من الجاهلية للإسلام: الميراث والتعدد كآليات هندسة اجتماعية
عندما يدعو الرئيس التونسي للمساواة في الميراث بين المرأة والرجل لا يسلط الضوء فقط على مسألة الوضع الاجتماعي للمرأة، إنما يتجاوزه لتنقيب عن دور الميراث كآلية استخدمها الإسلام في هندسة اجتماعية لتشكيل المؤسسات أو اللبنات الأساسية للمجتمع وتصريف طاقات الأفراد السلبية والإيجابية نحو بناء جسد الأمة.هذه المقاربة لفهم الميراث أشارت إليها الباحثة المغربية والناشطة النسوية «فاطمة المرنيسي» في كتابها المهم «ما وراء الحجاب: الجنس كهندسة اجتماعية». ترى الباحثة أن قضايا الجنس والمرأة والميراث لا تخرج عن كونها أدوات أو آليات في هذه الهندسة لإعادة رسم المجتمع العربي الجاهلي وتحويله إلى قوة حضارية إسلامية استطاعت بفضل عبقرية هذه الهندسة احتلال مكانة الإمبراطوريات القديمة في فارس وبيزنطة في وقت قياسي.لا تنبني آليات الهندسة الاجتماعية في الإسلام وعلاقات الرجل والمرأة على مثل هذه الفروض المجردة؛ بل على أوضاع اجتماعية واقتصادية وسياسية قائمة بالفعل. من هذا المنطلق ترى الباحثة أن الكشف عن هذه الآليات في النظام الإسلامي لا يجب أن يتم عبر دراسة ما قرره الإسلام بل عن ما منعه أو أبقاه. لذا تلجأ إلى مقارنة أخرى بين النظام الاجتماعي في عصر فجر الإسلام أو الجاهلية والعصر الإسلامي.
بين المجتمع الأمومي والمجتمع الأبوي
تلجأ الباحثة إلى التقسيم الذي طرحه لويس مورجان في كتابيه «المجتمع القديم» و«حق الأم» وهو تقسيم المجتمعات إلى مجتمعات أمومية وأبوية. بحسب مورغان فإن المجتمعات البدائية القائمة على العشائرية ساد فيها حق الأم القائم على نوع من تعددية الأزواج لدى المرأة. يرجع مورغان أسباب هذه الممارسة إلى الفرق الديمغرافي بين أعداد الرجال مقابل النساء والتي كانت ممارسة وأد البنات واختطاف النساء من قبل القبائل الأخرى من أسبابها. في ظل هذا المجتمع الأمومي كان للمرأة حق تحديد نسب أبنائها تلحقه بأي رجال عشيرتها شاءت وكان لها حق تقرير ممارساتها الجنسية. لم يكن حال الجزيرة العربية مختلفاً عن هذا النمط بحسب الباحثة التي استدلّت بحديث البخاري الذي رواه عن «أم المؤمنين عائشة» في أنواع النكاح:
تورد الباحثة في كتابها في هذا الشأن ملاحظة «روبرت سميث» في كتابه «القرابة والزواج في فجر الإسلام» أن القرنين السادس والسابع الميلاديين كانا مرحلة انتقالية شهدا نوعين من النكاح هما زواج الصديقة بتعبير المفضل الضبي في الأمثال وزواج البعل وظل هذان النظامان متواجدين حتى بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم.مثل هذا الازدواج فرقاً أساسياً في وضعية المرأة في بنية العلاقات الاجتماعية بشكل عام. في زواج الصديقة ليس هناك أي اعتبار للأبوة البيولوجية وليس للأب حق على أبنائه وتقيم المرأة مع عشيرتها ولا تبارحها إلى أرض زوجها، وتتمتع بحريتها الجنسية وتوفر لها القبيلة الحماية والغذاء. بينما في زواج البعل يكون الأب البيولوجي للطفل هو أبوه الاجتماعي ويكون ملزماً بتوفير الحماية والغذاء لزوجته بينما يحرمها من حريتها الجنسية فتصبح مقتصرة عليه وحده. اختلف نظام الميراث إذاً تبعاً لهذه الازدواجية ففي زواج الصديقة يرث أبناء الأخت مال الرجل ما لم يكن له أبناء بينما في زواج البعل يرث الأبناء أباهم مباشرة.
