الدين، وكل ذلك يؤكد أن التكوين الأنسب لتحقيق مقاصد الشريعة هو «مجتمع مدني»، كالذي وضع نواته الرسول نفسه في المدينة المنورة، وليس مجتمعًا دينيًّا مغلقًا تقبض عليه سلطة دينية مستبدة، كالنموذج الذي عرفته أوروبا في عصورها المظلمة، ولا مجتمعًا بدائيًّا كالذي مرت به البشرية وهي في مراحل تطورها الباكر من تاريخها.
إن وضوحَ المقاصد على المستوى النظري المجرد شرطٌ ضروري لتحقيقها في الواقع الاجتماعي، ولكنه غيرُ كافٍ؛ فلكي تتحقق واقعيًّا لا بد من أن تتحول إلى تشريعات وبرامج. ثم تتحول تلك التشريعات إلى مشروعات تترجم المقاصد في ضوء احتياجات المجتمع المتغيرة من مرحلة إلى أخرى، مع إدراك أن هذا التغير لا يصيب فقط حجم الاحتياجات، وإنما يطرأ أيضًا على نوعياتها. والذي يبتُّ فيما إذا كانت هذه الحاجة أو تلك كلية أو جزئية، عاجلة أو آجلة، تحسينية أو حاجية أو ضرورية هي نتائجُ البحوث والدراسات التي يقوم بها خبراء ومختصون في مختلف نواحي الحياة المدنية، وتعتمد – ضمن ما تعتمد – على الإحصاءات الاجتماعية والحيوية التي تسهم في التشخيص الدقيق لأوضاع المجتمع وكمية المطالب ونوعية الأهداف التي يسعى لتحقيقها.
إن فقهاءنا عندما استنبطوا المقاصد العامة للشريعة إنما استنبطوها من النصوص التي تحمي «حقوق الإنسان الثابتة» التي لا يمكن التنازل عنها، وجاءت هذه الحماية بفرض عقوبات القصاص والحدود على كل اعتداء أو تهديد خطير لها، وقرر أولئك الفقهاء أن أول مقاصد الشريعة هو «حماية حياة الأفراد وسلامة أبدانهم»؛ وذلك بتقرير عقوبة القصاص جزاءً للعدوان على هذه الحقوق الإنسانية الثابتة. ولهذا السبب فإن الحدود والقصاص هي في نظر فقهائنا أقصى ما يمكن تطبيقه من عقوبات جنائية؛ لأنها تحصن الحقوق الأساسية للفرد وللمجتمع. وليس تشديد العقوبة على من ينتهك هذه الحقوق إلا لضمان أمن الأفراد والمجتمعات.
وكان قدماء فقهائنا يرون أن الإنسان السوي لا يقدم على مثل هذه الجرائم إلا إذا وصل به الانحراف إلى درجة خطيرة تستدعي الردع الحازم بتوقيع أقصى العقوبات البدنية، وهي عقوبات الحدود والقصاص، ومع هذا أحاطت الشريعة هذه العقوبات بشروط عديدة تجعل توقيعها غير ممكن إلا في حالات استثنائية محدودة في سياق المجتمع المدني، وهو ما حدث بالفعل في مجتمعاتنا الإسلامية عبر مراحل تطورها التاريخي.
كي تتحقق المقاصد الشرعية في المجتمع المدني لا يكفي أن تكون موجودة في بطون الكتب، ولا يكفي أن تصبح جزءًا من الوعي العلمي (الشرعي) بمعناه النظري، فهذا وحده لا يسمى تجديدًا ولا يخرج عن كونه ترديدًا للقديم بصياغات جديدة، وإنما تتحقق عبر اجتهادات وجهود وتشريعات ومشروعات ومؤسسات وبرامج تنفيذية تشق طريقها وسط الواقع الاجتماعي المعاصر بكل تعقيداته ومعطياته ومصالحه المتشابكة وآفاقه المفتوحة.