من وحي «معركة اليونسكو»: كوارث الثقافة في مصر
رغم أُميته، يعتبره أهل الحي مثقفاً؛ لأنه يبيع الجرائد منذ أكثر من 30 عاماً، وهذا ما دفعني للتحاور معه:
ودفعتني براءة حديثه إلى البحث عن إجابة لسؤاله الفطري: «هو إحنا بتوع يونسكو؟»
ثقافة «وزارة الثقافة»
على الموقع الرسمي لوزارة الثقافة تجد كلاماً مُرسلاً عن رؤية شاملة للكيان الثقافي، وسياسات، وخطط تنفيذية، لكن ما يحدث على أرض الواقع يؤكد أن هذا الكلام المتماهي وغير المرتبط بخطط زمنية أو آليات تنفيذية أو نتيجة على أرض الواقع، هو حال الثقافة النابع من عقلية من يديرونها. تلك العقلية التي تتضح من الصيغة الإنشائية ل مواد الدستور الخاصة بالثقافة:
وكل ذلك دون تحديد أو واقع ملموس يطبق مواد الدستور الإنشائية.
وعلى نفس الموقع تصدمك كلمة وزير الثقافة، والتي تعد مؤشراً على العقلية التي تحكم الثقافة في مصر؛ ذلك لأنها تمدح المستشار عدلي منصور، الرئيس السابق، دون أي علاقة بين الكلمة والواقع الثقافي أو التوجه الرسمي، إلا إذا كانا قائمين على ثقافة التمجيد والتفخيم، والتي تحفل بها الكلمة المُفتتحة بـ «نحنُ في حضرةِ سيادة الرئيس الذي هو فخرٌ لكل المصريين»، ولا توجد علاقة بين الثقافة ومدح الرؤساء سوى النفاق والتملق.
وفي كلمة السيد الوزير لا تجد علاقة بين المستشار عدلي منصور والثقافة إلا أنه «افتتح الدورة 45 لمعرض القاهرة الدولي للكتاب… كما أعاد الاهتمام بعيد الفن وأقام الاحتفال بدار الأوبرا»، وتضيف الكلمة أنه «عمل على ربط أواصر المجتمع التي تفككت أثناء حكم الإخوان»، ولا يخفى ما في ذلك من تحيز وتقسيم مجتمعي يعمل على هدم ثقافة التنوع والاختلاف، ويزرع ثقافة التحزب والتخوين. ولم ينس الوزير مدح الرئيس الحالي الذي وصفه بـ «المرشح المواطن المصري والقائد عبد الفتاح السيسي».
الواقع الثقافي المُخزي
لا تجد تصريحاً رسمياً يُحدد بدقة حجم الإنفاق على الثقافة سوى تصريح رئيس اتحاد الكتاب، حين قال إن «حجم الانفاق الثقافي لا يتجاوز 0.2% من الدخل»، وهو ما ينم عن تدني مستوى الإنفاق على الثقافة في مخططات الدولة. أما «قصور الثقافة»، فقد تحولت إلى مبانٍ إدارية تفتقر إلى الكفاءات، وتكتظ بآلاف الموظفين وعشرات الإدارات، وفقدت دورها في نشر الوعي الثقافي، وتُهدر أغلب ميزانيتها على أجور العاملين، وبالتالي أصبح نشاطها بمثابة «سد خانة» في دفاتر حكومية.
هذا فضلاً عن منع كُتّاب، ووقف طباعة جرائد، واعتقالات لمثقفين، ومصادرة أعمال أدبية وفكرية، وإلغاء ندوات، وإغلاق مكتبات، فقد اقتحمت قوة أمنية مكتبة «البلد» بوسط القاهرة، وقبل ذلك قام الأمن ب إغلاق مكتبات «الكرامة» التي أسسها الناشط الحقوقي جمال عيد، بالإضافة إلى حظر مقالاته وأنشطته.
التعليم: مصر في ذيل القائمة
تعليمياً، لا يمكن أن ننسى التصريح الشهير للسيسي: «يعمل ايه التعليم في وطن ضايع»، وليس بعيداً عن الذاكرة واقعة المستشار حسن فريد – أثناء إصداره حكماً بالإعدام على 28 شخصاً في قضية اغتيال النائب العام – الذي لم يستطع التحدث بلغة عربية سليمة لبضع دقائق، وهو ما يشير إلى الخلفية اللغوية الضعيفة لقطاع من المسئولين تجاه اللغة الرسمية للدولة التي تمثل هويتها وثقافتها.
