المال ليس أكثر من وعد، وعد بـ «الدفع».
الاقتصادي «جوزيف شومبيتر»

لطالما فكر «أسامة» إن كان بإمكانه تدبير مبلغ كافٍ خلال 5 سنوات لشراء شقة من راتبه الذي يحصل عليه من عمله، أعاد أسامة حساباته المرة تلو المرة، ثم قرر رقمًا معينًا يقتطعه من راتبه كل شهر لتحقيق هدفه.

وفي كل مرة يكاد فيها أن يقترب من استكمال ثمن الشقة، يجد نفسه أمام ارتفاع جامح للأسعار، فيضطر حينها لتجديد خططه وتمديد الفترة التي فرضها على نفسه لشراء ما يريد، حتى سئم في النهاية من هذه الحلقة المفرغة، وقرر إيداع أمواله في البنك والاستفادة من معدل الفائدة الكبير، متخليًا عن حلم الشقة.

في الحقيقة، كان هذا قرار الدولة أكثر منه قرار أسامة!


لماذا لا تطبع الدولة الكثير من النقود لدعم مواطنيها؟

طالما بحوزتنا ماكينة لطباعة النقود، فلماذا لا تُغدق الدول الأموال على شعوبها؟

منظومة طباعة النقود لا يمكن أن تتم بلا ضوابط أو آلية تحكم عملها، وأي تساهل في تلك المسألة قد يترتب عليه ما لا يحمد عقباه. فمثلًا، لو تخيلنا أن الدولة في الصباح قررت أن تغدق الأموال على الشعب، فطبعت الكثير من النقود ووزعته في صورة منح على المواطنين.. ما الذي يمكن أن يحدث؟ النتيجة ببساطة ستكون «التضخم». فكلما زادت كمية الأموال في أيدي المواطنين، زاد التنافس بينهم للحصول على السلع والخدمات الموجودة، وبالتبعية ترتفع أسعارها، ومن ثم تزيد الحاجة إلى رفع الرواتب، فتطبع الدولة النقود، فترتفع الأسعار، وهكذا حتى يصل التضخم لأرقام جنونية.

وهو ما حدث بالفعل في فنزويلا،حين قررت ضخ كميات مهولة من الأموال عن طريق صرف معونات ومكافآت وزيادات على رواتب الموظفين في عام 2016. الأمر الذي نتج عنه هبوط حاد في قيمة العملة للدرجة التي جعلت الحكومة تسابق الزمن لطبع المزيد من النقود كي تجاري الأسعار. وهو ما أوقع فنزويلا في أزمات اقتصادية متلاحقة من تراكم الديون وعجز الموازنة، وانخفاض حاد في قيمة العملة الوطنية، إضافة إلى تضخم جامح وركود واسع النطاق.

لذا، فالبنوك المركزية المعاصرة لا تفضل اللجوء لطبع وتوزيع النقود كأداة للتأثير على المعروض من النقود، بل تعتمد على أدوات أخرى أبرزها سعر الفائدة، إضافة إلى بيع وشراء السندات الحكومية، وتنظيم أسعار صرف العملات الأجنبية، وتحديد حجم الاحتياطيات المطلوب من المصارف الاحتفاظ بها.


كيف يؤثر رفع وخفض سعر الفائدة على المواطن؟

يؤثر سعر الفائدة بشكل مباشر وغير مباشر على قراراتنا المالية ونمط استهلاكنا، فالمواطن دومًا أمام الاختيار بين أن ينفق أمواله، أو يستثمرها، أو يودعها أحد البنوك ويستفيد من سعر الفائدة الذي تعلن عنه.

ويقوم البنك المركزي عادة بتحديد الإطار العام لسعر الفائدة على السندات الحكومية وودائع البنوك، وتتبع البنوك المختلفة هذه الإرشادات وتلتزم بها في تعاملاتها مع كل من المودعين والمقترضين.

عند خفض سعر الفائدة

عند انخفاض معدلات الفائدة يميل المواطنون إلى إنفاق أموالهم لشراء السلع كالسيارات والعقارات، أو استثمارها في مشاريع تدر عليهم ربحًا، بدلًا من إيداعها في البنوك والحصول على نسبة الفائدة الصغيرة وغير المغرية.

وفي المقابل يتشجع المستثمرون على الاقتراض من البنوك لتوسعة مشاريعهم وأعمالهم التجارية، نظرًا لانخفاض تكلفة الاقتراض، الأمر الذي يترتب عليه بالمحصلة زيادة إنفاق الأسر وتنشيط الاقتصاد وزيادة فرص الاستثمار.

ومن جهة أخرى فإن لأسعار الفائدة المنخفضة تأثيرًا سلبيًا على برامج التأمين على الحياة صناديق التقاعد والادخار العام.

عند رفع سعر الفائدة

أما إن قرر البنك المركزي رفع سعر الفائدة على الودائع والسندات، فينتج عن ذلك عدة أمور:

أولًا: يهرع المواطنون لإيداع أموالهم بالبنوك للاستفادة من معدل الفائدة العالي، والذي يمثل ربحًا مضمونًا وآمنًا بخلاف الاستثمار في مشروع قد يربح وقد يخسر، كما يفضلون الاستفادة من سعر الفائدة المرتفع الآن، وتأجيل قراراتهم الاستهلاكية، كشراء بيت أو سيارة، لوقت لاحق، فينخفض الاستهلاك.

