الفطرة: خرائط المفهوم وبناء المستقبل
إن المتتبع لمدلولات هذا الجذر الثلاثي «ف ط ر» يلحظ بوضوح أثر التطور الدلالي الذي طرأ على أصل مدلوله، ومدى تأثره بالمعاني المستمدة من نصوص الشرع ثم التراث الإسلامي.
فالفَطْر: بالفتح، الشّقُّ، وقد قيده بعض اللغويين بالشق الأول، ومنه قوله تعالى: «هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ» [سورة الملك: 3]، وقوله: «إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ» [سورة الانفطار:1] أي انشقت، والفِطرة: الابتداء والاختراع والخلْق، ففطر الله الخلْق: خلقهم وبدأهم.
وقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء، ثم يقول أبو هريرة واقرأوا إن شئتم فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله…الآية» [صحيح مسلم].
وابتداء الخلق في التصور الإسلامي مقترن بنهاية الإنسان ومآله، فالجمع بين البدء والرُجعى يتجلى في قوله: «وَمَا لِيَ لَا أَعْبُد الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» [يس 22].
كما نجد أن الفطرة تقترن في التصور الإسلامي بالوحدانية والدين، فالتوحيد فطرة، والشهادة الأولى التي أخذها الله من ذرية بني آدم مغروسة فيها، لكن الوعي بها يتأثر بالبيئة والتنشئة والمجتمع، وهنا تصبح الفطرة قرينة التصور الإسلامي لـ«الـبراءة الأولى»، للنفس عند الميلاد في مقابل فكرة «الخطيئة الأولى» في الخطاب المسيحي تاريخيًا.
«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ» [الروم: 21].
كما تلفتنا الآيات القرآنية لاقتران الفطرة الإنسانية بخلق السماوات والأرض، فالله هو الفاطر وسنن الأنفس والآفاق تتقاطع: «إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ» [الأنعام: 7].
«فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» [الأنعام: 14].
وتبدو الفطرة التي فطر الله الناس عليها مصدرًا للهداية وبوصلة للحق أودعها الله في قلوب العباد: «إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ» [الزخرف: 25].
«قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ» [الأنبياء: 17].
بل تبدو مستعصية – حين يكون الإيمان هو النور الذي يحمل الإنسان في مسيرة الحياة – على أن تتقبل البغي أو ترضى بالطغيان، فنتأمل قوله تعالى: «قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا» [طه: 16].
«يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ» [هود: 51].
«فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» [الإسراء: 51].
والنظر في الفطرة جامع ومانع، جامع للذكر والأنثى، لكنه يميزهما عن الجان والملائكة، «فطر الناس عليها».
والفطرة مكون من رباعية مفاهيمية للأمانة والخلافة الإنسانية التي يحاسب الله عنها العباد يوم القيامة، والتي يكشفها النظر في كتاب الله تلك الرباعية هي: الفطرة، والعقل، والوحي، ثم السنن التي يدركها الإنسان بالسير والنظر.
وبناءً على ذلك فإن الفكر الإسلامي يحتاج لإعادة النظر في مفهوم «سنن الفطرة» الذي اقتصر على ما يتعلق بالجسد من عناية وحق للبدن، ليخرج بفهم الفطرة لأفق فهم آيات النفس الإنسانية في تفردها، وفي اجتماعها وعمرانها. وهنا يلعب القصص القرآني دورًا مهمًا، ويصبح البحث في مفردات: الإنسان، الأمة، القوم، المدينة، بني آدم، الناس، البشرية وما يتعلق بها من خصائص يتناولها القرآن، شديد الصلة بالبحث في الفطرة.
ويتقاطع هذا البحث في الفطرة مع جدل عريض احتل مساحة معتبرة في الفكر الإنساني عبر تاريخ الفلسفة عن كُنه الطبيعة البشرية، وما ارتبط بذلك من بحث في نظريات الدولة والسلطة والقوة وطبيعة المجتمع، فمن ذهب إلى أن الطبيعة البشرية تقوم على الصلاح والخيرية قدم نظريات للمجتمع تقوم على إطلاق حركته وتأكيد دوره وفاعليته في مقابل تصور لسلطة محدودة الحجم والأدوار، أما من ذهب لأن نوازع الشر هي الغالبة فقد منح سلطة أكبر للحكومة في مواجهة الفرد والمجتمع، واعتبر الدولة هي التي تحفظ المصالح والمقاصد.