وفيما يخص الإنفاق على التعليم فقد صرح الوزير بأن «الميزانية 80 مليار جنيه منهم 68 مليار أجور»، بنسبة 85%، بمعنى أن 15% فقط هو حجم الإنفاق على العملية التعليمية بكل مراحلها ومتطلباتها، وهو ما جعل مصر تحتل المركز 141 من إجمالي 140 دولة (أي خارج التصنيف) في مؤشر جودة التعليم 2014. واحتلت المركز قبل الأخير عام 2015، وفي العام التالي ارتقت إلى المركز 135. وفي 2017، احتلت المركز 100 عالمياً، من بين 137 دولة.
فيما تشير تقارير اليونسكو عن التعليم في العالم العربي إلى تدني جودة التعليم في مصر، والذي تأكد واقعياً عام 2015 عندما أعلنت الوزارة عن حصول أكثر من 30% من طلاب الابتدائية على «صفر» في امتحان الإملاء، ولا تزال النسب مخزية فيما يتعلق بضعف مهارات القراءة والكتابة لدى مراحل التعليم المختلفة.
إهمال التراث: عرض مستمر
فيما يخص التراث الثقافي والحضاري، فالمتحف المصري الكبير يُعد واحداً من أكبر المشروعات التراثية المُصابة بداء الإهمال الرسمي، حيث بدأ العمل بالمتحف عام 2003، وتم افتتاح مركز الترميم عام 2010، ثم توقف البناء في 2011 بسبب ثورة يناير، ثم استؤنف العمل في 2012، ودعمته الهيئة الهندسية للقوات المسلحة في 2016، ويُرجح أن يُجرى افتتاحاً «جزئيا» للمتحف أواخر 2017، مما قد يُفقده قيمته الأصلية كأكبر متحف مفتوح في العالم.
بدأت تكلفة المتحف بـ 550 مليون جنيه، لتصل مع تعطل العمل وتوقفه لأكثر من مليار جنيه، فأطلقت وزارة الآثار حملات لجمع التبرعات وطالبت بقروض إضافية من مؤسسات دولية، وهو ما دعا الوزارة إلى إيقاف المُؤقِت الإلكتروني بأرض المشروع، الذي يحسب تنازلياً موعد افتتاح المتحف، والذي كان من المفترض أن يتم في 2015، ثم تأجل إلى 2022، بالرغم من أن التعاقد كان يشترط الانتهاء من المشروع في 2012، وقد صرّح المشرف العام على المتحف بأن ما تم إنجازه حتى أغسطس/آب 2014 لا يتعدى 25% من إجمالي الإنشاءات.
تدمير المتاحف
حادثة حريق المجمع العلمي أثناء ثورة يناير 2011 لم تغب عن البال، حيث تباكت الدولة على التراث المحروق دون أن تقوم بجهود لتعويضه، فقد قضى الحريق على الخرائط والوثائق النادرة، ومنها مذكرات ليوناردو دافنشي، وموسوعة الدستور الفرنسي الأصلى، وموسوعة وصف مصر.
ومن المفارقات أن المجمع يتبع وزارة التضامن الاجتماعي ولا يتبع وزارة الثقافة أو الآثار، وهو ما يشير إلى التعامل الحكومي مع التراث باعتباره مجرد «تستيف ورق»، كما أن المجمع «ليس له مصدر تمويل ولا ميزانية ثابتة، وتسهم وزارة الثقافة سنوياً بنحو 50 ألف جنيه، ووزارة البحث العلمي بنحو 20 ألف جنيه» طبقا ل تصريح رئيس المجمع.
وهناك حادثة تدمير المتحف الإسلامي نتيجة تفجير مديرية أمن القاهرة في يناير/كانون الثاني 2014، والذي أعلنت وزارة الآثار في أغسطس/آب 2014 (أي بعدها بـ 7 أشهر) أن «العمل سيبدأ به بعد ما أبدت دولة الإمارات استعدادها لتمويل إعادة بنائه»، وتم إعادة افتتاحه بعدها بثلاث سنوات، في 2017.
سرقات الآثار
بعد أيام من تولي السيسي رئاسة مجلس أمناء المتحف المصري الكبير، أوصت لجنة شكّلتها وزارة الآثار بعدم تركيب كاميرات داخل المخازن الأثرية، وأن يتم الاكتفاء بمراقبة المداخل والأبواب فقط، رغم أن القطع الموجودة بالمخازن غير مسجلة، مما يعني أنه في حالة سرقتها لن تستطيع الدولة إثبات ذلك.