ثانيًا: تصبح تكلفة الاقتراض عالية، وبالتالي يحجم المستثمرون عن الاقتراض من البنوك لتوسعة مشاريعهم، أو لإنشاء مشاريع جديدة،لكيلا يتكلفوا عبئًا أكبر في السداد في ظل زيادة سعر الفائدة.

كما يميل المستثمرون في الغالب إلى الاستثمار في الأصول الآمنة، المتمثلة في الفوائد المرتفعة على الودائع والشهادات الاستثمارية والسندات الحكومية، أكثر من الميل إلى المخاطرة وعمل مشروعات جديدة في ظل ارتفاع تكاليف الاقتراض والاستثمار، وعزوف الناس عن الاستهلاك.

فينخفض حجم الأعمال الاستثمارية في الدولة، ويقلل الأفراد نفقاتهم الاستهلاكية .

ثالثًا: عادة ما يؤدي رفع سعر الفائدة إلى ارتفاع وتعزيز قيمة العملة الوطنية، لأن الطلب على العملة الوطنية يزيد من قبل كبار المستثمرين حول العالم، الذين يسارعون لشراء السندات الحكومية للاستفادة من سعر الفائدة المرتفع في هذه الدولة، وبالتالى ترتفع قيمة العملة الوطنية مقارنة بغيرها من العملات.


متى تتدخل الدولة لرفع أو خفض سعر الفائدة؟

معدل الفائدة التراكمي

عادة ما يتدخل البنك المركزي للدولة بخفض أو رفع سعر الفائدة، بصورة دقيقة ومحدودة، بهدف تعزيز النمو، والحد من التضخم والبطالة، ودعم العملة الوطنية، مع إعطاء الأولوية للمشاكل الاقتصادية التي تعاني منها الدولة بالفعل.

تعزيز النمو

في حالة الركود، لا يمتلك الناس المال الكافي لشراء السلع المعروضة، أي أن الطلب أقل من العرض، مما يؤدي إلى الكساد، ما يدفع أصحاب الشركات والمصانع إلى تسريح العمال والتوقف عن الاستثمار، وبالتالي ترتفع البطالة.

عندها تميل الحكومات لمواجهة ذلك من خلال «سياسة نقدية توسعية»، تستهدف بها تحفيز النمو الاقتصادي من خلال خفض أسعار الفائدة، الذي بدوره سيشجع المواطنين على سحب أموالهم المودعة لدى البنوك واستثمارها في نشاط اقتصادي مربح، أو استخدامها في شراء السلع والخدمات، فيزداد الطلب.

وبجانب ذلك يسعى المستثمرون لاستغلال سعر الفائدة المنخفض في الاقتراض من البنوك لتوسيع أنشطتهم الزراعية والصناعية والتجارية، وبالتالي يزداد حجم المشاريع الاستثمارية وترتفع نسبة التوظيف.

التحكم في التضخم

في حالات «التضخم» التي يعاني فيها المواطن من ارتفاع أسعار السلع والخدمات بشكل كبير،تميل الدولة للتدخل باتباع «سياسة نقدية انكماشية» الهدف منها تقليل نسبة التضخم، وذلك من خلال تقليل كمية النقود المعروضة في السوق، سواء لدى المستهلكين أو المستثمرين، وبالتالي الحد من تنافسهم على شراء السلع والخدمات، مايؤدي لانخفاض أسعارها للمستويات الطبيعية.

ويتم ذلك عبر رفع سعر الفائدة الذي يشجيع الناس على الادخار وإيداع أموالهم لدى البنوك، ويقلل إقبالهم على الاستهلاك، كما أن المستثمرين، مدفوعين بصعوبة الاقتراض بسبب معدل الفائدة المرتفع، سيعزفون عن إنشاء مشاريع جديدة مفضلين الاستثمار في الشهادات البنكية والسندات الحكومية، فتقل الأموال المتاحة لشراء السلع والخدمات، فيتراجع التنافس، وتنخفض الأسعار.

دعم العملة الوطنية

سعر الفائدة
سعر الفائدة

عندما يكون اقتصاد الدولة هشًّا تتراجع قيمة عملتها الوطنية أمام العملات الأخرى، فتزداد أسعار السلع، خاصة المستوردة منها، وينصرف المستثمرون عنها إلى بلدان أخرى ذات اقتصاد أكثر نموًا واستقرارًا.

عندها تلجأ الدول إلى رفع سعر الفائدة لاجتذاب المستثمرين الأجانب للاستثمار في السندات الحكومية والشهادات البنكية، ومن ثم استخدام هذه الأموال في دعم الاقتصاد الوطني، كما أن المواطنين سيميلون إلى شراء الشهادات البنكية والاستفادة من معدل الفائدة المرتفع بدلًا من شراء الدولار أو العملات الأجنبية.

الأمر الذي يزيد الطلب على العملة المحلية ويعزز من قيمتها.


وفي الختام، وكما أسلفنا سابقًا، فإن معدل سعر الفائدة يعد واحدًا فقط من عدة أدوات نقدية تمتلكها الدولة للتحكم في كمية الأموال التي بحوزة المواطنين والتي تحدد قدرتهم الشرائية، وميلهم للاستهلاك أو الاستثمار، وقرارهم إذا ما كانوا سيشترون شقة أو يودعون أموالهم في البنك، مثل أسامة.

المراجع
  1. كلاوس بيندر، صناع النقود، العالم السري لطباعة أوراق النقود، ترجمة: خالد غريب علي، مؤسسة هنداوي، الطبعة الأولى،2015، ص39