ونجد ذلك في الفكر اليوناني في اعتبار المدينة شرط اكتمال الإنسانية، فالفطرة الفردية لا تقيم حضارة ولا تحفظ إنسانية، في حين جادل «ابن طفيل» ومن بعده «ابن سينا» في أولية الفردية في نقاشهم حول نموذج الإنسان المنفرد في نَص «حي بن يقظان». هذا الجدل نفسه هو ما صاغ نظريات الخلافة والعمران في التاريخ الفكري، فمن رأَى الوازع السلطاني هو ضمان تطبيق الشرع توسع في سلطان الحاكم وتحفظ على الخروج عليه، ومن وجد أن الأمة هي الحافظة والوازع الديني هو الأسبق (ومنهم المعتزلة) قدم من الأفكار ما يقدم الجماعة على السلطان، وهكذا.
ويبدو مفهوم الفطرة أيضًا متقاطعًا مع مفهوم الإنسانية والبشرية الأوسع، وجُل النظريات التي تحدثت عن القانون الطبيعي والمواطنة العالمية من المدرسة الرواقية التي بزغت بعد سقوط دولة أثينا، مرورًا بفكر «الفارابي» عن المعمورة الفاضلة وصولاً لأفكار الكوزموبوليتانية والعولمة الحديثة تدور حول مشترك إنساني، ومفهوم الفطرة هنا يسهم في هذا النقاش باعتبار مصدره الديني واستصحابه معاني ومعالم التوحيد، والاشتراك في البشرية.
وإن شئنا العودة إلى «ابن خلدون» مرة أخرى في مقولته العميقة:
فإننا سنحتاج مفهوم الفطرة في الكشف عما يصيب النفس الإنسانية في حال التأنس والتوحش، وكيف يمكن استنقاذ الفطرة حين يسود التوحش كي يمكن رد الإنسان الفرد والجماعة إلى التأنس مرة أخرى. والسبيل لإحياء الفطرة السوية لتعلو فوق النزعات اللاإنسانية في وقت النزاعات، وإدراك أن قواعد الشرع المنظمة للعلاقات غايتها ليس فقط حفظ المقاصد الكلية بل كذلك حفظ الفطرة الإنسانية من السقوط وقت الحروب والتنازع، وبذلك يدخل المفهوم في فهم فقه الجهاد وأخلاقياته وفي فهم مقومات وأصول الدعوة لهذا الدين.
لقد كتبت الدكتورة «عائشة عبد الرحمن» نصًا فريدًا بعنوان: «مقال عن الإنسان»، وكثر حديث الشيخ «محمد الغزالي» في خطبه وكتاباته عن «الرهان على الفطرة». ونجد الكثير من ذلك مبثوثًا في دستور الأخلاق لدى المسلمين في كتابات «عبد الله دراز» ثم في كتابات «فريد الأنصاري»، لكن تحرير تلك الرؤية من الكتابات التي تحمل اسمها ليتحول لمفهوم نظري وتوليدي فاعل في شتى القضايا المطروحة اليوم على العقل المسلم، سيكون نقلة نوعية ليس فقط في تحليل مشكلاتنا الراهنة، بل في إعادة قراءة الفقه عبر وعي الفقهاء بهذا المفهوم في مساراتهم الاجتهادية، وموازين المصالح والمفاسد.
لقد آن الأوان لمفهوم الفطرة – ذلك المفهوم الذي يربط شهادة الأزل بمسار التوحيد والهداية والرشد في هذه الدنيا ويؤسس لمعايير المحاسبة في الآخرة – أن يغدو المفهوم القاطرة للفكر الإسلامي ومساهماته في الجدل الراهن بشأن قضايا الإنسان، كما يمكن أن يكون القاعدة الصلبة للمشروع الإسلامي والدعوة الإسلامية في مرحلة التجديد الراهنة نحو أفق مستقبلي للإسلام ورسالته كرحمة للعالمين.
نُشر المقال في أبريل/ نيسان من عام 2014.