وقد بررت اللجنة ذلك بكونه حفاظاً على سرية محتويات القاعات، خاصة أن المراقبين ليسوا أصحاب العهد الأثرية. ومن المفارقات أن الكاميرات كانت تُوضع على الأسوار الخارجية فقط طوال السنوات الماضية، وفي ذلك دلالة على تيسير عمليات السرقة في الماضي.
وفيما يخص سرقات الآثار وبيعها فالقائمة تطول وتطول، فقد رصدت وزارة الآثار 800 قطعة أثرية على موقع ebay للمزادات عام 2013، وفي نفس العام تمت أكبر عملية سطو في تاريخ المتاحف، فقد سُرقت 1050 قطعة أثرية من متحف ملوي بالمنيا، حيث تواصل النهب أسبوعاً كاملاً، رغم أنه يقع بجوار مجمع شرطة ملوي.
وفي عام 2014، اتُهم مسئولون بالمتحف الإسلامي بسرقة قطع أثرية منه بعد وقوع الانفجار. وفي 2015، تم بيع تمثال «سخم كا»، بمبلغ 15.76 مليون جنيه استرليني بإحدى صالات المزادات في لندن. وفي 2016، أُعلن عن بيع قطع من حجارة الأهرامات كتذكار للسائحين.
وفي 2017 اختفت 6 مشكاوات أثرية نادرة من مسجد الرفاعي بالقلعة، وفي نفس العام تم تداول أنباء حول سرقة أكثر من 32 ألف قطعة أثرية، فنفت وزارة الآثار ذلك، مشيرة إلى أن الآثار لم تُفقد من المخازن؛ «لأنها لم تدخل المخازن أصلاً»، وإنما كان الرقم هو حصر بالقطع المفقودة حتى يمكن تتبعها، بما يعني أن الوزارة لم تراعِ الدقة في رصد وتتبع الآثار المفقودة.
وبعيداً عن صحة ودقة الرقم فإن المتاحف العالمية تزخر بآلاف القطع الأثرية المصرية، كما أن تقارير الوزارة تشير إلى عدم جرد المخازن منذ 10 سنوات، وتعترف في نفس الوقت بعدم فقدان هذه الآثار.
فرعون المطرية
في مارس/آذار 2017، عثرت بعثة أثرية بالمطرية على تمثال الملك «بسماتيك الأول»، وقد أثارت طريقة انتشاله جدلاً كبيراً، بسبب استخدام الجرافات، فكان الرد الرسمي أن «انتشال التمثال تم وفق القواعد العلمية السليمة، وأن الجرافة لم تتسبب في كسره»، وفي الوقت نفسه نُقل التمثال إلى المتحف المصري بالتحرير، ولم يلق العناية اللازمة، فقد عُرض بحديقة المتحف على لوح خشبى، عُرضة للشمس والأتربة، وأسفله قطعة القماش التى كانت تغطيه منذ اكتشافه.
وقد أحالت النيابة الإدارية 4 مسئولين بوزارة الآثار إلى المحاكمة، بتهمة الإهمال، مؤكدة أن استخراج التمثال تم دون اتباع الأسس العلمية والتقنية، حيث استخدمت رافعة بدائية، كما تُرك التمثال عقب استخراجه دون حراسة.
وتكمن الكارثة الكبرى في أن مصر لا تمتلك حصراً فعلياً لعدد القطع الأثرية بالمخازن، هذا بخلاف الروتين، وطرق الجرد غير العلمية التي تسهل عملية تقليد الآثار، واستبدال المُقلَد بالأصلي، وهو ما يتم عن طريق تعطيل الكاميرات، أو بواسطة أحد أفراد المخازن؛ لأنه لا يمكن إخراج أو إدخال القطع الأثرية إلا من جانب مسئولي المخازن.
منذ حوالي 80 عاماً تحدث طه حسين في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر»، وقال:
فما أشبه الليلة بالبارحة، فقد أضاعت مصر ثقافتها وحريتها واستقلالها. وبناءً على ما رصدناه من تدهور ثقافي وتراثي وتعليمي، وسوء تعامل مع التراث، فإن ذلك يدفعنا إلى التساؤل: ما الذي كانت ستقدمه مصر لهذه المنظمة العريقة ومسئولياتها الدولية؟ العقل يقول إن فاقد الشيء لا يعطيه، فمالنا واليونسكو!