المرجعية الفكرية وأزمة الجيل
في لحظة فارقة من الزمان يعيشها الجيل الحالي – والذي لست بغريبٍ عنه كوني ابن الألفية الجديدة – يبدو لي أننا جميعًا، وبشكل أدق «Generation Z»، نعاني من أزمة الهوية.
لا يخفى على أحد كون أن سنَّة الله في الكون أن جعلنا شعوبًا وقبائل، ولو شاء لخلقنا جميعًا ذوي هوية واحدة ومرجعية واحدة كأسنان المشط، ولكن كانت – ولا زالت – سنَّة الله في الكون أن نكون شعوبًا وقبائل، تتفق وتختلف، وتسعى إلى التلاقي وإيجاد أرضية مشتركة تسمح لجميع الأطراف بالاحتفاظ بهويتها، بما لا يتعارض مع باقي الهويات الأخرى.
المزاحمة الفكرية
في ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وانصهار الهويات من خلال تواصل مئات الآلاف بل الملايين من البشر بمختلف مشاربهم وتحيزاتهم الفكرية، أصبح من العسير العثور على رؤية واضحة للجيل الحالي، يمكن من خلالها فهم نماذجهم التحيزية واتجاهاتهم الفكرية.
ففي الماضي كان معيار القوة هو التقدم والتطور، أمَّا الآن فأصبح الوضع مختلفًا تمامًا، وصار البحث يجري – على وسائل التواصل الاجتماعي – عن أكبر عدد من التفاعلات والإعجابات.
أصبحت الرؤية المعرفية غائبة، وأصبحنا نحاول نيل الانتباه والشعور بالانتماء عن طريق البحث عمَّا ينال إعجاب الناس ومحاولة المزاحمة معهم، أملًا في الحصول على القبول.
فأصبحت الرؤية المعرفية والمرجعية الفكرية غير قائمة على أساس من الدين والعقيدة أو التراث، وإنما أصبحت قائمة على بعض أفكار الأغاني والأفلام والمسلسلات، بالإضافة إلى المنشورات التي تحصل على عدد من المشاركات يتجاوز الآلاف على وسائل التواصل.
لم يعد هنالك واقع أو تراث مشترك يمكن الاستناد إليه، فجميع الأفكار التي تُشكِّل الرؤية الحالية هي بالأساس أفكار حداثة واستهلاكية، مطاطية الطابع، ليس لها أبعاد محددة أو معالم واضحة، فالإنسان الحديث تخطى الاستهلاك المادي حتى وصل إلى الاستهلاك «الفكري»، فلم يعد لدينا حاجة إلى التفكير، كل ما علينا فعله هو البحث عمَّا يتفق عليه الجمهور من أفكار.
ربما تكون تلك الأفكار لا تتفق معنا بالأساس على المستوى الفردي أو الجماعي، ولكن في نهاية الأمر هذا هو ما ينال الإعجاب، ويملك قوة الوصول إلى الجمهور.
الدولة العباسية كنموذج معرفي جماعي
قد يظن البعض أن ما يعاني منه جيلنا ناتج عن الانفتاح الثقافي على ثقافات أخرى، ولكن في حقيقة الأمر لا يخفى على أحد من دارسي التاريخ الإسلامي أنه في عهد الدولة العباسية بلغ الإنتاج الثقافي والانفتاح على الثقافات الأخرى ما جعل علماء المسلمين ينهلون من الثقافات الهندية واليونانية والفارسية، بما يتوافق مع «أسس العقيدة» و«المرجعية الفكرية» للمسلم.
فكانت العقيدة الإسلامية هي النافذة التي تسمح لهم بتجاوز النموذج الفكري الذي ينهلون منه، فيسمح لهم ذلك برؤية النموذج المعرفي الغربي أو الفارسي بصورة شاملة، وبعين النقد والاختبار والقياس على ميزان المرجعية الفكرية الإسلامية.
فسمح لهم ذلك بأن ينهلوا من الفلسفة اليونانية وبعض أفكار أرسطو، والعزوف عن غيرها مما لا يتناسب مع رؤيتهم. فالحكمة ضالة المؤمن، ومتى تعارضت مع مبادئه أصبح من الحكمة عدم الأخذ بها أو التطرق إليها من الأصل، فكانوا يرون العالم من منظور الإسلام كما أصبحنا اليوم نرى العالم من خلال المنظور الغربي فقط.