الزواج كآلية للتفكيك وإعادة البناء
غير أن «مونتجمري وات» أشار إلى نقطة مهمة عزا إليها نجاح الإسلام في فرض بناه الاجتماعية ومؤسساته الجديدة في الزواج والميراث؛ وهي أنه في ظل تصاعد التجارة والمراكز التجارية الجديدة في القرن السادس والسابع وخصوصاً مكة، شهد النظام القبلي والعشائري تخلخلاً لصالح هذه المراكز الجديدة. وبدأت قنوات الضمان والحماية التي مثلتها التقاليد القبلية في التفكك مقابل المصالح الفردية التي مثلتها المراكز التجارية الجديدة وكانت أكثر الفئات تضرراً من هذا الوضع هم النساء والأطفال. مثل التشريع الإسلامي استجابة لهذه التحديات التي يفرضها الوضع القبلي المتفكك وسعى لإنشاء وحدات تضامنية جديدة للمجتمع تمكنها من رعاية النساء والأرامل والمطلقات والأطفال ضمن منظومة الأسرة الأبوية التي يكون الأب فيها مسؤولاً عن مسؤوليات الرعاية والحماية والتنشئة. وسعى لتوسيع هذه الشبكات الأسروية الجديدة عبر شرعنة تعدد الزوجات وتقنينه وفرض قواعد وقوانين جديدة للإرث لضمان توزيع الثروة، ليس ضمن البنية القبلية القديمة المتفككة إنما ضمن الوحدات الأسرية التي لا يعلوها سوى الانتماء للأمة. وبهذا يكون الإسلام قد حقق نقلة هائلة في التسريع في تفكيك البنى القديمة وتأسيس أخرى جديدة أكثر كونية وأكثر قدرة على التوسع خارج النطاق الجغرافي الضيق للجزيرة العربية. أو بتعبير «مارشال هودجسون» في كتابه «مغامرة الإسلام» فقد أصبح الإسلام أكثر قدرة على استثمار العوامل الحضارية الكامنة في حوض المتوسط وتوسيع حضارته وثقافته بسرعة قياسية. تخلص فاطمة المرنيسي أخيراً في هذا الجزء من كتابها إلى أن الإسلام تمكن من خلال تصريف الشهوات الإنسانية وهي العنف من خلال مؤسسة الجهاد وتشريعاتها نحو غاية إيجابية وهي نشر الدين ونصرة الأمة والدفاع عنها، بينما تمكن من تصريف شهوة الجنس لتكون طاقة بناءة داخل الأمة من خلال بنية الأسرة وقوانينها المتعلقة بالطلاق والتعدد ونظام المواريث الجديد وعبر تقييد الحرية الجنسية للمرأة وقدرتها على تقرير مصيرها لتكون نواة هذا النظام الجديد وجوهره. إلا أن المرنيسي ومن خلال تشعبها في سير الأجيال الأولى من الإسلام ترى أن هذه الحرية لم تكن مقيدة بالقدر الذي يشاع له الآن، وكان للمرأة وبالذات إن كانت ذات حسب ونسب القدرة على اختيار مصيرها الجنسي داخل الأسرة أو تطليق نفسها في حالة تزوج زوجها عليها أو تسري كما في حالة الزواج القيراوني. إلا أنه وبتعبير «محمد أركون» لم تكتمل سيرورة القدسية التي سعت السلطات والمؤسسات السياسة لفرضها على هذه البنى الاجتماعية إلا بحلول القرن الثالث عشر؛ مما أدى إلى تصلبها و نزع أي إمكانات أو نزعات للأنسنة والاجتهاد أو حتى المرونة التي كانت تتيحها قرون الإسلام الأولى.