المرجعية التراحمية
لا يخفى على أحد من قرَّاء الراحل عبد الوهاب المسيري – رحمه الله – اعتزازه بثقافته العربية المصرية الدمنهورية، وأنه كان يرى أن نشأته في مجتمع ذي مرجعية تراحمية ورؤية محددة المعالم فيما يخص العلاقات الإنسانية كانت طوق النجاة أثناء رحلته للدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية.
فقد كانت تلك الرؤية التراحمية هي النافذة التي كان يطل من خلالها الراحل على مختلف ثقافات العالم فيتجاوز نماذجها، بل يقف من خلال تلك النافذة لينتقد باقي الثقافات ويُحللها وينكر عليها الحال الذي وصلت إليه من هدم أواصر الرحمة، حد أن تقوم الابنة بدفع الأموال لأمها جزاء رعايتها لحفيدتها الرضيعة.
وكان المسيري يرى أنه هناك خلف نموذج «الحلم الأمريكي» تقبع منظومة ركيكة على الجانب الإنساني، تقوم على مبادئ الداروينية، والتي يسود خلالها القوي، ولا مكان للتراحم أو الشفقة على الضعيف، إلا من باب احتقاره.
فعند المقارنة بين رؤية المفكرين الإسلاميين الراحلين، كـ «مالك بن نبي» و«علي عزت بيجوفيتش» وغيرهما من أصحاب الرؤية والمرجعية الفكرية الواضحة، نرى أنه كانت لهم أرضية راسخة ومبادئ لا تقل رسوخًا عن تلك الأرضية، تسمح لهم بالتجاوز والتحليل وعدم الانصياع لآراء وأفكار أصحاب القوة، لمجرد امتلاكهم لأدوات القوة.
تأثير الجماعة والمجموعات
يبدو الطابع الفكري الحالي أشبه بحال قطيع الأغنام في رواية «مزرعة الحيوان»، فصوت الجماعة دائمًا على حق، ودائمًا ما يكسب حتى إن كان مخطئًا. وهو ما يُعرف في علم النفس باسم «تأثير الجماعة والمجموعات».
ففي كتاب «سيكولوجية الفضول: بين العلم والخرافة» يقول «أدريان فورنهام»:
فالأمة في نهاية الأمر هي عبارة عن أفراد، تمامًا كما يتكون النسيج من عدة خلايا مترابطة، فإذا فَقَدَ الفرد المرجعية التي تجعله قادرًا على تجاوز النماذج المختلفة ونقدها، تمامًا كما فعلت الحضارة العباسية على المستوى الجماعي أو الراحل عبد الوهاب المسيري على المستوى الفردي، فلا مستقبل لمن لا ماضي له،
وإذا عجز الفرد عن تحديد هويته ومبادئه وأفكاره التي سيُكمِل بها حياته وسيُربي بها أبناءه ويُنشِئ من خلالها أجيالًا تحمل راية الأمة العربية وتُكمِل المسيرة، فإن مصير تلك الأمة هو الهلاك تحت أقدام الحداثة والاستهلاكية الفكرية.
الأمل الأخير
يبدو الأمل الأخير في الخروج من تلك الأزمة هو محاولة إمداد الأجيال الحالية بالمرجعية الفكرية التي تسلَّح بها أجدادنا الراحلون من المفكرين والأدباء، وإذا لم تعد التربة الفكرية خصبة بما فيه الكفاية، فربما نحاول مع الجيل القادم.
ففي نهاية الأمر لا بد من نافذة فكرية تسمح لنا بتجاوز النموذج الغربي المهيمن، ومحاولة تعليم الأجيال القادمة أن الاختلاف هو سنَّة كونية سنَّها الله منذ بدء الخليقة، وأن اختلافنا رحمة وتكامل في طبيعة النفس البشرية، فالشحنات المتشابهة فقط تتنافر والمختلفة تتجاذب. ولن يُطوِّر أحدهم نظرية النسبية إذا سعى فقط إلى أن يتشبَّه بـ «ألبرت أينشتاين» في المظهر.